تأملات

الموسيقى باب من أبواب الجنّة
إعداد: الدكتور جورج شبلي

عندما أخذ القلق ببال الإنسان، ولا سيّما في القضايا التي طغت عليها التفسيرات الأسطورية وفي طليعتها الموت، هرع إلى البحث عن إكسير الحياة أو النبتة التي تَهب البقاء والخلود. وتشاء الصّدف أن يهتدي إلى الموسيقى، وهي عالَم نورانيّ شفّاف استطاع أن يحوّل الحياة من مكان حزين فاسِد الهواء مُملٍ عَتمه، إلى صرح يطيب المقام فيه، ويسجّل كيفية تطوّر الفكر وما بلغه من رقيّ.

 

الموسيقى والحضارة
لا شكّ في أنّ مصير الموسيقى العربية كان، وعلى الدّوام، مرتبطًا بمسيرة الحضارة في بلاد العرب. فقد ازدهرت الموسيقى خلال عصور العظمة التي بلغتها الثقافة العربية، وتبعتها كذلك في فترات الرّكود والانحطاط والكسوف، فضعف فنّ الغناء والتأليف الموسيقي، حتى أنّ صاحب «الأغاني» أبا فرج الأصفهاني، تحسّر في هذه الفترة على ضياع الكثير من الطّرق الموسيقية القديمة. وقد قيل في هذا الصَّدد إنّ الثّعبان نفسه أدركته الشّفقة ورقّ قلبه على ما ضاع، فدمعت عيناه من الحزن.
لكنّ ذلك لا يعني أنّ الموسيقى العربية اندثرت بكلّ أشكالها. فقد رُدَّت إليها الحياة في عصور الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأجناس البشرية، وتأثّرت بالموجات الفنية التي ساهمت في تطوير مراكز الحضارة، ولا سيّما في العصر العبّاسي. فالصِّيَغ والأشكال الموسيقية المُتقَنة، والمتوشّحة بإزار من الجدّة، كانت ثمرة أعمال اشتركت فيها مواهب الكثير من الفنّانين والمنظِّرين الموسيقيّين من عرب وفرس وأتراك وغيرهم. نظرية السُلَّم الموسيقي أُخِذَت عن اليونانيّين، وضبط المقامات عن الفرس، وقد احتفظ العرب بأسماء بعضها حتى اليوم، مثل الرَّست والنهاوند والجهاركاه وغيرها. في حين احتفظت مصطلحات الإيقاع بأسمائها العربية كالخفيف والرَّمَل والبسيط وغير ذلك. ولم يسمح اسحق الموصلي بمَسّ هذه الإيقاعات التي تُستَعمل كدعامة للنَّغم كما يدعم بحر الشّعر الكلام.

في الحضارة العربية لا يمكن إغفال دور الموسيقى في دَفع الفنّ إلى مصاف الغِنى. فالفنّ بين جيرانه– العناصر الحضارية– محظوظ بالموسيقى التي تمثّل بزوغ الرقيّ في مَدارات مجتمعات الناس. وهي، مع كُرور الأيام، تستبيح التقدّم وانتصاب رقعتها، وتزداد بالتالي فُجاءاتها التي تستوجب التوقّف عندها مليًّا. من هنا، إن عناصر الحضارة الأخرى، ولِغِيرة منها، كانت تستنفر لحصرها ضمن سدود. لكنّ محاصيل الموسيقى التي أخصبت الحضارات، لم تعادلها ثروة فنية أخرى، لعراقة مقالعها ووِسعة مجال التَنَبُّت فيها ومنها، حتى أصبح رصيدها قوتًا دَسِمًا للشعوب لا يُروى منه الخاطر.
الموسيقى المتأنّقة تشكّل قاسمًا مشتركًا بين الأمم والأجناس، حتى أُطلِق عليها أنها اللغة الكونية. وعلى الرَّغم من البحث الجاهد عن الاتحاد في الموسيقى، غير أننا نتلمّس أنّ طبيعة كلّ شعب ومنطقة، لها تأثيرها في مسار الأنماط الموسيقية، تضفي عليها صفاتها وتُملي فوارقها وإن الشكلية. فالاختلاف مثلًا بين الآلهة والأرباب في أصقاع العالم، تَمثَّل وبشكل جليّ في اختلاف الأناشيد المخصّصة لهم والتضرّعات المُلَحَّنة للتَبَرُّك بهم. وربّما عاد هذا التقليد الى أنّ قسمًا من الباحثين وجد أنّ الموسيقى مقدَّسة لأنها تحت حماية الآلهة، أو أنها تنبثق عن قوى مُستتِرة جعلت الموسيقى الكيانَ النُّطقي لها.
ينحرف بعض العصريّين في الموسيقى الشرق-عربية عندما يعتبر أنّ التراث الموسيقي بالجملة كان مجرّد ثرثرة، فكان لزامًا بالتالي، وبالنسبة إلى هذا البعض، أعمال الترميم على عيوبه. لكنّه أغفل سَير هذه الموسيقى المتطوّر والذي نبت برعمه ونما حتى تنوّعت مقاماته وآلاته، وصار جزءًا من رقعة الحضارة. غير أنّه من الواجب الاعتراف بأنّ محراب الموسيقى أُجبِرَ، على يد سفّاحي التطوّر، على أن يُقبلَ بوجهه على الانحطاط، فتنجَّست أنفاسه ومُزِّقَت أرديته ولم تكن أَوبتُه سريعة إلى ركن القيمة. وهذا صحيح إذا عدنا إلى زمن تسرُّب بعض الموضات التي جثمت بخطرها فوق النّظام الموسيقي الشرقي، فلاقت رواجًا متزايدًا بين الفئات الشابة، لكنّ الوعي العائد إلى التذوّق وعدم التصلّب،سطّر تفوّقًا على مستوى التجديد لا التقليد، فحرم المَنابت الدخيلة من القضاء على أنّ الناس لا يحسّون إلاّ بموسيقاهم التي حدّدتها عواطفهم وصاغتها عبر أجيال.


الموسيقى وقيادة التجديد والنهضة
إنّ لعبة الحداثة مع الموسيقى توجب الإعجاب، ويخطئ مَن يحسب أنْ ليس بالامكان استخلاص صُوَر العهود الحضرية من آثار الموسيقى. فالمتمرِّسون في الموسيقى، أصحاب المواهب الخلاّقة، متشدِّدون في طَبعها بالتطوّر، لأنها ظاهرة حيوية لا يمكن حصرها، ونشاط دائم التحديث، ولم يبالغ هؤلاء حين قالوا إنّ الموسيقى تترأّس حركة التجديد في مراحل نهضات الشعوب، ولا سيّما في بلاد العرب. ولا غَروَ إن تفاخَر المغنّون والملحّنون والضّاربون على الآلات، لأمانتهم على الفنّ البحت، ولإثرائهم المحافل بميزات الموسيقى بإنشاء متاحف لها.
في الموسيقى يستوقفنا تلاقي القلوب أو المشاعر، فلا بأس من الاطمئنان إلى وحدة الموقف منها. فلو أننا تتبَّعنا نتاجات سائر الفنون، لوجدنا الصَّنعة والإغراب ظاهرَين في البعض منها، وهذا ما تنبو عن قبوله الطِّباع. أما في ما خصّ الموسيقى، فنتاجاتها خصبة رشيقة تخفي بين نغماتها أسرار الجَمال، فلا مَعارض مصنوعة ولا مقاطع تكون من النَّكرات، ولا وحشة نافرة، ولا افتعال أو بِدَعٌ دخيلة. إن الموسيقى عُقَد السّحر التي لا ينتهي عاشقها إلى خَجَل، فكأنها تنتمي إلى كرم الطِّباع وشَرف الأَحساب.
في معجم الموسيقى أنّها موصولة بأسباب الحياة ولها معها روابط حميمة، فهي مُساعد في الخُطوب، ومُتَّكَأ في الرّقاد، وشفاء في الشدائد، وأنس في الخلوة. وهي أيضًا التحفة البهيّة والطّرفة الشهيّة، أو سياحة النّشوة فوق قِباب الآهات.