مبدعون من بلادي

الموسيقى كلمة تأتي من الاعامي
إعداد: تريز منصور

غبريال يارد موسيقي من دون حدود

رجل الخلق الصعب والحرفة الجميلة المتقنة، والموسيقي العالمي المبدع. غبريال يارد الإسم اللبناني المتألق في عالم موسيقى السينما والاوبرا والمسرح، والمزيّن بموسيقاه أكثر من سبعة وأربعين فيلماً حتى اليوم.
موسيقي من دون حدود، مؤلفاته كسرت الحواجز بين انتماءة وأخرى. إنه متوسطي في العمق، وأوروبي في الإنتماء، وبين الأوروبي والمشرقي، لا يخفي هويته اللبنانية التي يفتخر بها، وهذا ظاهر بأعماله.


رحلة الإبداع

ولد المؤلف الموسيقي غبريال يارد في بيروت في العام 1949. درس الحقوق لمدة ثلاث سنوات في جامعة القديس يوسف، وأحب شيء الى قلبه كان في تلك الآونة، اللجوء الى الكنيسة والعزف على آلة البيانو.
وكان أستاذه، عازف البيانو في الجامعة بيرتنارد روبيلارد، وهو أستاذ الموسيقار توفيق سكر والأخوين الرحباني، وبوغوس غيلاليان وسواهم.
في العام 1973، هاجر الموسيقار غبريال يارد مغموراً باللامبالاة، حاملاً الموهبة وملكة التأليف، فدرس عصامياً على نفسه، متلقّناً وحده أصول الموسيقى وتاريخها وإرثها الكلاسيكي. لم ينتمِ الى معهد موسيقي، بل خرج تواً الى معترك التأليف وأنجز ما لا يحصى من الأغنيات لنجوم الغناء الفرنسي.
ثم عمل في حقل الإعلانات منجزاً موسيقى حوالى ألفي إعلان، قبل أن تجذبه السينما إليها، وتبدأ مسيرته الإبداعية الأهم مع كبار المخرجين، امثال غودار (فرار) وألتمان (ما بعد العلاج) وغافراس (هاناكا) وآنو (العشيق) ونوبتن (كاميل كلوديل) وبينيكس (37 درجة ونصف، والقمر في المجرى) وشاهين (وداعاً بونابرت) وبغدادي (حروب صغيرة)، وأنطوني مينغلا (المريض الانكليزي) وبراد سيلبير لينغ (مدينة الملائكة)، والعديد سواهم...
يقول غبريال يارد عن تجربته في عالم السينما: في مرحلة السينما الصامتة أضيفت الموسيقى لتغطية ضجيج آلة العرض، ثم شيئاً فشيئاً أضحت الموسيقى نوعاً من الدليل للمشاعر، لما يجري على الشاشة. أنا لم أفهم تلك الوظيفة قط، فالصورة تغير من الموسيقى بطريقة بدائية جداً. وللأسف يقتصر دورها على تشديد الانفعالات والمشاعر ولحظات التوتر، ولكن هذا ليس دور الموسيقى. لذلك فقد خضت اللعبة مشترطاً التصرف كمؤلف موسيقي ووضع موسيقاي كما أرغب.
لا أبغي العمل على الصورة، بل أبغي العمل قبلها، للاقتران بها على نحو تلتقي فيه روح الموسيقى بروح الصورة.
يستمدّ يارد وحيه من قراءة السيناريو ومن الحديث مع المخرج، بعدئذ يطفىء الأنوار ويدخل الى الأعماق، يفتش، يبحث، غير ساع الى الصاق الموسيقى بالصورة، بل يبقى مع الموسيقى.
يرفض أن يسأله المخرج بعد الانتهاء عن فيلمه، سد الفراغات بقطع موسيقية.
فالموسيقى كما يقول، ليست شيئاً يخترعه الانسان وانما هي شيء يسمعه في صمته.


علاقة غرام مع الشرق

حين يؤلف الموسيقار غبريال يارد، يمضي حيث يريد. تشدّه تلك القدرة الانتقائية الكاملة التي تفعمه بالحرية، فينتقل بين "الباسترنغ" أجواء الخمارات والجوقات الصاخبة) وموسيقى المنوعات الشبيهة بأعمال كورت فايل، إلى الجاز والموسيقى الرومنطيقية وأجواء الرقص السلافي، والشرق ايضاً. هذا الشرق الذي يلوح له في بعض المشاهد دونما قناع، اذ يبدو واضحاً، ايحائياً.
يارد المولود في بيروت، لم ينسَ ذرة من طفولته، الموسيقى الشرقية لم تكن تجذبه في البداية. فقد كان يجدها مضجرة وكئيبة. لكن الكتاب الذي أهدته إياه جدته يوم انتقل الى فرنسا، كان الاكتشاف الكبير للموسيقى الشرقية. الكتاب يحمل عنوان "مؤتمر القاهرة عام 1932" وهو وثيقة ثمينة جمعت كبار المؤلفين الموسيقيين في الشرق في المؤتمر الأول للموسيقى العربية. وبعد اجتماعهم الشهير، أصدروا الكتاب وفيه تدوين لجميع الإيقاعات والمقامات والانماط المرفقة بامثلة. أصبح هذا الكتاب، كما يقول يارد، إنجيله، وكان كبير الفائدة له يوم عمل على فيلمي المرحوم مارون بغدادي "حروب صغيرة"، و"الرجل المحبب". كما انه عاد الى هذا الكتاب في تأليفه موسيقى "ارناكا" لكوستا غافراس، حيث إختلطت الموسيقى السمفونية بالموسيقى الشرقية. وهو يعتبر ان هذا الكتاب يتضمن كنوزاً وذخائر اكتشفها مع ميل موسيقاه الى الشرق.
ويقول يارد: "أنا مطعّم بالشرق فحيث ألوذ بالإيقاع لا أكون تحت تأثير من إيقاعات أم كلثوم أو إيقاعات الرحابنة، وما أجملها، بل اكتب من مؤثرات وانطباعات تسري في عروقي ولا وعيي."
العطاء بالنسبة ليارد هو مثل الضمير المهني والولع الذي نوظفه في موسيقى فيلم ومثل الذي نحوك به موسيقى باليه وموسيقى كلاسيكية، عندئذ تزول الفوارق. الفرق الوحيد هو بين عمل فاتر وسيّء.
ويقول: "لا استطيع أن اكتب موسيقى فيلم ونصب عيني، أنها ستكون وراء الصور والحوارات، غير مرئية وغير مسموعة، كمن يلصق ورقاً على الجدران، كما يقول سترافنسكي".

 

.. وللعين أذن

يعتبر يارد نفسه انساناً مسكوناً بموهبة أكيدة، يعجز عن شكر السماء بما يكفي على إهدائه اياها منذ ولادته، نبع وحيه يتفجر في الفراغ والصمت مستسلماً لموسيقى تأتيه. فالموسيقى بالنسبة اليه، ليست شيئاً نفبركه، انما هي كلمة تأتي من الأعالي فإما أن نتلقاها او لا. والصمت هو الوصفة الوحيدة للتلقي.
ويرى يارد أن فعل التأليف متواصل مع الحياة في اخطائه وشروده. ومن إستباح لنفسه الشرود والخطأ، فيعني أنه يستطيع التنزه في الوقت من دون انتظار طلب ما. ويعتبر الفشل ضرورياً أحياناً، لإعادة حساب أعمق للذات. موزار أصيب بعدة نكسات في حياته الموسيقية، تعالى فوقها لأنه مسكون بالموسيقى. فالموسيقى التي تتخلى عن صاحبها تعود اليه أقوى.
والبدايات عند يارد دوماً مرتجلة على الملامس، وحيث يشعر بانه انطلق في تصوراته، يتوقف عن العزف ويملأ الورقة ويطورها. فالتأليف بالنسبة اليه يتطلب قاعدة بناء وهندسة، ولا يتم كل ذلك سوى على الورقة.
ويعتبر أن للعين أذنها. فالعين التي ترى لها أذن تسمع. مثله الأعلى كان بيتهوفن الذي ألّف مقطوعة "رباعيات" وهو أصمّ، وتعتبر هذه المقطوعة من أجمل الأعمال التي خلقتها الموسيقى.

 

جوائز أوسكار وأوسمة

حاز هذا المبدع اللبناني الفرنسي في مجالات السينما والإستعراضات الراقصة والأغنية والإعلان والمسرح على جوائز وأوسمة عدة، أهمها جائزة الأوسكار لموسيقاه في فيلم "المريض الأنكليزي"، (1998) وكانت موسيقى فيلم البريطاني انطوني مينغلا قد سمحت ليارد بالحصول على أوسكار افضل موسيقى للأفلام في هوليوود.
ونال يارد جائزة أفضل موسيقى ثلاث مرات في اطار حفل توزيع الجوائز لأفضل موسيقى الذي يقام سنوياً في فرنسا والتي تعادل جوائز غرامّي. كما حصل على جائزة "سيزار" لموسيقى افضل فيلم. وفي العام 1997 قلّده رئيس الجمهورية وساماً في مدرسة الليسيه عبد القادر. وفي العام نفسه قدم له مجلس إدارة المعهد الوطني العالي للموسيقى ممثلاً بالدكتور وليد غلمية وساماً ذهبياً يمثل شعار الكونسرفاتوار.


تجربة بعلبك

كان للمؤلف الموسيقي غبريال يارد تجربة أولى في بعلبك عبر الموسيقى التي وضعها لباليه "كلافيغو" تحفة رولان بوتي المستوحاة  من قصة غوته، والتي قدمت في 20 و21 تموز من العام 2001.
وقد أعرب يارد عن رغبته حينها في العمل مع مخرجين من لبنان، شرط توافر النص الجيد والإمكانات. ودعا الجميع الى الإتكال على النفس والثقة بما يحققون، فتلك درب النجاح...