دراسات وأبحاث

المياه الإقليمية TERRITORIAL WATER
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

بين المدّ الإقليمي والجزر الدولي


شكّلَ البحر، منذ القِدَم، أهم وسائل التجارة والانتقال ما بين الشعوب والدول. ففي اتجاه البحر وعبره تمّ النشاط الإقتصادي الدولي، وانتشر التبادل التجاري والحضاري. فحضارات الشواطئ كانت لها اليد الطولى في نشر الأفكار، والنمو العقلي، والنزاعات التحرّريّة الفردية، بخلاف المناطق والحضارات القاريَّة المغلَقة، التي يمكن وسمها بسمة الأنظمة المقفلة، أو المستبدّة، ومجتمعات الإقطاع والريف والاكتفاء الذاتي القائمة على أساس نظام مغلق اقتصادياً وفكرياً.


صراع وتوازن
سعـى بعـض المؤرّخــين إلى إرجــاع تاريخ العالم إلى صراع ما بين البحر والبر، أو نزاع المحيطات والقارات، أو بصورة سياسية اجتماعية، إلى صراع ما بين الديمقراطيات الساحلية ذات الأنظمة الحرّة، السلمية والشعبيــة، والأمبراطوريات القارية ذات الأنظمــة القوميــة، التسلُّطيــة والاستبــدادية (صراع الإمبراطورية الفارسية والعالم الإغريقي، صراع روما والبرابرة، الإسـلام والعالم الإقطاعي، هولندا وإمبراطورية شارلكان، إنكلــترا ونابليون، الديمقــراطيات الأنكلوسكســونيــة ودول المحـور، وأخيرًا ما بين حلــف شمــال الأطلــسي والكتـلة السوفـياتية).
ولكن الاختلال في التوازن التاريخي ما بين هذه المجتمعات كثيرًا ما كان ينتهي بإقامة إتحادات يتم فيها توازن القوى ما بين الدول الساحلية والدول البريّة.


البحر العام
يشكل مبدأ الوصول إلى البحر نقطة الإنطلاق للقوانين الدولية المتعلّقة بالمواصلات، وبخاصة للدول الداخلية، أي التي لا تطلّ على أي بحر.
أهم المبادئ الأساسية أن «البحر العام حُرّ» (Libre)، وهذا يعني أنّ البحر ليس ملكًا لأي دولة. وقد تطوَّر هذا المبدأ عبر التاريخ: فالمفهوم الروماني السابق كان يعتبر أن البحر المتوسط ملك الرومان الذين أطلقوا عليه اسم «بحرنا» (mare Nostrum). وقد استمرّت الدول والإمبراطوريات الكبرى في فرض سيطرتها على البحار واعتبارها ملكًا لها، حتى القرن السابع عشر عندما نشر العالم الهولندي غروسيوس كتابه: «البحر الحرّ» Mare liberum وفيه يدافع عن نظرية حرية البحار، معارضًا بذلك الأسبان الذين كانوا يطالبون بالملكية الخاصة للبحر، وكذلك البرتغاليون والإيطاليون.
لاقت دعوة غروسيوس حول «البحر الحُرّ» صداها في القرن الثامن عشر. فمع بنكرشوك بدأ التفريق ما بين البحر الإقليمي وأعالي البحار، والمناداة بحريّة هذا البحر، فبدأت بذلك الدول تخفّف من مغالاتها في دعوى السيادة على البحار واقتناعها بمبدأ الملاحة الحرّة من كل قيد. ومع منتصف القرن التاسع عشر بدأ مفهوم حرية أعالي البحار يستقرّ كقاعدة دولية مُسلَّم بها عالميًا، وتمّ الاتفاق على أنّ حدود المياه الإقليمية للدول البحرية يساوي مدى طلقة مدفع منصوب على الشاطئ. ولما كانت قذائف مدفعية تلك المرحلة لا تتجاوز في مداها الثلاثة أميال فقد استقرّ الرأي الدولي على اعتبار أن حدود البحر العام تبدأ بعد هذا المدى. واستمرّ هذا المبدأ ساري المفعول حتى القرن العشرين.

 

تقسيم مياه البحر
لقد استقرّ الرأي الدولي، بعد مفاوضات ثيرة إمتدّت إلى عقود خلَت، على أنّ الدولة الساحلية تمتلك حقًا على البحار التي تشاطئ إقليمها. فمنذ مطلع القرن العشرين وخلاله وحتى الربع الأخير منه، والدول تتفاوض وتضع الاتفاقيات لتنظيم حقوق الدول في المسطَّحات البحرية القريبة من أرضها، والبعيدة عنها، كذلك حقوق الدول التي لا تملك شاطئًا على البحر، وذلك انطلاقًا من مبدأ المساواة بين الدول. فمنذ معاهدة «لاهاي» العام 1907 لتنظيم الحروب البحرية وحتى معاهدة «جامايكا» العام 1982، وضع الكثير من الاتفاقات والمعاهدات التي وضعت القواعد الدولية لتحديد حقوق الدول وواجباتها تجاه البحار وغيرها من الدول التي تمتلك الحقوق والواجبات نفسها بشكلٍ متساوٍ.

 

تعريفات ضرورية
لقد توصّلت المفاوضات الدولية المستمرّة إلى وضع تعريفات لا بدّ منها لتحديد حقوق الدول الساحلية في البحار وتحديداتها العملية على أرض الواقع، وذلك كما يأتي:


• المياه الداخلية: ويُقصَد بها تلك الأجزاء من البحر التي تتغلغل في إقليم الدولة وتتداخل فيها، وهي تشمل الموانئ، والأحواض البحرية، الخلجان، البحار الداخلية، ولكنّ لكل منها حكمًا خاصًا.


• خط الأساس (Baseline): وهو الخط المستقيم الذي يجمع بين أطراف الرؤوس البرية للإقليم الداخلة في البحر. وكل أجزاء البحر التي تقع لجهة الشاطئ من هذا الخط تعتبر مياهًا داخلية تابعة لأملاك الدولة الساحلية وإقليمها، وتسري عليها قوانين الدولة وسلطانها وسيادتها القانونية.


• المياه الإقليمية أو البحر الإقليمي (Territorial Water): هو النطاق البحري القائم، والممتدّ ما بين الإقليم والبحر العام، انطلاقًا من خط الأساس وبمدى لا يتجاوز 12 ميلاً بحريًا، استنادًا إلى اتفاقية جامايكا العام 1982، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.


• المنطقة المتاخمة (Contiguous Zone): وهي منطقة إضافية توازي في مداها مدى البحر الإقليمي ولها أحكام خاصة.


• المنطقة الاقتصادية الخالصة  (Exclusive Economic Zone): وهي المنطقة الممتدّة من خط الأساس قرب الشاطئ وحتى أعالي البحار أو الجرف القاري.


• الجرف القاري (Continental shelf): وهو المنطقة التي تبدأ في نهايتها الأرض بالانحدار نحو الأعماق، وأكثر من 2500 م عمقاً، بحيث أنه يصبح من المتعذَّر الاستفادة من مياه البحر للصيد، ويصعب الوصول إلى القعر لاستغلال الموارد.

 

معاهدة الأمم المتحدة حول قانون البحار ( 1982)
تابعت الدول مفاوضاتها لوضع معاهدة دائمة وملزمة للقانون الدولي المتعلّقة بالبحر، وخصوصًا بعد تأسيس الأمم المتحدة العام 1945، وقد توصّلت إلى اتفاق مبدئي عرف بمعاهدة جنيف للعام 1958، ولما لم يتمّ الاتفاق على بعض الأمور الجوهرية والأساسية وخصوصًا حقوق الدول في البحر الإقليمي، والمدى المعقول لهذا البحر، وهل هو ملك للدولة أم أنه يخضع لسيادتها فحسب، فقد تابعت الدول برعاية الأمم المتحدة المفاوضات إلى أن تمّ الاتفاق على معاهدة جديدة وقعت Montego Bay في جزيرة جامايكا في مدينة في 10 كانون الأول العام 1982، وعرفت باسم «معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار (United Nations Convention on the Law Of the Sea - UNCLOS)
ودخلت حيّز التنفيذ في 16 تشرين الثاني العام 1994، وهي مؤلّفة من 320 مادة، و9 ملاحق.
- البحر الإقليمي (Territorial Sea):
أقرَّت معاهدة الأمم المتحدة حول قانون البحار حق أي دولة في أن تمدّ مياهها الإقليمية إلى مسافة لا تتعدّى 12 ميلاً بحريًا يبدأ من خط الأساس المحدّد وفق هذه المعاهدة.
كما أقرّت هذه المعاهدة حق كل دولة ساحلية في بسط سيادتها على هذه المياه الإقليمية، وهي تشمل الفضاء الذي يعلو هذه المياه، وكذلك طبقات الأرض التي توجد تحت هذه المياه، وما بينهما من موارد وثروات سمكية أو معدنية. ولكنها فرضت على الدول الساحلية السماح للسفن الأجنبية بحق «المرور البريء» (innocent passage)، وبشكل لا يتعارض مع أمن هذه الدولة وسلامتها، أو يعرّض الإقليم للخطر أو للضرر. وللدولة الساحلية الحق في الصيد واستثمار كل الموارد المتاحة في البحر، أو القعر، أو الطبقات السفلى من القعر واستخراج الثروات المتاحة من نفط وغاز ومعادن مختلفة.
- المنطقة المتاخمة (Contiguous Zone): ورد في المادة 33 من معاهدة الأمم المتحدة السابق ذكرها أن من حق الدول البحرية إقامة منطقة متاخمة لبحرها الإقليمي تمتدّ 12 ميلاً بحريًا إضافيًا ما بعد حدود بحرها الإقليمي باتجاه البحر العام، تمارس فيها صلاحيات الجمارك، ومكافحة الهجرة، ومراقبة الأمور الصحية للسفن التي تقع ضمن بحرها الإقليمي وهذه المنطقة (أي على مسافة تبلغ 24 ميلاً بحريًا من خط الأساس كحدّ أقصى). وللدولة الحق في تطبيق قانونها الخاص على كل مخالفة لقوانينها الخاصة المتعلّقة بالمياه الإقليمية، من حفاظ على ثروتها السمكية، ومنع الغير من الصيد في هذه المياه، أو استغلال الأرض تحت هذه المياه، أو استخراج أي مادة أو التنقيب عنها، لأنها حق من حقوق الدولة الساحلية، شأنها شأن البحر الإقليمي.
- الـمنطقـــة الاقـتـصاديـــة الخاصــة (Exclusive Economic Zone):  هي تمتد حتى 200 ميل بحري اعتبارًا من خط الأساس. وللدولة البحرية الحق في التنقيب، واستخدام الموارد الموجودة في البحر وقعره وتحته، وإقامة ما تراه مناسبًا من إنشاءات لتوليد الطاقة، أو البحوث العلمية، ولكن بشكل لا يعرّض الملاحة والبيئة البحرية لأي مخاطر مضرّة، ولا يتعارض مع حقوق الدول الأخرى المقابلة أو المجاورة.
- الجرف القاري: يشمل الجرف القاري لأي دولة ساحلية قاع أرض المساحات المغمورة وباطنها التي تمتدّ إلى ما وراء بحرها الإقليمي، في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري حتى الطرف الخارجي للحافة القارية، أو إلى مسافة 200 ميل بحري من خط الأساس، إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة يمتدّ إلى تلك المسافة.
- أعالي البحار (High Seas): إن المياه التي تقع ما بعد المنطقة الاقتصادية الخاصة تعتبر أعالي البحار، ويسري عليها مبدأ «حرية البحار» وهي مفتوحة لكل الدول، الساحلية منها والمقفلة (من دون سواحل)، لاستخدامها كما تشاء، ما عدا تجارة العبيد، تهريب المخدرات، القرصنة، أو إقامة محطات راديوية أو تلفزيونية غير مرخّص بها. ولهذه المنطقة وكيفية استثمارها أحكام خاصة وردت في الاتفاقية بالتفصيل.

 

البحر ليس ملكاً لأحد
من المنطقي أن البحر ليس ملكاً لأحد، فالدول البحرية، وإن فرضت سلطتها وسيادتها خلال التاريخ على بعض المسطَّحات المائية التي تشاطئ أقاليمها بحكم الأمر الواقع والسيطرة على سطحه، وحركة النقل فوقه، إلا أنها لم تستطع أن تدعي يومًا أنها تمتلك مياه هذه البحار، أو توقف حركتها الطبيعية، ولكن من المنطقي أيضًا والواقعي أن الأرض الواقعة تحت المياه يمكن اعتبارها امتدادًا طبيعيًا لليابسة ولأراضي الإقليم، أو هي جزء من الإقليم مغمور بالمياه. وما وضعته الدول والشعوب من أعراف، أو معاهدات، أو قوانين ليس إلاّ لتنظيم حقوق هذه الدول وحدود حرية كل منها بالتصرّف بمياه البحار وقعرها وما تحته حفاظًا على حياة شعوبها ومواردها ووسائل عيشها بطريقة تحمي حقوق الآخرين، وتمنع النزاع، أو التعدي على هذه الحقوق.

 

• المراجع
• www.un.org/dept:UN convention on the law of the sea 1982.
• القانون الدولي العام: شارل روسو- مترجم، الأهلية للنشر والتوزيع- بيروت 1987.
• القانون الدولي العام: علي صادق أبو هيف - منشأة المعارف بالإسكندرية 1975.

• الميل البحري يساوي 1852 مترًا وفق القانون الدولي فيكون عرض البحر الإقليمي 22,224x12 = 22،224 كلم.