بلى فلسفة

الميزان
إعداد: العميد اسعد مخول

كان في خيالي الماضي ميزان نحاسي رنّان قيل لي إن الشيطان يزن به خطايا البشر وفضائلهم، فإن وجد أن الخطايا هي الأضعف والأقل غضب ورمى الميزان أرضاً، فيحصل رنين ناعم في أذني الإنسان صاحب العلاقة، أو في إحداهما، ويطمئن الى انتصاره في معركة الأخلاق. وكثيراً ما كان يحصل لي ذلك فكنت من المنتصرين على الشيطان ومن المستخفين به الى أن بلغت وقتاً بتّ لا أسمع فيه الرنين الذي كنت أعرفه مما دفعني الى الظنّ بأن خطاياي تزداد يوماً بعد يوم، وأن شيطاني في أمان، وهو يبني مجده على حساب عثراتي، إلا إذا كان ضجيج الحياة في هذا العصر هو الذي يحرم أذني دقة السّمع فتذهب رنّات الخيبات الشيطانية هباءً.

وورثت في ما ورثت عن أبي ميزاناً خشبياً صُنعت كفّتاه من سنابل القمح. سعيت الى الاستعانة به في قياس بعض الأوزان، فأمسكت بعصاه المحورية ورفعته بعد أن وضعت عدداً من حبّات التفاح في أولى الكفتين، وقابلتها في الثانية بالوزنات الحجرية المناسبة. لكنني لم أصل الى توازن الكفتين رغم تكرار المحاولات، فلا التفاح قابل للتخفيف قطعاً أو عصراً وإلاّ تشوّهت طلّته وانتهى الى زوال، خصوصاً وأن الفاكهة عرفاً هي في المنظر قبل أن تكون في الطعم أو المضمون، ولا القطع الحجرية المقابلة قابلة للتعديل كسراً أو تحطيماً أو نحتاً، إذ لا يمكنني في كلّ مرّة تعريضها لهذا التشويه وإلاّ لكنت بحاجة واضحة الى مقلع صخري يستحيل نقله الى علبة الإسمنت التي أقيم فيها.

أبدلت موقعي التفاح والوزنات بين كفة وأخرى، لكنّ التباين استمر. أنقصت من العدد حبّة، حبّتين... ثم أضفت واحدة مختلفة. فتّشت عن حبات إضافية ورحت أبدّل وأجرّب. لم أصل الى التوازن. رفعت الميزان الى الأعلى ابتعاداً عن جاذبية الأرض، ثم أعدت تقريبه منها. كل ذلك من دون جدوى. لم أر بدّاً بعد ذلك من اعتماد الميل الشخصي، والتقدير العفوي العام للوزن المطلوب، ووجدت أن من الضروري إضافة الى ذلك الدفاع  عن الرقم وإقناع الآخرين به بالاعتماد على الحجّة والرّأي والتوضيح والتضخيم والتجميل... والغشّ. وهذا ما كان بالإمكان التخفيف من وزره وبلواه لو كان الأمر مع مادة تتوزّع على حبّات صغيرة كالحنطة وما إليها لأن الوزن فيها ممكن والتعديل قريب، أما في الحبّات الكبيرة فالضبط والتحديد بعيدان، وما يشاع عن صحة القياسات غير صحيح على الإطلاق.

وضّبت تفاحاتي في كيس كبير دوّنت عليه: حوالى خمسة أرطال. لكنّني بعد أيام اضطررت للتغيير: حوالى أربعة أرطال ونصف ثم تراجعت الى حوالى أربعة، وذلك بسبب الضّمور الذي تعرّضت له الحبات الجميلة المتأنّقة بحكم توالي الأيام. وقد برّرت لنفسي أن تقرر ذلك لعلمي أن كل شيء يتغيّر. صحيح أن أدوات الوزن تبقى ثابتة إلاّ أنّ الموزونات تتبدّل وتتحوّل، ومن الحتمي تغيير أرقامها.

وكان عندي ميزان معدني رمزي صغير احتفظ به تلميحاً للعدالة وتغنياً بها. أسرعت إليه غاضباً ورحت أرفع إحدى كفتيه وأخفض الثانية إلغاءً لأي ادعاء للعدالة من قريب أو بعيد. لقد انتهيت الى أن تلك القيمة الشعورية صعبة التحقيق، أو على الأقل صعبة الاستمرار في حال حصولها. فقد تخطو العدالة خطوات أولى تشب فيها وتنمو، لكنها لا تنضج معها ولا تدوم، خصوصاً مع الإنسان.

فالـيدان مثلاً لدى هذا الكائن، تبدآن متساويتين متشابهتين ثم تنتـهيان وقد غلبت إحداهما الأخرى، من هنا مكانة اليد اليمنى في الزعـامة، ومن هنا استغراب أن تسود اليد اليسرى في بعض الأحيان فيسمى المعتمد عليها يسراوياً. الموضوع ذاته نلقاه في حالة القدمين اللتين تتقدم إحداهما على الأخرى، وفي حالة العيـنين حيث تتـبوأ يمناهـما المـركز الأول باسم العين البصيرة.

أما الحيوان فإنه في حدود علمي يساوي بين أعضائه إلا إذا أصابته الرضوض والكسور خلال انتقاله في البراري والوهاد، أو بسبب تعرّضه لنار الحديد والرصاص من قبل جاره الخالد ابن آدم.

وفي الصراع بين البشر يتم القبض على البعض منهم ويزج به في السجون بينما يكون البعض الآخر قد وقع صريع الموت والزوال. وتحصل مناظرات حول الموضوع بين القضاة تحت أقواس المحاكم تكون الغلبة فيها بالتأكيد لأصحاب القدرة على الإقناع والمتابعة وتوسيع دائرة المناظرين والمؤيدين، بالمال وتفسيرات القانون والناموس وخلاصات تجارب المتقاضين السابقين في كل دولة أو جماعة.

ويحصـل ضـمن ما يحصل أن يكون ذوو الضّحية في بكاء ونواح فيما يكون ذوو القاتل في سعي لتحسين ظروفه والدفاع عنه. كما أن المؤسسات الاجتماعية في الكثير من الدول تشارك في ذلك بذريعة إعادة القتلة الى المجتمع، وأنا أقول ذلك بغضّ السمع والنظر عن مسببات المشكلة التي حصلت بين القاتل والقتيل قاييناً وهابيلاً، وعن أسبقية الرصاصة الناجحة الأولى التي سبقت رصاصة القتيل فأردته ضحية لا يصحّ معها إلا الأسف واللوعة وطول العزاء. ولو تمكّن هذا الأخير من الأسـبقية لتغـيّرت المعادلة بأكمـلها، ولصـرع القاتل وبكى ذووه.

وقد يبـقى السـجين رهين الجدران الى أبد الآبدين، أما إذا نصره إخوانه «ظالماً أو مظلوماً» فإنه يعود الى الحرية تائباً نادماً، أو متبرّماً متحفّزاً قاصداً تجديد التحدّي والصراع حفظاً لماء وجهه وتجفيفاً لماء الآخرين، خصوصاً وأن ذويه قد تمرسوا في وسائل الحماية وسبل الدفاع، وأن أخاهم غير «مقطوع من شجرة» وهم لا يميلون الى قطع الشجر بل الى قطع الأعناق والأرزاق.