رحلة في الإنسان

الناس يروننا من خلال رؤيتنا لذاتنا!
إعداد: غريس فرح

كيف نتحكم بصورتنا في عيونهم

 

بين رؤية الذات ورأي الغير، محطة بارزة في سياق التفاعل البشري وخصوصاً في المجتمعات الحضارية المعاصرة. ومع أن بعض الفئات قد تدّعي، لأسباب مختلفة، عدم إكتراثها لآراء الناس، إلاّ أن معطيات الواقع تؤكد أننا جميعاً وبدون إستثناء، نتشوّق إلى التقاط صورنا في أعين المحيطين بنا، وإلى معرفة تأثيرنا أينما نكون.
من هذا المنطلق، ركّزت مجموعة دراسات في علم النفس على العوامل المؤثرة في مجال التعامل مع التقييم الخارجي، إضافة إلى تفاوت ردّات الفعل الفردية، والناجمة عن ملابسات تكوّن الرؤية الذاتية، وتأثيرها في التقدير المسبق لمرتبة الوجود في أعين الغير.
هنا بعض النظريّات في مجال تكوين الرؤية الذاتية أو المفهوم الفردي عن النفس، وتأثيرها في تبادل التقييم الصحيح، أو الانطباعات الشخصية الواضحة.

 

التعامل مع آراء الناس

مما لا شكّ فيه أن التعامل مع آراء الناس وتقييمهم وانتقاداتهم، يختلف بحسب الأشخاص، والعوامل المؤثرة في رؤيتهم لأنفسهم، وتوقّعهم المسبق لرؤية الناس لهم. وحسب الباحثين النفسيين، فإن التعاطي مع هذه العوامل والمؤثرات هو الذي يحدّد بدقّة موقع الفرد في المجتمع، ونسبة سلامة الانطباعات التي يكوّنها عن نفسه ومحيطه. وهنا تلعب الرؤية الذاتية الدور الأساسي في شبكة العلاقات البشرية وما قد يعتريها من اضطرابات وشوائب.

 

كيف تتكوّن هذه الرؤية؟

حسب رأي الدكتور مارك ليدي، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، والذي أجرى أبحاثاً عدة في هذا المجال، فإن المفهوم الذاتي يتغذّى من منابع الطفولة الأولى، حيث تكمن ذكريات لاواعية عن العلاقة الحميمة بالأم، أو أي شخص آخر يتولى تلبية حاجات الطفل الفطرية. ويرى الدكتور ليدي أن الطفل ينقل لاحقاً عبر سلوكه الاجتماعي الانطباعات التي يستوحيها من تجاربه الأولى. لذا، فهو عندما ينشأ في بيئة تنقصها العاطفة، قد يلوذ لاحقاً بالانطواء والقلق والخوف، لشعوره بأنه غير محبوب، بينما يكون نظيره المترعرع في أحضان الحنان، أكثر إطمئناناً وثقة بالنفس.
فالطفل الذي يرسم بخياله البدائي وجه الشخص المؤتمن على احتضانه، يستنتج من تعابير هذا الوجه معرفته الأولى بنفسه وموقعه في بيئته الاجتماعية. وعلى أساس هذه المعرفة، يضع مداميك شخصيته وسلوكه الاجتماعي. ومن أدركوا هذه الحقيقة لاحقاً، وعملوا بصعوبة بالغة على تعديل رؤيتهم لأنفسهم، وصورتهم في نظر الغير، لم يتمكّنوا من الإفلات من ذيول الانطباعات التي كوّنوها عن أنفسهم عبر عيون الأمهات أو المؤتمنين على الحضانة، وظلّوا يفتشون عن هذه الصورة في أعين الناس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نتائج الأبحاث لم تنفِ علاقة الجينات الوراثية بالمشاعر والسلوك والأفكار والرؤية الذاتية التي تدخل في تكوينها عوامل بيولوجية.

 

إشكالات ثبات المفهوم الفردي

بغضّ النظر عن إيجابية الصورة المكوّنة عن النفس أو سلبيتها، توجد فئات تكوّن فكرة ثابتة عن ذاتها وعن صورتها في نظر الناس، إنطلاقاً من مفهوم محدّد، الأمر الذي يتسبب باضطراب علاقاتها الاجتماعية وعرقلة طموحاتها، والسبب أن هذه الفئة لا تبذل جهداً لنقل صورتها الصحيحة، وتكتفي باطلاق إيحاءات غامضة قد لا يلتقطها حتى المقرّبون، الأمر الذي يؤدي إلى رؤيتها من زوايا مختلفة، وبالتالي تقييمها وفق استنتاجات فردية غير واضحة.
ومن هنا التركيز على أهمية السمات الخارجية وتأثيراتها في مجال تكوين الاستنتاجات والآراء الفردية والجماعية. وتجدر الإشارة إلى أن الإختصاصيين بالتأهيل السلوكي ينصحون الانطوائيين ممن تتحكم بهم المفاهيم الذاتية الثابتة، بالتدرّب تدريجاً على طرق إيصال الأحاسيس والطاقات ومستوى الكفاءة والمقدرة إلى الآخرين، عن طريق الإستعانة بالحس الإدراكي للغة الجسد، والتعبير الواضح عن الآراء والنظريات ووجهات النظر الشخصية.
على كلٍ، تؤكد الدراسات في علم الشخصية على حصول تغييرات لافتة تطاول المفهوم الذاتي عبر مراحل العمر. وهي تغييرات تحدث بفعل التأقلم الطبيعي مع الظروف والمستجدات، إضافة إلى التدرّج في اكتساب الكفاءة والتمرّس بتقنيات المواجهة. مع ذلك، يبقى الكثيرون قيد المعاناة والعجز عن نقل صورتهم الصحيحة، أو تلك التي يتمنّون أن يكوّنها الناس عنهم. وهذا يعود إلى أسباب مختلفة أهمّها:

 

* ضعف الشخصية وعامل الخجل:
من المعروف أن أصحاب الشخصية الهشة يتميّزون عموماً بالتوتّر والاضطراب بسبب خوفهم من إمكانية افتضاح ضعفهم، الذي يعملون جاهدين على إخفائه. وقد تنعكس هذه الاضطرابات على خطوط الشخصية الخارجية بمظاهر مختلفة قد تسيء إلى حقيقة المعنيين بها وإلى تقييمهم. من هنا شعور الإحباط الذي غالباً ما يحيط بهذه الفئة لعجزها عن إرساء التوازن بين واقعها وبين ما تصبو إليه.
ومشاعر القلق والخجل الملازمة للشخصية الضعيفة، والمؤدية إلى التركيز الزائد على النفس، تمنع المعنيين بها من الانفتاح على المجتمع وتوطيد العلاقات الإجتماعية والمهنية الضرورية للتفاعل الصحيح. والأسوأ أن هؤلاء قد ينعتون بالعدائية وقلّة التهذيب لعجزهم عن المجاملة واستخدام عبارات الترحيب والود المتعارف عليها إجتماعياً.

 

* خداع النفس لنيل رضى الغير:
من بين العاجزين عن نقل صورتهم الحقيقية الأشخاص الذين يتقمصون لأسباب نفسية عدّة، شخصيات وهمية لإرضاء النفس، واستقطاب إعجاب الغير. واللاّفت أن هؤلاء يشعرون عموماً بثقل التزييف المستخدم كحاجز دفاع لإخفاء نقاط ضعف معيّنة، ومنها المفهوم الذاتي السلبي؛ وحسب الدراسات فهم الفئة الأكثر إهتماماً بآراء الناس بتصرفاتهم وبالواقع الذي يتركونه في النفوس، بسبب تراكمات رواسب الطفولة.

 

كيف يقيّمنا الناس؟

حسب الأبحاث المشار إليها، فإن تقييم الناس لبعضهم ينحصر في عوامل ثلاثة هي: خطوط الشخصية المرئية، وغير المرئية، وردّات الفعل.
بالنسبة لخطوط الشخصية الخارجية، فإنّ أياً منا لا يمكنه التعرف بوضوح إلى وقع تصرّفاته في نظر الغير، لأننا بدون إستثناء نركّز في لاوعينا على مضموننا الداخلي، حتى ولو تعمّدنا الظهور بشخصية مزيفة. ومن هنا الفرق الذي يبرز بين رؤيتنا لأنفسنا ورؤية الناس لنا. لذا يعمد الباحثون إلى التركيز على خطوط الشخصية غير المرئية، أو الرؤية الذاتية، وهذا يؤكد النظرية العامة القائلة بأن الناس قد ترانا أحياناً من خلال رؤيتنا لأنفسنا.
وباعتبار أن جميعنا بدون إستثناء نسعى إلى معرفة رأي الناس بنا، ونكتئب في حال عدم إكتراثهم لنا، كوننا جزءاً من التفاعل الاجتماعي، يصبح من الضروري أن نعطي هذه الناحية البشرية إهتماماً أكبر.
وهذا لا يتم، حسب رأي الاختصاصيين إلاّ بالانفتاح التام على الواقع، وصولاً إلى تقبّل الإنتقاد بعيداً عن رواسب الخوف والقلق.
فالانتقاد قد يكون جارحاً، إلاّ أنه من أهم السبل الموجودة لتوضيح صورتنا الاجتماعية الصحيحة، إضافة إلى كونه الدافع لتصحيح الأخطاء، وردم الهوة الفاصلة بين ما نشعر به، وما نريده، وما نودّ معرفته عن أنفسنا.
وتمهيداً لولوج الواقع، ينصحنا الإختصاصيون باللجوء أولاً إلى أفراد العائلة، والأصدقاء المقرّبين، من أجل التعرّف بوضوح إلى تأثير تصرّفاتنا، ووقع إيحاءاتنا الخارجية في بيئتنا الاجتماعية. وفي حال نجحنا في الانفتاح على أنفسنا وتلمّس عيوبنا، نكون قد بدأنا الخطوة الأولى على طريق إرساء التوازن المطلوب بين مفهومنا لأنفسنا وبين ما ننتظره من تقييم الناس لنا. وهذا ما يتيح لنا تدريجاً وضع قواعد شخصية ثابتة نتحكم من خلالها بتصرفاتنا بشكل يفرض وجودنا كما نحن، وكما نريد أن نكون.