العوافي يا وطن

النداء الأخير
إعداد: إلهام نصر تابت

من لا يعرف المؤسسة العسكرية من الداخل لن يستطيع وضع كلام قائد الجيش في موضعه الصحيح، مع العلم أنّه تكلّم «بالعربي المشبرح». فأن تعرف حياة العسكر من الداخل ليس بالأمر البديهي، أو من تلك المسائل التي تُعد تحصيلًا حاصلًا. تقتضي هذه المعرفة أكثر من نظرة إلى العسكريين كمجموعة كبيرة من موظفي القطاع العام. ثمة منظومة قيم ومبادئ تحكم الحياة العسكرية وتترسخ في نفوس العسكريين من قمة الهرم إلى أصغر جندي فيه. وكلما كانت هذه المنظومة على توافق مع تلك التي يقوم عليها المجتمع العام، كلما استطاع هذا الأخير فهم طبيعة الجيش وخصائصه، وأدرك نوعية العلاقات بين أفراده. الفهم والإدراك أساسيان في إرساء علاقة إيجابية بين الجيش ومجتمعه، ينتج عنها تحقيق المصلحة الوطنية.

من الواضح أنّ المسافة بين منظومتَي القيم اللتين تحكمان أداء المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية في لبنان (وفي مجتمعات كثيرة) هي على تناقض رهيب. تناقض يجعل هذه السلطة تنظر إلى الجيش كاحتياطي قوة يسمح لها بالحفاظ على مواقعها ومكاسبها عندما تكون علاقتها بالشعب مأزومة. وهذه النظرة في أساس السلوكيات التي تمارسها السلطة تجاه المؤسسة، وفي أساس ما تتوقعه منها.

في المقابل، من حسن الحظ أنّ الحس الشعبي في لبنان قريب من المؤسسة العسكرية، لا بل أنّه ملتصق بها، مدرك أنّ ما يحكم أداءها هو ما يتطلع إليه، وهذا ما أثبتته خلال تاريخها. ففي نشوئها وُلدت هذه المؤسسة من رحم نضال اللبنانيين لنَيل استقلالهم. وفي مسيرتها كانت دومًا السند الذي يعتمدون عليه، والقوة التي تحفظ الوطن وتحمي النظام الديموقراطي وتمنع انهياره في الأزمات الكبرى. أما في يومياتها فهي دم أبنائهم الذين استشهدوا، وعرق إخوتهم الذين ما زالوا يتابعون مسيرة التضحية.

نعود إلى منظومة القيم في الجيش، تلك التي يتربى عليها العسكري ويمكن اختصارها بالقَسًم الذي يؤديه، بالعهد الذي يعتنقه فيصبح موجهًا لسلوكه وصولًا إلى بذل الذات. من هنا يبدأ كل شيء: تقديس المصلحة الوطنية، الشرف العسكري، الوفاء، التضحية، الصبر، الالتزام، التقشف، التعاون، الصلابة...

تتغير أحوال المجتمع وتتبدل الأهواء والنزعات فيه، لكن في المؤسسة العسكرية تبقى هذه القيم أساس سلوك العسكري. فهل يمكن التوفيق بينها وبين ما يحكم سلوك معظم من يتولّون السلطة السياسية؟ هنا السؤال، وهنا مكمن الغضب والوجع والقرف.

يدرك اللبنانيون جيدًا الفرق بين واقع هنا وواقع هناك. يعرفون أنّه لم يبقَ لهم سقف يحتمون به سوى هذه المؤسسة، فإذا انهار هذا السقف سقط الكيان. وتدرك المؤسسة بشخص قائدها وسائر أفرادها أنّها أمام مسؤولية تاريخية. لذلك وجّه العماد عون ما يمكن اعتباره النداء الأخير. ما عاد السكوت جائزًا والوطن يهوي.

«يا حضرات المسؤولين لوين رايحين»؟

يناضل الجيش بالرمق المتعب، يستلّ من مناقبيته وشجاعته وشرفه أدوات يواجه بها التحلل والانهيار.

تفضلوا يا سادة إلى واجبكم. العسكر متعب وغاضب وخائف على الوطن، لكنّه ما زال يناضل ليمنحكم فرصة إضافية للتحرك. كم من الفرص أتاح لكم منذ الـ2005 حتى اليوم؟

من أقسم على حماية الوطن لن يتراجع، هذا القَسًم المكتوب بالدم في وجدان كل عسكري هو ما يمنع السقوط الكامل بعد أن بدّدتم كل الفرص والمقدرات. وهذا القَسًم سيظل جدارًا صلبًا يحتمي به اللبنانيون، وسيظل درعًا للمؤسسة التي تسعى أيادٍ كثيرة إلى المسّ بها.

يكفي ما فعلتم يا سادة.

جيشنا حصننا وشرفنا.

العوافي يا جيشنا.

العوافي يا وطن.