النزاع على الحدود البحرية: تركيا في مواجهة اليونان وقبرص

النزاع على الحدود البحرية: تركيا في مواجهة اليونان وقبرص
إعداد: العميد الركن البحري مصطفى العلي

المقدمة

يكتسب البحر الأبيض المتوسط أهمية خاصة في السياسات الدولية، نظرًا لموقعه الاستراتيجي في قلب العالم القديم، حيث يربط بين القارات الثلاث: أوروبا، آسيا وأفريقيا. يرتبط البحر المتوسط بمجموعةٍ من أهم الممرات المائية الدولية، وهي قناة السويس التي تربطه بالبحر الأحمر، ومضيقي البوسفور والدردنيل بينه وبين البحر الأسود، ومضيق جبل طارق بينه وبين المحيط الأطلسي. أعطت الاكتشافات النفطية بعدًا جديدًا للحوض الشرقي للمتوسط حيث احتدم التنافس بين دوله للسيطرة على الثروات الكامنة من الغاز التي يختزنها قاع البحر.

في إطار سعيها إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من هذه الثروات، تعكف دول الحوض الشرقي للمتوسط على توسيع رقعة حدودها البحرية مع ما يستتبع ذلك من نزاعات حدودية في ما بينها. تبقى الخلافات الحدودية على أشدها بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى نتيجة تضارب مواقف كل من الطرفَين حول كيفية ترسيم الحدود البحرية بينهما.

تعتمد كل من اليونان وقبرص على طريقة خط الوسط لترسيم حدود مياهها الاقتصادية مع البلدان المقابلة والمجاورة لها، وذلك بالاستناد إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار للعام 1928. بيد أن تركيا لم توقّع على هذه الاتفاقية وتعد طريقة خط الوسط مجحفة بحقها انطلاقًا من أن المبدأ الأساس في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة هو الإنصاف، وتستند في ذلك على قواعد معتمدة في القانون الدولي بما فيها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. قامت تركيا بتاريخ 27 تشرين الثاني 2019، بتوقيع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق في ليبيا حول الحدود البحرية. أثارت هذه المذكرة حفيظة الكثير من الدول وعلى رأسها اليونان، وقبرص واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي. 

في ظل الخلافات الحدودية بين تركيا من جهة وقبرص واليونان من جهة أخرى، تتجلى الإشكالية الآتية: ما هي وسائل حل النزاع الحدودي بين تركيا من جهة وقبرص واليونان من جهة أخرى؟

يهدف هذا البحث إلى دراسة النزاع على الحدود البحرية بين هذه الدول استنادًا إلى معايير القانون والقضاء الدوليَين للوقوف على سبل حل النزاع.

تكمن أهمية هذه الدراسة في تسليط الضوء على أبرز النزاعات الحدودية في الحوض الشرقي للمتوسط التي قد تؤدي إلى تأجيج الصراعات في هذا الحوض. إن هذه القضية ذات تأثير مباشر على التحالفات القائمة في المنطقة وعلى التحكم بمفاتيح الطاقة في الشرق الأوسط.

من هنا، لا بدّ من سبر خلفية النزاع على الحدود البحرية بين تركيا من جهة وقبرص واليونان من جهة أخرى في القسم الأول من خلال ترسيم الحدود البحرية ومصدر النزاع، ليصار في القسم الثاني إلى إبراز الاختلاف في آراء كل من الطرفَين استنادًا إلى القانون الدولي والقضاء الدولي حول عرض وجهات نظر متناقضة لترسيم الحدود.

 

القسم الأول

ترسيم الحدود البحرية: مصدر للنزاع

إن الغاز المكتشف في الحوض الشرقي للمتوسط خلال العقد الأخير، أشعل النزاعات على الحدود البحرية بين الدول المطلة على هذا الحوض. تتمثل جل النزاعات بإشكاليات ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتقابلة والمتجاورة، ولا سيما في الامتدادات البحرية الضيقة، كمنطقة شرق المتوسط وبحر إيجه. يشكل الخلاف الحدودي بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى النزاع الأبرز نظرًا للتداخل الكبير في الترسيم المعتمد من قبل كل من الطرفَين (الملحق «أ»). لتحليل التوتر الحاصل شرق المتوسط بين تركيا وقبرص واليونان، تبرز الحاجة لتبيان الفرق في مفهوم السيادة بين المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتسليط الضوء على الاختلاف في مبدأ ترسيم الحدود البحرية في كل من هاتَين المنطقتَين.

الملحق «أ » مناطق النزاع حول الحدود البحرية بين قبرص واليونان وتركيا 1

 

أولاًً:  بين سيادة الدولة وحقوقها السيادية

كما تُسهم الحدود البرية في تشكيل خط سياسي بين الدول، تبرز بحرًا حدود المياه الإقليمية والاقتصادية لتفصل بين المناطق البحرية التابعة للدول. تختلف حقوق الدولة في مياهها وفق النطاق البحري الذي تقع فيه هذه المياه. وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والقانون العرفي البحري، للدولة الساحلية سيادة على مياهها الإقليمية كسيادتها على أراضيها مع بعض الاستثناءات، بينما لها حقوق سيادية في منطقتها الاقتصادية الخالصة تتمثل بحصرية استثمار الموارد الطبيعية في البحر وتحت قعره.

 

1. سيادة الدولة على مياهها الإقليمية

وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار للعام ١٩٨٢، تمارس الدولة سيادتها على المياه الإقليمية Territorial Waters. تشمل السيادة سطح البحر، قاعه وأسفله وما تعلو مياهها من طبقات الجو. تمتد المياه الإقليمية حتى 12 ميلًا بحريًا انطلاقًا من خط الأساس Baseline وهو حد أدنى الجزر على امتداد الساحل كما هو مبين على الخرائط ذات المقياس الكبير المعترف بها رسميا من قبل الدولة الساحلية2. تمارس الدولة سيادتها على هذه المياه مع بعض الاستثناءات، إذ لا يمنع فيها مرور سفن أجنبية لأغراضٍ بريئة شرط أن يكون المرور سريعًا ومتواصلًا ولا يضر بمصالح الدولة الساحلية، أي مجرد المرور أصبح حقًا للسفن كافة في العالم3. نبّهت الاتفاقية إلى حالات لا يكون فيها المرور بريئًا، ومن حق الدولة عدم السماح به، وذلك حين يكون فيه تهديدًا لسيادتها وسلامة أمنها. أبرز تلك الحالات أنشطة صيد السمك، والقيام بأنشطة بحث أو مسح زلزالي، أو جمع معلومات تضر بدفاع الدولة الساحلية وأمنها، أو أي مناورة أو تدريب بأسلحة من أي نوع، أو إطلاق أي طائرة أو هبوطها، وأي عمل من أعمال التلويث المقصود والخطير4. وهكذا تعد أعمال المسح الزلزالي والتنقيب في المياه الإقليمية لدولةٍ ما انتهاكًا لسيادتها الوطنية وعملًا عدائيًا تتخذ الدولة إزاءه إجراءات مضادة كنشر السفن الحربية لوقف هذه الأنشطة. ومن هنا تتجلى التوترات بين كل من تركيا واليونان وقبرص نتيجة المسوحات التي يقوم بها كل طرف في المناطق المتنازع عليها.

 

2. حقوق الدولة السيادية في منطقتها الاقتصادية الخالصة

تعرّف اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المنطقة الاقتصادية الخالصة Exclusive Economic Zone على أنها المنطقة الممتدة من حدود المياه الإقليمية حتى مسافة 200 ميل بحري عن خط الأساس على امتداد الشاطئ كحدٍ أقصى، أي أنه في حال كان هناك دولتان متقابلتان تبعد شواطئهما مسافة ١٠٠ ميل بحري، في هذه الحالة تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما بحدود نصف المسافة تقريبًا أي ٥٠ ميلًا بحريًا لكل دولة ما لم يكن هناك اعتبارات خاصة، بحكم أن التقسيم يجب أن يراعي قاعدة الإنصاف. تتمتع الدولة الساحلية في المنطقة الاقتصادية الخالصة بحقوقٍ سيادية تتمثل بحصرية استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في البحر كصيد الأسماك، وفي الأرض وتحتها من الثروات المعدنية والنفطية وغيرها5. أي أنه لا يحق لأحدٍ استغلال ثروات هذه المنطقة من دون موافقة الدولة الساحلية. في المقابل، لا يمكن للدولة أن تمنع مرور السفن فيها إذ ينطبق عليها مبدأ حرية الملاحة للدول كافة.

تتلاقى المنطقة الاقتصادية الخالصة مع ما يعرف بالجرف القاري، وهو يشكل قاع الأرض وباطنها من جهة البحر والذي يمتد إلى ما وراء البحر الإقليمي وصولًا إلى الطرف الخارجي للحافة القارية، أي إلى الحد الذي يصبح فيه انحدار الكتلة البرية المغمورة شديدًا. يمتد الجرف القاري إلى حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، أو إلى 350 ميلًا بحريًا كحد ٍأقصى من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي. في حالة البحر المتوسط تتطابق المياه الاقتصادية عادة مع الجرف القاري، نظرًا لعدم تجاوز الجرف حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة التي لا تتخطى مسافة ٢٠٠ ميل بحري نظرًا للمجالات المائية الضيقة نسبيًا بين الدول.

 

ثانيًا: ترسيم حدود المناطق البحرية

تختلف القاعدة في ترسيم الحدود البحرية باختلاف المناطق البحرية ذات الصلة، في حين تتقدم طريقة خط الوسط في المياه الإقليمية، وتتقدم قاعدة الإنصاف في المنطقة الاقتصادية الخالصة.

 

1. القاعدة الأساس التي ترعى ترسيم حدود المياه الإقليمية

حددت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار قواعد تعيين حدود المياه الإقليمية بين الدول الساحلية المتقابلة أو المتجاورة إذ تعتمد عليها في تعيين حدود مياهها الإقليمية. حددت المادة ١٥ من الاتفاقية بأنه لا يحق لأي من الدولتَين، في حال عدم وجود اتفاقية بينهما، أن تمد بحرها الإقليمي إلى أبعد من خط الوسط الذي تعد كل نقطة عليه متساوية في بعدها عن أقرب النقاط على خط الأساس الذي يقاس منه عرض البحر الإقليمي لكل دولة. وجاء نص المادة وفق الآتي:

«حيث تكون سواحل دولتَين متقابلة أو متلاصقة، لا يحق لأي من الدولتَين، في حال عدم وجود اتفاق بينهما على خلاف ذلك، أن تمد بحرها أي خط الوسط الذي تكون كل نقطة عليه متساوية في بُعدها عن أقرب النقاط على خط الأساس الذي يقاس منه عرض البحر الإقليمي لكل من الدولتَين. غير أن هذا الحكم لا ينطبق حين يكون من الضروري بسبب سند تاريخي أو ظروف خاصة أخرى تعيين حدود البحر الإقليمي لكل من الدولتَين بطريقةٍ تخالف هذا الحكم6».

على هذا النحو، توفر المادة ١٥ من الاتفاقية المنطلق لترسيم حدود المياه الإقليمية. يرى Fietta أن هذا الحال ينطبق على الدول غير الأطراف في الاتفاقية، وذلك لأن أحكام ترسيم الحدود البحرية في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تعد من قواعد القانون الدولي العرفي، وفق ما أكدته محكمة العدل الدولية في قضية النزاع حول الحدود البحرية بين مملكة البحرين ودولة قطر. لاحظت محكمة العدل الدولية في قضية قطر والبحرين، أن المادة 15 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار متطابقة تقريبًا مع المادة 12 من الاتفاقية حول البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة في العام 1958 7.

يعزز ذلك من قوة المادة ١٥ كمبدأ أساسي من القانون الدولي العرفي، ما يمنحها قابلية التطبيق حتى على الدول غير الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. ومع ذلك، يبقى التحدي الرئيس في تطبيق هذه المادة على النزاعات البحرية المعقدة، حيث قد تتداخل مصالح الدول المعنية. بينما تسعى المادة 15 إلى تحقيق العدالة عبر مبدأ الخط الوسط، فإن قضايا الخلافات الحدودية بين الدول تشير إلى ضرورة مراعاة الظروف الخاصة لكل نزاع. لذلك، يحد التفسير المتوازن للأحكام القانونية من التوترات ويزيد من فرص الحلول السلمية في النزاعات الحدودية البحرية.

في الواقع، تعتمد كل من اليونان وقبرص على قاعدة خط الوسط لترسيم حدود مياههما الإقليمية وحدود منطقتهما الاقتصادية الخالصة، في حين أن تركيا ترى هذه الطريقة مجحفة بحقها، وهي غير ملتزمة بها بحكم أنها لم تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

 

2. القاعدة الأساس التي ترعى ترسيم حدود المياه الاقتصادية

على عكس المادة ١٥ من الاتفاقية، كانت المادتان 74 و83 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار اللتان تتضمنان أحكامًا متطابقة بما يتصل بترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة ومناطق الجرف القاري جديدتَين، أي أنهما لم تكونا جزءًا من الاتفاقية حول البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة في العام 1958. تعكس المادتان 74 و83 تسوية قانونية ودبلوماسية تم التوصل إليها في المؤتمر الثالث لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بين مجموعتَين من الدول ذات وجهات نظر قانونية متناقضة حول ترسيم الحدود البحرية: أولًا، تلك التي دعت إلى ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري على أساس مبدأ تساوي البعد مع استثناء الظروف الخاصة؛ وثانيًا، تلك التي دعت إلى ترسيم هذه الحدود على أساس مبادئ الإنصاف الأكثر مرونة وربما الأكثر غموضًا. وفي حين أقرّت كل مجموعة بأن ترسيم الحدود البحرية من خلال الاتفاق هو الوسيلة الأكثر إرضاءً لحل المطالب المتداخلة، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الاتفاق على المبادئ التي ينبغي أن يستند إليها ترسيم الحدود في غياب الاتفاق. على سبيل المثال، في الدورة السابعة من المؤتمر الثالث لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي عُقدت في العام 1978، اقترحت مجموعة من عشرين دولة صيغة لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري على أساس خط الوسط أو خط البعد المتساوي، ولكنها تلقت اقتراحًا مضادًا من سبع وعشرين دولة على أساس ترسيم الحدود وفق مبادئ الإنصاف8.

في الدورة العاشرة من المؤتمر الثالث للاتفاقية والتي عُقدت في العام 1981، أنتجت المفاوضات نصًا وفّق بين وجهتَي النظر إذ ركّز على ترسيم الحدود بالاتفاق على أساس القانون الدولي والتوصل إلى حل منصف. بالتالي، ركّز الاقتراح على الهدف من عملية ترسيم الحدود، وليس الطريقة أو المنهجية التي ينبغي استخدامها في عملية الترسيم، وقد حظي بدعم مجموعتَي ترسيم الحدود وتمّ دمجه في المادتَين 74 و83 من الاتفاقية9.

وهكذا يتبين أن القاعدة الأساس التي ترعى ترسيم حدود المياه الاقتصادية والجرف القاري لا تقوم على أساس خط الوسط كما هو الحال بالنسبة للمياه الإقليمية، بل على أساس الاتفاق بين الدول بما يؤمّن حلًا منصفًا بين الأطراف المتنازعة. يأتي ذلك نظرًا لحرص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على جعل الإنصاف قاعدة لترسيم حدود المناطق الاقتصادية. نصت المادة ٧٤ من الاتفاقية على أنه «يتم تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذوات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي، كما أشير إلى ذلك في المادة ٣٨ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من أجل التوصل إلى حل منصف»10. كما نصت المادة ٨٣ من الاتفاقية على ترسيم حدود الجرف القاري بنفس الطريقة المتبعة للمياه الاقتصادية. وقد أشارت اتفاقية قانون البحار للمادة ٣٨ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية كون المحكمة تفصل في النزاعات التي ترفع إليها وفق أحكام القانون الدولي، على أساس حل منصف للأطراف المتنازعة11. بناء عليه، أرسى القانون الدولي قاعدة لتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري بين الدول المتجاورة أو المتقابلة على أساس الاتفاق بما يؤمّن الإنصاف في استثمار الثروات الطبيعية سواء الثروة السمكية أو الثروات النفطية أو غيرها من الثروات كالمعادن. ويصب هذا التوجه في التقسيم في صالح تركيا التي تعتبر أن طريقة خط الوسط غير مناسبة لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة. من هنا أهمية الغوص في وجهة نظر كل من البلدَين حول عملية الترسيم لصعوبة تحديد معنى ومبدأ الإنصاف (الملحق «ب»).

الملحق «ب » حدود المناطق الاقتصادية شرقَي المتوسط وفق قانون البحار على أساس قاعدة خط الوسط 12

 

القسم الثاني

وجهات نظر متناقضة لترسيم الحدود

تتعقد مسألة ترسيم الحدود البحرية حين تتداخل مطالب دولتَين أو أكثر من الدول المتقابلة، أو التي تتلاصق مناطقها البحرية كما هو الحال بالنسبة لتركيا واليونان وقبرص. قد تكون المعايير الدولية المعتمدة في ترسيم هذه الحدود ملائمة لمعالجة الكثير من حالات ترسيم الحدود الخارجية للمناطق البحرية للوصول إلى حل منصف، لكن هناك حالات يكون التحديد فيها صعبًا بسبب تشابك المناطق البحرية لعدة دول. دفع ذلك المجتمع الدولي إلى البحث عن حلول لهذه الحالات، سواء أكان عن طريق الاتفاقيات الدولية أو القضاء الدولي. تعد حالة النزاع على الحدود البحرية بين تركيا وقبرص واليونان من القضايا الشائكة التي تتطلب الكثير من الجهود لإيجاد حل منصف لها. ونظرًا لارتباط الترسيم بالثروات الغازية الضخمة التي يختزنها باطن الأرض لا تزال الهوة شاسعة بين وجهة النظر القبرصية واليونانية، ووجهة النظر التركية.

 

أولاًً:  وجهة النظر القبرصية واليونانية

تسير قبرص في ترسيم حدودها البحرية على أساس قاعدة خط الوسط، وهي إحدى الطرق المعتمدة في ترسيم حدود المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة. تتعقد المسألة أكثر بالنسبة لترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا نتيجة تشابك المياه الإقليمية والاقتصادية بين كل من الدولتَين.

 

1. قبرص سائرة في ترسيم حدودها على أساس خط الوسط

خلال العقد الأول من القرن الحالي، وقّعت جمهورية قبرص اتفاقيات ثنائية لتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة استعدادًا للتنقيب عن النفط والغاز. في العام 2003، وقّعت قبرص اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع مصر، تلاها تشريع وطني في العام 2004 يحدد من جانب واحد المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية. في العام 2007، وقّعت جمهورية قبرص اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة مع لبنان13. في العام 2010، قبل وقت قصير من اكتشاف حقل ليفياثان للغاز من قبل «إسرائيل»14، وقّعت مع قبرص اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة. كانت تحتج أنقرة كل مرة على عملية الترسيم عقب التوقيع على اتفاقيات المنطقة الاقتصادية الخالصة الثنائية بين قبرص وكل من مصر ولبنان15. حددت الحكومة القبرصية أيضًا 13 بلوك حفر خاصة بمنح تراخيص التنقيب للشركات النفطية الكبرى. تدّعي أنقرة أن خمسة منها متداخلة مع الجرف القاري التركي.16 إن قاعدة خط الوسط في ترسيم الحدود البحرية التي تعتمدها قبرص مع دول الحوض الشرقي للمتوسط، تتيح لها الاستحواذ على نطاق مائي واسع حول الجزيرة على حساب تركيا.

 

2. مسألة ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا أكثر تعقيدًا

تتماشى وجهة نظر اليونان مع وجهة النظر القبرصية إذ تعتمد اليونان على طريقة خط الوسط في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، إلا أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لم تعط هذه الطريقة أسبقية على غيرها كما رأينا سابقًا. استبعدت المادة 83 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار قاعدة خط الوسط أو ما يعرف بتساوي البعد لتعيين حدود الجرف القاري الذي يشكل قاع المنطقة الاقتصادية الخالصة في حالة البحر الأبيض المتوسط17. ولكن يجوز استخدام هذه القاعدة في حال اتفاق الدول المتجاورة أو المتقابلة على تعيين حدود المنطقة الاقتصادية والجرف القاري وفقها.

إن المشكلة في ترسيم الحدود بين اليونان وتركيا تكمن بقرب الجزر اليونانية من الشاطئ التركي (الملحق «ج»).

الملحق «ج » الحدود البحرية بين اليونان وتركيا 1٨

 

ويتعلق النزاع الأول بجزيرة إيميا Imia حسب التسمية اليونانية وكارداك Kardak بحسب التسمية التركية والذي كاد أن يشعل حربًا بين البلدَين في العام 1996. تبعد الصخرة حوالى ٣،٦ ميل بحري عن الساحل التركي في حين أنها تبعد حوالى ٥،٥ ميل عن أقرب الجزر اليونانية (صورة تبين جزيرة إيميا/كارداك المتنازع عليها).

جزيرة إيميا/كارداك المتنازع عليها 1٩

 

ونظرًا لقربها من تركيا، ينادي الأتراك بأن الجزيرة تركية، كما أن معاهدة لوزان ومعاهدة باريس، التي بموجبها أعطت إيطاليا جزر «الدوديكانيز Dodecanese»20 لليونان لم تذكر صخور إيميا. مع ذلك، تؤكد معاهدة باريس للسلام في العام 1947 بوضوحٍ أن إيطاليا تتنازل لليونان عن 12 جزيرة من الدوديكانيز محددة بالإسم وكذلك الجزر الصغيرة المجاورة وإيميا هي إحدى هذه الجزر. تستند اليونان في حجتها إلى معاهدة لوزان التي تركت لتركيا فقط تلك الجزر التي تقع في نطاق 3 أميال، باستثناء جزيرة كاستلوريزو Kastellorizo في جنوب شبه جزيرة الأناضول وتبعد عنها مسافة ميل بحري واحد (صورة تبين جزيرة كاستلوريزو). بالإضافة إلى ذلك، تؤكد تركيا أن اليونان تواصلت مع تركيا في عامَي 1950 و1953 للتحقق من المعاهدات السابقة المتعلقة بالدوديكانيز والجزر الصغيرة، وترفض اليونان حدوث أي شيء من هذا القبيل. كما نص بروتوكول العام 1932 بين تركيا وإيطاليا على أن إيميا كانت إيطالية آنذاك، ما يعني أنه بعد العام 1947 أصبحت بلا شك يونانية، حيث كان هناك خط وسطي يمر بين جزر إيميا على الجانب الإيطالي وجزيرة كاتو على الجانب التركي21. من الواضح أن الاختلاف في تفسير المعاهدات هو المشكلة الرئيسة المتعلقة بهذه القضية المتنازع عليها.

جزيرة كاستلوريزو 22

 

ثانيًا: وجهة النظر التركية رافضة لخط الوسط

ترفض تركيا وجهة النظر القبرصية واليونانية المرتكزة على طريقة خط الوسط وتعترض عليها كونها لا تؤمّن الإنصاف في توزيع الثروات، كما أنها تتوجس من اليونان حول مد مياهها الإقليمية إلى حدود الاثني عشر ميلًا بحريًا، كون ذلك يخالف الاتفاقيات المعقودة ويعد فتيلًا لإشعال الحرب بين البلدَين.

 

1. لتركيا وجهة نظر مقبولة في ترسيم الحدود البحرية

تعترض تركيا على الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها قبرص مع دول الجوار لتحديد المنطقة الاقتصادية، على أساس أن البحر الأبيض المتوسط هو بحر شبه مغلق وجميع الدول المطلة على البحر التي لها مصلحة خاصة يجب أن تشارك في اتفاقيات ترسيم الحدود23. لذلك، تدعو أنقرة إلى اتباع نهج متعدد الأطراف لحل القضايا الحدودية العالقة في المنطقة. ومع ذلك، في ظل عدم وجود حل متعدد الأطراف، تتبع تركيا أيضًا المسار الثنائي لتوقيع اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع القليل المتبقي من حلفائها الإقليميين، مثل اتفاقية الجرف القاري في العام 2011 التي وقّعتها مع جمهورية شمال قبرص واتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة في العام 2019 مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا24. لاحقًا، أعلنت تركيا أنه تم تسجيل هذه الاتفاقية مع حكومة الوفاق في الأمم المتحدة25 (صورة تبين ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا).

ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا

 

ترى أنقرة أن الموارد الطبيعية القبرصية، بما في ذلك أي ثروات في قاع البحر، تنتمي إلى كلا الشعبَين. بالتالي، لا يمكن لحكومة جمهورية قبرص ترسيم الحدود البحرية من جانب واحد، أو إصدار تراخيص، أو الاستفادة من الموارد التي يوفرها الغاز الطبيعي قبل اعتماد آلية لتقاسم الإيرادات بين الطرفَين27. وهكذا، تشدد تركيا من خلال ذلك على مبدأ الإنصاف في توزيع الثروات الذي تنص عليه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

إضافة إلى ذلك، تستند تركيا في رؤيتها لترسيم الحدود البحرية إلى القانون الدولي العرفي الذي يحد من تأثير المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزر. فعندما تقع جزيرة داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة الطبيعية لدولةٍ أخرى، يتم حساب المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة جزئيًا عن طريق مقارنة الأطوال النسبية لخط الساحل للجزيرة والدولة المجاورة. في حين أن تخصيص المناطق الاقتصادية الخالصة لا يكون بالضرورة متناسبًا مع أطوال السواحل، إلا أن القانون الدولي العرفي يجعلها متناسبة إلى حد ما. في حالة جزيرة كاستلوريزو اليونانية والساحل التركي، تبلغ النسب حوالى 420 كم/14 كم، أي 30/1 28. وبالتالي لا يمكن اعتبار، على أساس قاعدة الإنصاف، أن المنطقة الاقتصادية للجزيرة يجب أن تكون مماثلة للبر التركي، وذلك من وجهة النظر التركية (صورة تبين ترسيم الحدود البحرية وفق وجهة النظر التركية).

ترسيم الحدود البحرية وفق وجهة النظر التركية

 

تؤكد تركيا أن اعتماد طريقة خط الوسط في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري يجب أن يكون بين سواحل دول البحر المتوسط من دون الجزر. بمعنى آخر لن يكون للجزر اليونانية أو جزيرة قبرص تأثير في الترسيم مثل الأراضي الرئيسة. يأتي الموقف التركي بالاستناد إلى قرارات صادرة عن محكمة العدل الدولية والهيئات التحكيمية والتي تنص على أنه من الجائز منح الجزر مياهًا إقليمية من دون منطقة اقتصادية خالصة30.

في هذا الإطار، يرى الجانب التركي، تحسبًا لحماية حقوقه ومصالحه، أنه عند تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة يجب اعتماد خط وسط بين الساحل التركي وسواحل كل من ليبيا ومصر باعتباره المبدأ الأساس. كما يجب أن تراعي عملية الترسيم مبدأ التفوق الجغرافي في ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية بين قبرص وتركيا نظرًا للفارق في أطوال السواحل بين البلدَين، بالإضافة إلى مبدأ عدم الإغلاق، طالما أن جزيرة قبرص والجزر اليونانية في موقع يعيق انفتاح تركيا نحو البحر. أما بالنسبة لقبرص والجزر اليونانية فيجب أن يتم الاكتفاء بمناطق بحرية لا تتعدى المجال المحدد للمياه الإقليمية.31

لا تحبّذ محكمة العدل الدولية كثيرًا قاعدة خط الوسط، حتى ولو كانت تلك القاعدة تؤدي إلى نتائج منصفة في العديد من حالات ترسيم حدود المياه الاقتصادية. يُعتبر الدليل على ذلك أن المادة 74 من اتفاقية قانون البحار المتعلقة بتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، والمادة 83 المتعلقة بتعيين حدود الجرف القاري لم ينصا على هذه القاعدة.

بيّنت محكمة العدل الدولية في قضية الجرف القاري لبحر الشمال في العام 1969 بأنه لا يوجد في مختلف أعمال لجنة القانون الدولي ما يدل على أنه يجب تبنّي قاعدة خط الوسط، وبالتالي فإنها ليست من المبادئ الأساسية لتعيين حدود الجرف القاري. كما أكدت محكمة العدل الدولية في قضية الجرف القاري بين ليبيا وتونس في العام 1982 أنه لا يوجد قاعدة قانونية ملزمة توجب تطبيق قاعدة الأبعاد المتساوية32. وهكذا تبدو وجهة النظر التركية مستندة على أساس قانوني له قيمته في القانون الدولي البحري.

من جهة أخرى، تقترح اليونان تسوية الحدود البحرية عن طريق اللجوء إلى القضاء الدولي في محكمة العدل الدولية ICJ في لاهاي. رفضت تركيا الاقتراح كون هذه المحكمة تطبّق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتركيا واحدة من عدد قليل من الدول التي لم توقّع عليها وبالتالي تجد نفسها غير ملزمة بها33. يزيد ذلك المسألة تعقيدًا ويصبح من الصعب التوصل إلى حل يقبل به الطرفان.

 

2. حدود المياه الإقليمية: نقطة خلاف جوهرية

يحتدم النزاع بين تركيا واليونان حول الجزر اليونانية بسبب إعلان اليونان نيّتها مدّ حدود مياه الجزر اليونانية قبالة السواحل التركية إلى 12 ميلًا بحريًا. تعتبر تركيا هذا الموضوع بمثابة إعلان حرب، إن مدّ اليونان المياه الإقليمية للجزر اليونانية إلى حدود الاثني عشر ميلًا بحريًا وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار يعد بالنسبة للأتراك سببًا للذهاب إلى الحرب34.

في العام 1936، حددت اتفاقية مونترو Montreux المياه الإقليمية للجزر اليونانية الواقعة على حدود تركيا بستة أميال بحرية بعد أن كانت ثلاثة أميال بحرية. ثم أعلنت تركيا توسيع رقعة مياهها الإقليمية استنادًا لهذه الاتفاقية في العام 1964 إلى ستة أميال بحرية35. تجدر الإشارة إلى أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار أعطت الدول الحق في مد مياهها الإقليمية إلى 12 ميلًا بحريًا كحدٍ أقصى.

تعتبر تركيا أن العديد من الجزر المتنازع عليها لم يتم ذكرها في أي اتفاقية، وبالتالي لا يمكن الجزم بسيادة كل منها سواء أكانت تركية أم يونانية. من ناحية أخرى، تعتبر اليونان أن معاهدة لوزان في المادة 12 تؤكد بوضوحٍ أن أي جزر أو صخور تقع ضمن 3 أميال من الساحل التركي تنتمي إلى تركيا باستثناء كاستلوريزو التي تبعد حوالى ٢ كلم من الساحل التركي وتنتمي إلى اليونان. بالتالي، تنتمي بقية الجزر والصخور في بحر إيجه خارج 3 أميال من شبه جزيرة الأناضول إلى اليونان. بينما تعتبر تركيا أن ليس كل جزيرة وصخرة تنتمي إلى اليونان ولكن للدولة التي ورثت الإمبراطورية العثمانية، مشيرة بذلك إلى الدولة التركية36.

استولت اليونان على الجزر والتجمعات الصخرية المحاذية للساحل التركي من الإمبراطورية العثمانية في حروب البلقان 1912-١٩١٣، وتم منحها السيادة رسميًا عليها في معاهدة لوزان في العام 1923. بيد أن معاهدة لندن 1914، جعلت حيازة اليونان للجزر مشروطة بجعلها منزوعة السلاح. تعتبر تركيا أنه طالما أن معاهدة لوزان أشارت إلى معاهدة لندن في العام 1914، فإنها تفترض قيام نفس الشروط المرتبطة بجعل الجزر منزوعة السلاح؛ بالمقابل، ترفض اليونان هذا التفسير37.

تنص معاهدة لوزان على عدم قيام اليونان ببناء قواعد بحرية أو تحصينات أو تجمعات كبيرة للقوات على الجزر. لكن اليونان بدأت بالفعل في وضع قوات على الجزر في الستينيات، بعد تدهور العلاقات في قبرص بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، ما أدى إلى تعقيد العلاقات اليونانية التركية. وبعد التدخل العسكري التركي واحتلال الشطر الشمالي من الجزيرة، قامت اليونان بتعزيز قواتها على جزرها في بحر إيجه. حاليًا يمد كل طرف حدود مياهه الإقليمية في بحر إيجه إلى ستة أميال بحرية38. في الواقع، لا تكمن المشكلة الفعلية في الجزر بل في المياه نتيجة الثروات الهائلة التي يحويها قاع البحر.

في حال عدم توصل الطرفَين لاتفاق حول الترسيم، فإن اتفاقية 1982 توفر طريقة لحل النزاعات، وقد نصت المادة 279 على وجوب حل النزاعات بالطرق السلمية، وذلك يتطابق مع ما نص عليه البند الثالث والثلاثين من ميثاق الأمم المتحدة على أن تكون طرق فض النزاعات من اختيار الدول المعنية. هذه الطرق تشمل المفاوضات، فإن لم تؤت ثمارها تلجأ الدول إلى الوساطة أو التحكيم أو اللجوء إلى القضاء الدولي لا سيما محكمة العدل الدولية أو المحكمة الدولية لقانون البحار. تشير المادة 283 من الاتفاقية إلى أنه حين نشوب خلاف بين الدول المنضمة أو الموقعة على هذه الاتفاقية في شأن تطبيق بنودها وتفسيرها يجب أن تلجأ هذه الدول بسرعةٍ إلى تبادل للآراء حول فض النزاع بالمفاوضات أو بأي من الوسائل السلمية.

أتاح الزلزال الذي ضرب تركيا في العام 2023 فرصة لإزالة الفتور في العلاقات بين تركيا واليونان. قدّمت الأخيرة الدعم لتركيا، متعهدة بتوفير الدعم الأوروبي لها. وفي كانون الأول 2023، وقّع الجانبان على اتفاقيات ثنائية، من ضمنها إعلان أثينا الذي التزمت فيه الدولتان تنمية علاقات الصداقة وحسن الجوار. على الرغم من هذا الانفتاح، لا يزال الحذر بين البلدَين قائمًا. ففي نيسان 2024، أثار إعلان اليونان عن إقامة منتزه بحري في بحر إيجه، رد فعل أنقرة39. أعلنت وزارة الخارجية التركية أن المنتزه يقع في منطقة متنازع عليها، وأكدت أنها ترفض الأمر الواقع الذي تسعى اليونان إلى فرضه من خلال هذا العمل40.

تجدر الإشارة إلى أنه بعد التطورات التي حدثت في سوريا، بدأ الحديث عن رغبة تركية في ترسيم الحدود البحرية مع سوريا. في كانون الأول 2024، أعلن وزير النقل والبنية التحتية التركي عن احتمال عقد اتفاق حول ترسيم الحدود البحرية مع سوريا عن طريق التفاوض مع الحكومة الجديدة في سوريا بعد قيام السلطة فيها وفق القانون الدولي41. أثار الحدث قلق الحكومة اليونانية وأعاد إلى الواجهة قضية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان.

يترتّب عن إبرام مثل هذا الاتفاق ترسيخ النفوذ التركي في الحوض الشرقي للمتوسط من خلال الاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية. كما أن توقيع الحكومة السورية اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية مع قبرص قد يزيد من منسوب التوتر كون قبرص التركية غير معترف بها كدولةٍ سوى من جانب تركيا. ينظر كل من اليونان وقبرص إلى هذا الاتفاق على أنه يمنح تركيا حقوقًا بحرية إضافية. أعلنت الدولتان رفضهما لمثل هذا الاتفاق كونه يهمل موقفهما من قضية ترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط، ما يعدّ انتهاكًا للقانون الدولي. وعليه، ستعمد اليونان إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لمواجهة الخطط التركية والتصدي لها من خلال التنسيق مع قبرص و«إسرائيل»42. بالنظر إلى أن الحكومة السورية الجديدة، بعد تشكيل السلطة في دمشق، قد تكون أكثر استعدادًا للاعتراف بمطالب تركيا في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وقد يساهم ذلك في تعزيز موقف أنقرة في النزاعات القائمة مع اليونان وقبرص ويفك من عزلتها.

يتبين لنا أن كل طرف يبني مطالبه على معاهدات وقرارات لا يقبل بها الطرف الآخر. من هنا ضرورة قيام جهود دبلوماسية لحث الأطراف على تغليب لغة الحوار على لغة التهديد، وبالتالي العمل على ضرورة إيجاد وسيط يقبل به الطرفان للتنسيق مع أطراف النزاع بهدف التوصل إلى حلول لتسوية النزاع بالطرق السلمية ويؤمّن حلًا منصفًا للأطراف المعنية.

 

الخلاصة

في العقد الأخير، برز الحوض الشرقي للبحر المتوسط كمنطقةٍ للصراع نتيجة التنافس على الموارد النفطية التي يحتويها قاع البحر. تتجلى ذروة التنافس في الخلاف الحدودي بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى نتيجة التداخل الكبير بين الترسيم المعتمد من قبل كل من الطرفَين. في ظل هذا التنافس الحاد، برزت الحاجة لمقارنة وجهتَي نظر الفريقَين من منظور القانون والقضاء الدوليَين للوقوف على إمكانية إيجاد حل لهذه الأزمة.

تعد المياه الإقليمية مياهًا تمارس فيها الدولة سيادتها كما تفعل على اليابسة، وتستأثر الدولة الساحلية بثروات هذه المياه. أما حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة فتشكل نطاقًا للمياه التي تعطي الدولة حقوقًا سيادية تتمثل في حصرية استثمار الثروات الطبيعية فيها. تأخذ طريقة خط الوسط الأسبقية في ترسيم حدود المياه الإقليمية مع الأخذ بالظروف الخاصة (وجود الصخور والجزر، أطوال الشواطئ ...)، في حين يُبنى ترسيم المياه الاقتصادية على أساس الاتفاق، وذلك وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

تتناقض وجهة نظر كل من تركيا وقبرص واليونان حول طريقة ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة، إذ تعتبر تركيا أن قاعدة خط الوسط التي تستند إليها كل من قبرص واليونان تتناقض مع قاعدة الانصاف وتعرقل انفتاح تركيا على البحر. ترتكز تركيا في ذلك على قرارات سابقة لمحكمة العدل الدولية وعلى العرف الدولي الذي يرتكز على الإنصاف وليس على قاعدة خط الوسط في ترسيم الحدود البحرية. كما أن اتفاقية الأمم المتحدة لم تعط طريقة خط الوسط أسبقية على غيرها في مجال الترسيم.

قد يساهم الاتفاق مع الحكومة السورية المستقبلية في إعطاء تركيا المزيد من الشرعية لوجهة نظرها في الترسيم، وقد تتعقد المسألة في حال قيام الحكومة السورية بترسيم حدودها مع قبرص اليونانية. إن الخلاف على ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا يشمل أيضًا النزاع على الجزر في بحر إيجه لا سيما جزيرة إيميا/كارداك.

في الختام، لا بدّ من تكثيف المساعي الدولية لمنع تدهور الوضع في المنطقة. يتطلب ذلك مبادرات من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لحث الدول المعنية (تركيا، قبرص، اليونان، مصر، ليبيا وسوريا) لإيجاد تسوية للخلاف الحدودي بينها بما يسمح بالتقاسم العادل للثروات في الحوض الشرقي للمتوسط.

في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى المضي في تكثيف الدراسات حول الترسيم الناجع لحل الخلافات الحدودية البحرية بين تركيا من جهة وقبرص اليونان من جهة أخرى، على أن يكون مقبولًا من قبل كلا الطرفَين على أساس قاعدة الإنصاف.

 

المصادر والمراجع

 باللغة العربية

1.   اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مونتيغو باي 1982، الأمم المتحدة، على الرابط: www.un.org/depts/los/convention_agreements/texts/unclos/unclos_apdf.

٢.   أسليم، زيد، هل يعيد ترسيم الحدود بين تركيا وسوريا تشكيل ملامح صراع المتوسط؟، الجزيرة نت، 5/1/2025، على الرابط: https://www.aljazeera.net/politics/2025/1/5/ هل-يعيد-ترسيم-الحدود-بين-تركيا-وسوريا.

٣.   الدفاع التركية تعلن عن تسجيل اتفاقية ترسيم الحدود مع ليبيا رسميًا في الأمم المتحدة، الأمة برس، 2/10/2020، على الرابط: https://thenationpress.net/news-69185.html.

٤.   عبده، محمد، معركة ترسيم الحدود البحرية: اليونان تسعى إلى إحياء حصان طروادة، المنصة، 17/6/2020، على الرابط: https://almanassa.com/ar/story/14319.

٥.   علو، أحمد، المياه الإقليمية، مجلة الجيش، العدد 307، لبنان، كانون الثاني 2011.

٦.   فؤاد، عميرة، النظام القانوني للجرف القاري، رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الإخوة منتوري بقسطنطينة، كلية الحقوق، 2014-2015.

٧.   كوباغانيس، بناغيوتيس، الحقوق التركية في المتوسط.. هل تستند إلى أسس قانونية؟، Deutsche Welle.

٨.   نصر، جهاد، لماذا تسارع تركيا لترسيم الحدود البحرية مع سوريا؟، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، ٢٨/١٢/٢٠٢٤، على الرابط: https://rcssegypt.com/19783.

٩.   النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، جامعة منيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان، على الرابط: http://hrlibrary.umn.edu/arab/a002.html.

١٠. هلال، ياسر، تركيا التي تكسب معركة شرق المتوسط الاستراتيجية، المدن، على الرابط:

 

 باللغة الأجنبية

1. Baroud, Roudi, Unlocking Peace and Prosperity: How to Resolve Maritime Border Disputes in the Eastern Mediterranean Sea?, Issam Fares Institute for Public Policy and International Affairs at the American University of Beirut, March 2020.

2. Bouvier, Emile, Les enjeux énergétiques en Méditerranée orientale, ou la création d’une nouvelle arène géopolitique au Moyen-Orient. Partie II : manœuvres et contre-manœuvres géopolitiques en MEDOR, Les clés du Moyen-Orient, 21/04/2020, www.lesclesdumoyenorient.com/Les-enjeux-energetiques-en-Mediterranee- orientale-ou-la-creation-d-une-nouvelle-3093.html.

3. Demiryol, Tolga, Beyond Energy: The Geopolitical Determinants of Turkey’s Mediterranean Policy, the Foreign Policy Research Institute, Nov. 2020.

4. Don, Gav, Will Turkey and Greece fight a war over East Mediterranean gas?, bne intellinews, 3 Nov. 2020, www.intellinews.com/will-turkey-and-greece-fight-a-war- over-east-mediterranean-gas-195356/.

5 Fietta, Stephen, and Cleverly, Robin, A Practitioner's Guide to Maritime Boundary Delimitation, Oxford University Press, United Kingdom, 2016.

6. Fraser, Suzan, Defense minister warns Greece not to test Turkey's patience, ABC news, ­https://abcnews.go.com/International/wireStory/defense-minister-warns-greece- test-turkeys-patience-82149818, 8 Jan. 2022.

7. Imia-Kardak Rocks Dispute, Quickworld Inc., 2025, https://en.quickworld.com/ map/imia-kardak-rocks-dispute.

8. International Institute for Law of the Sea Studies [IILSS], Maritime boundaries between Greece and Turkey, http://iilss.net/maritime-boundaries-between- greece- and-turkey/, 25 May 2021.

9. Ortolland, Didier, The Greco-Turkish dispute over the Aegean Sea : a possible solution?, La revue géopolitique, 10 Apr. 2009, www.diploweb.com/ The-Greco- Turkish-dispute-over-the.html.

10. Psaropoulos, John, Turkey opens new dispute over sovereignty of east Aegean islands, Aljazeera news, 8 Feb. 2022, www.aljazeera.com/news/2022/2/8/ turkey-opens-new-dispute-over-sovereignty-of-east-aegean-islands.

11. Salapatas, Dimitris, Aegean Sea Dispute between Greece and Turkey: The Consequences for NATO and the EU, Akakia Publications, London, 2014, chapter 1.E.

12. Stergiou, Andreas, The Greek-Turkish Maritime Dispute: Resisting the Future, Springer International Publishing, Germany, 2022.

13. Tsarouhas, Dimitris, Why the latest attempt at a Greece-Turkey reset, while positive, falls short, Atlantic Council, 23 May 2024, www.atlanticcouncil.org/ blogs/turkeysource/why-the-latest-attempt-at-a-greece-turkey-reset-while-positive-falls-short/.

14. “Turkey's Legal Approach to Maritime Boundary Delimitation in the eastern Mediterranean sea.” Insight Turkey, 23(1), 2021, www.insightturkey.com/articles/ turkeys-legal-approach-to-maritime-boundary-delimitation-in-the-eastern-mediterranean-sea.

15. Turkish ministry of foreign affairs, No: 58, 9 April 2024, Regarding the Marine Park to be Announced by Greece in the Aegean Sea, Turkish government, n.d., https://www.mfa.gov.tr/no_-58_-yunanistan-in-ege-denizi-nde-ilan-edecegini-duyurdugu-deniz-parki-hk.en.mfa.

 

Maritime Boundary Dispute: Türkiye vs. Greece and Cyprus

REAR ADMIRAL MUSTAPHA EL ALY

This research aims to analyze the maritime boundary dispute between Turkey on one side and Cyprus and Greece on the other based on international law to explore potential solutions to the conflict.

According to the United Nations Convention on the Law of the Sea (UNCLOS), the median/equidistant line method takes precedence in delimiting territorial waters, while the delimitation of the exclusive economic zone (EEZ) is typically governed by agreements. Cyprus and Greece primarily rely on the median line principle for defining both their territorial waters and EEZ, referring to UNCLOS. In contrast, Turkey advocates for the application of equitable principles, citing customary international law and previous rulings of the International Court of Justice, rather than the median line principle, for maritime boundary delimitation. Additionally, UNCLOS does not prioritize the median line method over others in the context of boundary delimitation. Turkey's recent declaration of its intention to delimit boundaries with Syria may bolster its position vis-à-vis Greece and Cyprus. Given the complexities surrounding this dispute, intensive diplomatic efforts by Turkey, Greece, and Cyprus are necessary to prevent the situation from escalating.

Accordingly, we recommend intensifying international efforts to prevent further escalation in the Eastern Mediterranean and to find a solution to the issue based on equitable sharing of resources.

Conflit sur les frontières maritimes : la Turquie contre la Grèce et Chypre

Cette recherche vise à analyser le conflit de délimitation maritime opposant la Turquie à la Grèce et Chypre, en s'appuyant sur le droit international afin d'explorer des solutions potentielles à ce différend.

Selon la Convention des Nations Unies sur le droit de la mer (CNUDM), la méthode de la ligne médiane/équidistante prévaut dans la délimitation des eaux territoriales, tandis que la délimitation de la zone économique exclusive (ZEE) est généralement régie par des accords bilatéraux. La Grèce et Chypre s’appuient principalement sur le principe de la ligne médiane pour définir à la fois leurs eaux territoriales et leur ZEE, conformément à la CNUDM. En revanche, la Turquie privilégie l’application les principes d’équité, en se référant au droit international coutumier et aux précédents arrêts de la Cour internationale de Justice, plutôt qu’au principe de la ligne médiane, pour la délimitation des frontières maritimes. De plus, la CNUDM ne confère pas de priorité absolue à la méthode de la ligne médiane par rapport aux autres méthodes de délimitation.

La récente déclaration de la Turquie concernant son intention de délimiter ses frontières maritimes avec la Syrie pourrait renforcer sa position vis-à-vis de la Grèce et de Chypre.

Compte tenu de la complexité de ce différend, des efforts diplomatiques soutenus de la part de la Turquie, de la Grèce et de Chypre sont nécessaires pour prévenir une escalade des tensions.