رحلة في الإنسان

النوم في أثناء العمل
إعداد: غريس فرح

قد لا يكون التعب سبباً له

من منّا لم يرَ شخصاً يغالب النوم أو يترنّح على كرسيّه في لحظات تتطلب منه يقظة ونشاطاً لاستكمال المهام الموكلة اليه... والذين يعانون هذه المشكلة لا يولونها عموماً الكثير من الأهمية لأنها حسب تقديرهم حالة شائعة تنجم عن التعب أو عن نقص ساعات النوم في أثناء الليل. إلاّ أن الاختصاصيين ينظرون الى الأمر بطريقة مختلفة. فعدم المقدرة على مقاومة النوم في أثناء مزاولة النشاطات اليومية، أو حتى في أثناء الاستماع الى المحاضرات وفي قاعات الاجتماعات، أو خلال القيادة، هو إضطراب مرضي يعرف باسم الخدّار (Narcolepy)، ويتمثّل بنوبات نوم قصيرة وعميقة في النهار.

فما هو هذا الاضطراب، وكيف يؤثر في الصحة والسلوك؟

ظاهرة مرضية تستوجب الاهتمام

 

ما هو الخدّار؟  

 يصيب الخدّار عدداً لا يستهان به من الناس الذين لا يتنبّهون الى كونه مرضاً، الأمر الذي ينعكس سلباً على حياتهم العملية والاجتماعية، إذ يجعلهم يبدون في نظر الغير كسالى أو غير مبالين. وثبت أن أكثرية المصابين به يعانون مشاكل في علاقاتهم مع الأصدقاء وأفراد الأسرة، وخصوصاً مع أرباب العمل الذي يسعون الى طرد معظمهم لإهمالهم وعدم مقدرتهم على تحمّل المسؤولية.

وكان العالم النفسي الألماني كارل فريديريك أوتو أوّل من شخّص مرض الخدّار العام 1877، مع ذلك لم يتعرّف الباحثون الى أسبابه إلاّ مؤخراً عندما بدأوا بفك ألغاز العوامل البيولوجية المؤثرة في ظهوره، وتوصّلوا الى تحديد نقص أحد الكيميائيات في أدمغة المصابين به. واللاّفت أن الوقائع العلمية الحديثة كانت مثار دهشة المعنيين الى حدٍ ما، كونها دعت الى الاعتقاد أن نوبات النوم المتقطّعة خلال النهار، ربما تكون إضطراباً في جهاز المناعة الذاتي، كمرض السكري، والتصلّب التعدّدي. وعرف أن الأبحاث الأخيرة قد تمخّضت عن نظريات بالغة الأهمية في ما يتعلق بتشخيص المرض وتطوير العلاج المناسب.

 

كيف يتم تشخيص المرض؟

لتشخيص المرض، يراقب الأطباء النشاط الكهربائي لأدمغة المعنيين عن طريق ربطهم بآلات تخطيط الدماغ في أثناء نومهم. فالمعروف أن الشخص الطبيعي عندما يخلد الى النوم، يدخل أولاً مرحلة تُعرف بحركة العين البطيئة والتي تتألف من أربع مراحل يتم خلالها الاسترسال في النوم العميق تدريجاً، ولمدّة حوالى 90 دقيقة، تبدأ بعدها مرحلة حركة العين السريعة، حيث تتحرك العينان بسرعة تحت الجفون المطبقة، وتنشط حركة الدماغ لتولّد الأحلام. هذا من حيث المبدأ، إلاّ أن المعانين مرض الخدّار، لا يخضعون لهذا الإيقاع الطبيعي. فهؤلاء كما ثبت بالمراقبة لا يسترسلون في النوم العميق إلاّ دقائق معدودة، يدخلون بعدها في المرحلة التالية، أي حركة العين السريعة، حيث تتوالى الأحلام ويكون النوم سطحياً، الأمر الذي يحرمهم من النوم الهادئ والمفيد للمحافظة على الصحة ولتجدد الخلايا، وكذلك الشعور باليقظة والنشاط خلال النهار.

من هنا يمكن القول إن تعرّض هؤلاء لنوبات النوم في النهار سببه خلل بيولوجي في آلية التحكّم بمراحل النوم الطبيعية، أو الحرمان من النوم العميق في أثناء الليل. وقد عرف أن المصابين بهذا الخلل يعانون خلال نومهم النهاري رؤية خيالات أحلام متقطّعة، أو من سماع أصوات قبل فترات النوم القصيرة وبعدها. كما يعاني بعضهم تشنّج العضلات في أثناء النوم الليلي، أو الشعور بالسقوط، والذي يحصل عموماً في أثناء حركة العين السريعة. ويترافق هذا الشعور مع إحساس بالقلق والخوف وإلتواء الركبة أو سقوط الرأس. وفي أسوأ الأحوال، يحصل فقدان مفاجئ للقوى العضلية وشعور بالشلل، أو العجز عن الحركة. وهنا يؤكد الباحثون أن فقدان القوى العضلية خلال مرحلة حركة العين السريعة تعتبر آلية طبيعية تحول دون تجاوب النائم مع الأحلام، ومن ثمّ النهوض من الفراش والمشي في أثناء النوم.

من ناحية ثانية، تمّ التأكيد على أن الخلل في مراحل النوم قد يتخذ شكلاً آخر. ففي التقرير الذي أورده إختصاصي الأعصاب الإيطالي رفائيل فيري العام 2005 (مؤسسة الأبحاث في الإعاقة العقلية وشيخوخة الدماغ)، إشارة الى وجود نشاط دماغي يعرف بـ«النماذج الدورية المتردّدة»، ويسيطر على أدمغة 49٪ من المصابين بالخدّار مقارنة بـ39٪ من الأصحاء من العمر نفسه. وهو نشاط يتجلى من مرحلة حركة العين السريعة، ما يدل على أن الإضطراب لا ينحصر في مرحلة النوم العميق وحدها.

 

العوامل البيوكيميائية المؤثّرة

 للتعرّف الى سبب هذا الإضطراب، ركّزت الدراسات الحديثة على جزيئة بالغة الصغر تسمى الهيبوكريتين تنتجها حوالى 10.000 الى 20.000 خلية عصبية في مؤخرة منطقة الهيبوثالاموس الدماغية القمعية الشكل في مؤخرة الرأس. وعندما اكتشفت هذه الجزيئة العام 1998، كان الاعتقاد أن مهمتها تنحصر بضبط الشهية، لكن منذ ذلك الحين، أثبتت البيّنات المتراكمة علاقة نقصها بحصول مرض الخدّار. وفي تقرير وضعه الدكتور إيمانويل مينيوت رئيس مركز الأبحاث المتعلقة بالخدّار في جامعة ستانفورد الأميركية العام 1999، أدلة على وجود تغيرات جينية في اللواقط العصبية المرتبطة بإنتاج الهيبوكريتين، الأمر الذي يتسبب بنقصها، وثبت أن مهمّة هذه الجزيئة هي ضبط مراحل النوم واليقظة وأن نقصها يتسبب بالاضطراب المذكور. 

 

العوامل البيئية

هذا من الناحية البيوكيميائية، إلاّ أن الدراسات التي أجريت على توائم منذ العام 1999، أكدت حتمية التداخل بين العوامل البيوكيميائية والعوامل البيئية والتي تتحكم بإصابة أحد التوائم دون الآخر على الرغم من تقاسمهما الجينات الوراثية نفسها.

لكن حتى الآن لم يتم فهم دور العوامل البيئية في حصول المرض، علماً أن الباحثين يأخذون بالاعتبار الضغوط اليومية كعامل أساسي. وهنا يجدر بالاشارة أن نسبة كبيرة من مرضى الخدّار أشاروا الى أن معاناتهم قد بدأت إثر تغيّرات جذرية في حياتهم، كولادة طفل، أو الإنتقال من مكان الى آخر، أو ترك الوظيفة. ويؤكد إختصاصيو علم النفس أن هذه التغيرات المفاجئة وما تحدثه من ضغوطات، قد تتفاعل مع الإستعداد الوراثي لتؤثر في جهاز المناعة وتؤدي الى ظهور الإضطراب المذكور. ومن جهة ثانية، يشير البعض الى علاقة الإلتهابات وخصوصاً إلتهابات الأمعاء وما بعد الولادة بحصول الخلل، ويؤكد آخرون بمن فيهم الباحث الدكتور مينيون على علاقة هذا الخلل بتوقيت زمن الولادة.

 

ما هو العلاج؟

حتى الآن لا يوجد علاج يحول دون حصول إضطرابات النوم. إلاّ أن التقرير الذي نشرته مؤخراً مجلة العلوم الأميركية، أشار الى بعض العقاقير المستحدثة التي تساعد على إستعادة التوازن ومواجهة نوبات النوم النهارية، وكذلك تشنّج العضلات والشعور بالسقوط، وكذلك النوم المتقطّع في أثناء الليل. ويأمل الباحثون بالتوصل سريعاً الى تصنيع أدوية تعوض عن نقص الهيبوكريتين، علماً أن إدخال هذه الجزيئة الى الدماغ هو شكل من أشكال التحدّي.