دراسات وأبحاث

النيران الصديقة
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

الخطأ وارد دائماً ومقصود أحياناً...

 

شاع في الفترة الأخيرة، استخدام عبارة «النيران الصديقة» في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، وباتت هذه العبارة تردد في الأخبار العسكرية والقتالية خصوصاً في أفغانستان والعراق وغزة، كذلك في الخطاب السياسي الداخلي والعربي، كما نشرت مقالات سياسية حول هذا الموضوع، حتى إن أحد الروائيين المصريين (د. علاء الأسواني) أطلق رواية العام 2009، تحمل العنوان نفسه، فما معنى النيران الصديقة؟
وهل يمكن للنيران أن تكون «صديقة» إذا كانت تقتل؟
أم أن المصطلح أصبح من الشمول بحيث يعبّر عن حالة، أو حالات متعددة مشابهة؟ سنحاول تفسير المصطلح بمعانيه المختلفة، والأسباب التي أوجدته، ونتائجه.

 

المصطلح
تطلق عبارة «نيران صديقة»، عسكرياً عندما تصيب الوحدات العسكرية المشتبكة في القتال أحد أفرادها، أو أحد أفراد، أو مجموعات من القوات الصديقة لهذه الوحدة، القريبة في أثناء المعركة، وبدون قصد منها، وتتسبّب في جرحه، أو في مقتله، ولذلك سمّيت «بقتل الأخ Fratricide».
وقد استخدم هذا المصطلح في معظم الجيوش خصوصاً خلال القرن العشرين من قبل جيش الولايات المتحدة الأميركية، كذلك عرفت دول كثيرة من حلف شمال الأطلسي (Nato) هذا المصطلح تحت إسم «Blue on Blue» أي «أزرق فوق أزرق»، وذلك في أثناء مناورات قوات دول الحلف المتعددة، للتعبير عن الحالات التي كانت تقع بين أفراد ووحدات من قوات الحلف نفسه، وتؤدي الى إصابات. واللون الأزرق هو رمز للوحدات الأطلسية كافة في مقابل اللون البرتقالي أو الأحمر الذي كان يعتبر رمزاً لقوات حلف وارسو المعادية. أي أن الأزرق «صديق» بينما «الأحمر» عدو، وهكذا... حتى أننا في الكلية الحربية، في أثناء المناورات والتدريبات القتالية كنا نستخدم المصطلح نفسه والألوان عينها للتمييز بين الصديق والعدو. كذلك يرد ذكر النيران الصديقة في أمر العمليات وخطط القتال، كعامل مساعد وتنبيه لأماكن وجوده على الأرض المفترضة كساحة اشتباك. ولكن عند وقوع الإشتباك الفعلي أو المعركة قد يحدث أن تطلق الوحدات (أو الأفراد) النار على بعضها البعض وتتسبّب في قتل وجرح عدد منها، فلماذا يحدث هذا؟ وكيف؟

 

الأسباب
إن أهم الأسباب التي تؤدي الى الإصابة بنيران صديقة تعود الى ما يأتي:
• الإنسان: أي أن المقاتل في ساحة العركة هو السبب الرئيس في ارتكاب هذا الفعل، ذلك أن جو المعركة ذاته وحالة التوتر والقلق والخوف التي يعيشها هذا المقاتل والتشويش الفكري والنفسي، تجعله عرضة للتصرف العشوائي والمتهور، فيطلق النار أحياناً من دون تمييز وعند أقل حركة، دفاعاً عن نفسه، وخصوصاً في الليل، أو عند كثافة ضباب الحرب (Fog of war). وهذا ما يفقده حسّ القدرة على التحكم بنفسه والتحليل المنطقي السليم تحت ضغط المعركة.
• الأرض: إن أرض المعركة نفسها قد تلعب دوراً مهماً في التشويش على المقاتل وتضعف قدرته على تمييز الصديق من العدو، خصوصاً إذا كانت هذه الأرض جديدة أو غريبة بالنسبة الى المقاتل، كالحرب في الجبال أو الصحراء.
• الطقس: يشكّل عامل الطقس عنصراً فاعلاً في إرباك المقاتل وتشوّشه، كالمطر الشديد أو الثلوج، أو الحر اللاهب فيقع في فخ إطلاق النار على أصدقائه وهو يحسبهم أعداء.
• التموضع القتالي والإتصال: إن تقارب انتشار الوحدات الصديقة في القتال وعدم الإتصال والتنسيق في ما بينها، يؤدي الى وقوع بعضها تحت نيران البعض الآخر، وخصوصاً عندما تكون هذه الوحدات من دول مختلفة، وكما حدث في أثناء حرب الخليج الأولى، أو كما حدث في أثناء غزو العراق العام 2003 عندما أسقط صاروخ «باتريوت» أميركي طائرة حربية بريطانية، أو كذلك عندما أسقط صاروخ أميركي آخر طائرة أميركية قرب كربلاء، أو عندما قصفت طائرة حربية أميركية (A -10) مجموعة عسكرية أميركية من المشاة في معركة الناصرية وقتلت ستة من جنود المارينز.
كذلك اشتبكت دبابتان بريطانيتان (تشالنجر 2) في أثناء الليل من دون معرفة بعضها البعض، وأدى ذلك الى مقتل إثنين من طاقم إحداهما. وفي حرب غزة 2009، قصفت دبابة إسرائيلية مبنى كان قد احتله جنود إسرائيليون، ما أدى الى مقتل ثلاثة جنود وجرح عشرين آخرين.
الأمثلة عن الإصابة بنيران صديقة كثيرة، ويمكن إحصاء عشرات آلاف الإصابات التي سجّلت تحت إسم «نيران صديقة» منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب 1956 على مصر وحرب 1967 (سفينة ليبرتي الأميركية أغرقتها إسرائيل) وحرب ڤييتنام وكوريا، وحرب العراق، إيران، وحروب الخليج وأفغانستان، كذلك منذ معارك الإسكندر والقادسية ومعركة واترلو، فالتاريخ العسكري حافل بحوادث مشابهة لا يمكن حصرها هنا.

 

تداعيات ونتائج وحلول
مما لا شك فيه أن الإصابة بنيران الصديق يؤثر معنوياً ونفسياً على المقاتل أو الوحدات الصديقة ويجعلها تشعر بالأسى والغضب والإحباط، فالإنسان الذي يقاتل عدواً ما يتمنى، أو يفضّل أن يُقتل بنيران هذا العدو إذا كان لا بد من ذلك، فيعتبر بطلاً وينال مجداً، لا أن يُقتل بنيران رفاقه كما حدث لأهل الجندي الأميركي الذي قتل في أفغانستان (بات تيلمان) العام 2004، واعتبر بطلاً قومياً ولكن تبيّن بعد ذلك أنه قتل بنيران صديقة، ما أثار ضجة في الولايات المتحدة على مستوى الرأي العام وعلى مستوى أهله الذين اعتبروا أن إبنهم قتل مرتين (مادياً ومعنوياً).
لقد دفعت كثرة الإصابات بنيران صديقة القادة العسكريين والمخططين الى التفكير في وسائل تخفيفها وإمكان تجنّبها وذلك من خلال:
- زيادة تدريب الوحدات وخصوصاً المشتركة والإلتزام بانضباط النار.
- تحسين الوسائل والمعدات المستخدمة في القتال ودقتها.
- تحسين وسائل الإتصال بين الوحدات المقاتلة حتى أدنى مستوى.
- تنظيم عمل القيادة والسيطرة والمعلومات (C4I2) والتنسيق ما بين القيادات المركزية والميدانية، ونظام (GPS).
- العمل بالحرب حول مركزية الشبكة الإلكترونية: Net Centric warfare (NCW).
كذلك العمل على تحسين وسائل تمييز الصديق في أثناء القتال باستخدام وسائل إتصال «بينية»: معرفة اللغات، إستخدام إشارات وألبسة معينة والتزوّد أجهزة راديوية موحدة بموجات معينة معروفة من الصديق. الخ...
وخلاصة القول إنه وعلى الرغم من تأمين الوسائل الفنية والتقنية كافة للحيلولة دون الوقوع تحت نيران صديقة، فإنه لا شك سيبقى هناك مجالات للخطأ، طالما أن الإنسان هو من يستخدم هذه الوسائل، وهذا الإنسان معرّض لارتكاب خطأ ما، سواء بالتقدير، أو بالحساب، أو حين وجوده تحت ضغط نفسي، أو جسدي، يفقده القدرة ولو للحظة، عن إجراء عملية التحليل المنطقي والعقلاني السليم، فيقع في ارتكاب خطأ ما قد يكون الصديق ضحية له، أو حتى الشقيق، وأحياناً أخرى قد يكون مقصوداً، فالحروب ميدان واسع لارتكابات كثيرة...


• مراجع:
• www.Google.com.Friendly Fire.
• BBC News - «Friendly Fire» Soldier Killed in Afghanistan.
• Google books: Friendly Fire: The accidental Shootdown of U.S. Black Hawks over northern IRAQ. By: Scott A. Snook.
• www.aljazeera.net/.../33175BF-2FDD-4B1A.
• www.Google.com :النيران الصديقة
• www.Google.com: Tir ami-Wikipedia.

 

• هامش:
• يعطي بعض الدراسات ما يأتي حول نسبة الإصابات بنيران صديقة:
- الحرب العالمية الأولى 10٪ من الجرحى.
- الحرب العالمية الثانية 14٪ من الخسائر الإجمالية.
- الحرب الكورية 7٪ من الخسائر البشرية.
- حرب ڤييتنام 11 الى 14٪ من الخسائر.
- عاصفة الصحراء 15٪ من الجرحى، الى 24٪ من قتلى المعارك.
غير أن الأرقام التي تذكرها دراسة «مكتبة الحرب الأميركية» فيبدو أنها ضعف هذه النسب المئوية المذكورة.