أمن مائي

النيل وأزمة توزيعه
إعداد: الرائد باسم شعبان
دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر

نهر النيل، أحد أكبر أنهار العالم وأطولها (6650 كلم تقريبًا)، يُغطي حوضًا تقارب مساحته 3.4 مليون كلم2، بتدفق معدّله نحو 2830 مترًا بالثانية، وهو يغذي إحدى عشرة دولة في رحلته من وسط شرقي أفريقيا جنوبًا إلى البحر المتوسط شمالًا، مجتازًا ستة سدود على طول مجراه.
تعود تسمية النيل إلى المصطلح اليوناني Neilos، كما يُطلق عليه في اليونانية اسم Aigyptos الذي اشتُق منه المصطلح الإنكليزي Egypt لاسم مصر.

 

يرفد النيل رافدان أساسيان، النيل الأبيض (أطول الروافد) والنيل الأزرق (المصدر الرئيس للمياه). يبدأ النيل الأبيض جريانه من بحيرة فكتوريا وسط أفريقيا، بينما يبدأ النيل الأزرق من بحيرة تانا في أثيوبيا، ويلتقيان في الخرطوم عاصمة السودان، ليشكلا نهر النيل الذي يتابع مسيرته شمالًا عبر مصر وصولًا إلى ساحل البحر المتوسط حيث يتفرَّع وتتشكَّل منه «دلتا النيل»، قبل أن يصبّ في رشيد ودمياط.
يُطلق مسمَّى حوض النيل على إحدى عشرة دولة أفريقية يمرّ فيها النهر، سواء منها تلك التي يجري مساره مخترقًا أراضيها، أو تلك التي تجري على أراضيها الأنهار المغذّية له، وهي: إريتيريا، أوغندا، أثيوبيا، الكونغو، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا، جنوب السودان، السودان ومصر.

 

الاتفاقيات
نظرًا لأهمية نهر النيل في حياة شعوب دول الحوض، عقدت عدة اتفاقيات لتنظيم جريانه وحُسن استثماره، بما يُلبي حاجات المعنيين جميعها، ولا يضر بمصالح أي منهم. سنعرض في ما يأتي باختصار أهم هذه الاتفاقيات وفق تسلسلها التاريخي علمًا أن بعضها وقّعته بلدان أجنبية كانت تحتل المنطقة.
 

1- اتفاقية روما (15 نيسان 1891): وقّعتها بريطانيا وإيطاليا، وقد نصَّت على عدم المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل، وعدم إقامة مشاريع من شأنها إحداث خلل في المياه، أو التقليل من الكمية التي تجري في الأراضي المصرية.
 

2- اتفاقية أديس أبابا (15 أيار 1902): وقَّعتها بريطانيا وأثيوبيا، وتضمَّنت تعهدًا من ميلينك الثاني، ملك أثيوبيا وقتذاك، بعدم إنشاء أو السماح بإنشاء أي منشآت على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، من شأنها اعتراض جريانه، إلّا بموافقة الحكومتين البريطانية والسودانية.
 

3- اتفاقية لندن (13 كانون الأول 1906): وقَّعتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وتنص في بندها الرابع على تعاون الموقّعين لتأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر.
 

4- اتفاقية 1929: طرفا هذه الاتفاقية هما مصر والسودان، وهي تُشدّد على التشاور مع الحكومة المصرية قبل إقامة أي مشروع (على النيل أو أحد روافده أو منابعه)، من شأنه إنقاص مقدار المياه الذي يصل إلى مصر، أو تعديل وقت وصولها، أو تخفيض منسوبها، أو إلحاق أي ضرر بمصالح مصر، وأي مخالفة تُعتبر بمنزلة إعلان حرب على مصر.
 

5- اتفاقية لندن (23 تشرين الثاني 1934): وقعتها بريطانيا (نيابة عن تنزانيا) وبلجيكا (نيابة عن رواندا وبوروندي)، لتنظيم استخدام نهر كاغيرا أحد روافد النيل.
 

6- اتفاقية 1953: بين مصر وبريطانيا (نيابة عن أوغندا) لإنشاء خزان عند مخرج بحيرة فكتوريا، وذلك وفق روحية نص اتفاقية 1929.
 

7- اتفاقية 1959: وقِّعَت بين مصر والسودان في القاهرة، وجاءت مكمّلة لاتفاقية 1929. من أهم بنودها، المحافظة على الحصص المحدَّدة لكل دولة، ومصادقة الدولتين على إنشاء السد العالي في مصر وسد الروصيرص في السودان.
 

8- اتفاقية 1991: بين مصر وأوغندا، وهدفها التأكيد على اتفاقية 1953 التي وقعتها بريطانيا نيابة عن أوغندا، وقد وقَّعها الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الأوغندي يوري موسيفيني. وتُعَد هذه الاتفاقية اعترافًا ضمنيًا باتفاقية 1929 أيضًا.

 

صيغ تعاون واعتراضات
جرت محاولة لإنجاز صيغة مشتركة للتعاون بين دول حوض النيل في العام 1993 من خلال إنشاء أجندة عمل مشتركة بغية الاستفادة من الإمكانات التي يوفرها الحوض. في العام 1995 أصبح كل من البنك الدولي وصندوق الأمم المتحدة الإنمائي والهيئة الكندية للتنمية الدولية، شركاء في وضع آليات العمل وتفعيل التعاون بين دول الحوض.
كذلك، شكَّلت دول حوض النيل في العام 1997 منتدى حوار من أجل التوصل لأفضل آلية تعاون مشترك في ما بينها، وبعد سنة (1998) اجتمعت الدول المعنية باستثناء إريتيريا، لتفعيل آلية التعاون هذه. في شباط 1999 وقَّعت دول الحوض، في تنزانيا، مبادرة حوض النيل الهادفة إلى تدعيم أواصر التعاون الإقليمي في ما بينها وصولًا إلى تنمية مستدامة عن طريق الاستغلال العادل للإمكانات المشتركة التي يوفّرها حوض النيل.
لم تمنع هذه الاتفاقيات بعض دول الحوض من إبداء تذمّرها من واقع توزيع مياه النهر. وفي هذا الإطار اشتكت السودان وأثيوبيا وأوغندا وكينيا من نصيب مصر من مياه النهر، واعتبرت الدول الثلاث أن الدول الاستعمارية وقِّعَت الاتفاقات بما لا يتناسب ومصالح شعوب الدول المعنية، وأن حصول مصر على حصة الأسد من مياه النيل عائق رئيس أمام التنمية في هذه الدول.
ترجع جذور هذا التذمر إلى تاريخ استقلال تنزانيا في العام 1964، عندما أصدر الرئيس التنزاني يوليوس نيريري إعلانًا عُرِفَ بمبدأ نيريري يقوم على عدم الاعتراف بالاتفاقيات المُبرمة قبل الاستقلال، ومنها اتفاقية 1929، وقد نال هذا المبدأ مباركة أوغندا وكينيا. وفي العام 1977 وقَّعت تنزانيا ورواندا وبوروندي اتفاقية نهر كاغيرا التي نصَّت على عدم الاعتراف باتفاقية 1929.
في العام 1981 باشرت أثيوبيا، التي أعلنت صراحة رفضها لاتفاقيتَي 1929 و1959، استصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق، كما باشرت بتنفيذ عدد من المشاريع مثل مشروع سدّ فيشا، أحد روافد النيل الأزرق، بتمويل من بنك التنمية الأفريقي، ما خفض حصة مصر نحو 500 مليون م3 سنويًا، ومشروع سدّ سنيت على أحد روافد نهر عطبرة، ومشروع خور الفاشن الذي يقع أقصى شرقي البلاد (يخفض تدفق المياه التي تصل إلى مصر بما يُقارب 4500 مليون م3).
في العام 2009 أنجزت أثيوبيا سد تيكيزي، وهو أعلى سدّ في القارة الأفريقية ويبلغ ارتفاعه 188 مترًا، وقدرة استيعابه حوالى 9 مليار م3، ومشروع سد النهضة الذي ما زالت آثاره غير محدَّدة على حصة مصر من مياه النيل. وقد عقد في أيار 2009 اجتماع وزاري لدول حوض النيل في كينشاسا عاصمة الكونغو الديموقراطية، للبحث في الإطار القانوني والمؤسّساتي لتوزيع مياه النيل، إلّا أنّ مصر رفضت بشدة التوقيع على أي اتفاقية لا تتضمَّن بندًا صريحًا يحافظ على حقوقها التاريخية في مياه النهر.
في هذا السياق، انصبّت الجهود الرسمية المصرية على تأمين مظلّة سياسية لحماية مكتسباتها من مياه النيل، وقد راوح الرد المصري بين التحذير من جهة وفتح باب الحوار من جهة أخرى. من الأمثلة على هذه السياسة تصريح وزير الري والموارد المائية محمود أبو زيد منتصف كانون الأول 2003 بأن مصر تعتبر اعتزام كينيا الانسحاب من اتفاقية توزيع مياه نهر النيل بين دول حوضه، بمثابة إعلان رسمي للحرب وتهديد لمصالحها الحيوية وأمنها القومي. من جهة أخرى نجح وزراء خارجية السودان ومصر وأثيوبيا مطلع آذار 2015 في الاتفاق على مبادئ حول تقاسم مياه النهر ومشروع إنشاء سد النهضة الأثيوبي.
وكانت وزارة الخارجية المصرية قد حذَّرت مرارًا وتكرارًا من خطورة الانجراف خلف ادّعاءات زائفة لا أساس لها من الصحة تروّج لها أيدٍ خفيّة في بعض دول المنبع، تدَّعي زورًا معارضة مصر للجهود والمشاريع التنموية في هذه الدول. كما ألمح وزير الموارد المائية المصرية إلى وجود مخطط إسرائيلي للضغط على مصر لإمداد تل أبيب بالمياه من خلال طرح فكرة تدويل الأنهار في العالم، لكنّ الرد كان جازمًا بأنّ إسرائيل لن يكون لها نصيب من مياه النيل.

 

الأطماع الإسرائيلية
في الواقع يمكن تحديد منطلقات الاهتمام الإسرائيلي بمياه النيل باثنين؛ الأول يرتبط بالمكانة المحورية للمياه في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي والتي تم تظهيرها بالشعار التأسيسي للدولة «حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات»، والثاني ناتج من حالة الشح المائي التي تعانيها إسرائيل. من هنا بنى الإسرائيليون تصوّراتهم لتحقيق هدفهم النهائي والمتمثّل بفرض أنفسهم كشريك أساسي وكامل في مياه النهر، ما يمنحهم حقًا مكتسبًا عند التوزيع. لذلك، لا ينبغي إغفال الأبعاد التاريخية للدور الصهيوني في أزمة توزيع مياه النيل، ففي العام 1903 طرح مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل على الحكومة البريطانية فكرة توطين اليهود في سيناء، على أن يتمّ استثمار المياه الجوفية فيها فضلًا عن نسبة معينة من مياه النيل. لم تُكتب الحياة لهذه الفكرة إذ صُرِف النظر عنها لأسباب سياسية ترتبط بالاستعداد للحرب العالمية الأولى، والاتفاق الإنكليزي – الفرنسي على اقتسام تركة الدولة العثمانية.
لم ييأس الصهاينة من عدم تحقيق مطلبهم بالتوطين في سيناء، لا بل انتظروا نهاية الحرب وسقوط السلطنة العثمانية كي يعيدوا المحاولة مستغلّين انعقاد مؤتمر الصلح في باريس، فوجَّه زعيم الحركة الصهيونية آنذاك حاييم وايزمن بتاريخ 29 تشرين الثاني 1919 رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج تحمل مطالب اليهود إلى المؤتمر والتي كانت مسألة المياه فيها على رأس الأولويات.
لاحقًا انتهج الإسرائيليون مقاربتين مختلفتين، إنما متكاملتين، لتحقيق أهدافهم. في المقاربة الأولى سعوا إلى تسعير التوترات بين مصر وباقي الدول المتشاطئة على النيل، كإثارة نقمة هذه الدول على حصة مصر، أو توجيه السياسات التنموية لهذه الدول نحو استثمار كميات أكبر من مياه النيل في تطوير الزراعات، وغيرها من الأساليب غير المباشرة التي يمكن أن تُكبّل مصر وتقيّد موقعها. أما المقاربة الثانية فكانت أكثر جرأة، وتجلّت بعدّة مشاريع طُرِحَت، مباشرة أو مواربة، لتأمين حصة لإسرائيل من مياه النيل، ولعل أبرزها مشروع «مياه السلام» و«مشروع يؤر».
 

1- مشروع مياه السلام (1974): خطَّط له مهندس إسرائيلي يُدعى أليشع كالي، ويتلخَّص المشروع بتوسعة ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها ونقلها بواسطة أنابيب يجري تمديدها تحت قناة السويس لتخترق سيناء وصولًا إلى الأراضي المحتلة. لم يكتب لهذا المشروع الحياة، إذ تم رفضه رسميًا وشعبيًا على حد سواء. حاول الإسرائيليون إعادة تمرير هذا المشروع بصيغ مختلفة في الأعوام 1978 و1986 و1989 من دون جدوى.
 

2- مشروع يؤر(1979): خلال مباحثات كامب دايفيد قدَّم نائب مدير هيئة المياه الإسرائيلية شاؤول أولوزوروف للرئيس المصري (آنذاك) أنور السادات مشروعًا يقضي بشق ست قنوات تحت قناة السويس، لنقل ما يقارب 3 مليار م3 إلى صحراء النقب، على أن يُخصَّص منها 150 مليون م3 لقطاع غزة. وقد اعتبر الخبراء الإسرائيليون أن استفادة قطاع غزة تُشكل رادعًا لمصر في حال قرَّرت قطع المياه.
لم يكن مصير هذا المشروع أفضل من سابقاته، إذ إن الرأي العام والجهات الرسمية في مصر لم يكونا على استعداد لأي تعاون مائي مع إسرائيل.
بهذا تظهر النوايا الإسرائيلية المبنيّة على أطماع بمياه النيل، ما يفسّر الدور الإسرائيلي الخفي في تغذية الخلافات بين الدول المستفيدة، على أمل الحصول على موطئ قدم لكسب حصة تسد الاحتياجات المائية والتحديات المستقبلية. في المقابل لم تقف الحكومة المصرية مكتوفة الأيدي تجاه الطروحات التي تُنقص حصتها من مياه النيل، بل سُجّلت عدة مواقف تحذيرية من مغبّة المضيّ قدمًا بأي عمل لا يتوافق والمصلحة المصرية.

 

المراجع:
- أبو زيد، محمد: المياه مصدر للتوتر في القرن 21، مركز الأهرام، القاهرة، 1998.
- أحمد، عصام والدرديري، الطاهر: الماء، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2001.
- بولوك، جون ودرويش، عادل: حروب المياه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999.
- صفا شاكر إبراهيم محمد: الصراع المائي بين مصر ودول حوض النيل: دراسة في التدخلات الخارجية «1990-2010».
- وكالة «أ ف ب» للأنباء بتاريخ 6 /3 /2015.
- جريدة الشرق الأوسط، العدد 9150، 17 /12 /2003.
- عدد من المقالات ذات الصلة على شبكة الإنترنت.