الهجرة الخارجية والانتشار اللبناني في العالم

الهجرة الخارجية والانتشار اللبناني في العالم
إعداد: د. أسعد الأتات
أستاذ الديموغرافيا في الجامعة اللبنانية

مقدمة:
فيما عدا الشعب الفلسطيني, لا يعرف التاريخ الحديث حالات تقيم فيها أغلبية شعب من الشعوب خارج أوطانها, نتيجة عمليتي هجرة تمتا في غضون مدة لا تتجاوز أربعة أجيال ديموغرافية. غير أن هذا الواقع هو ما جرى في لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. وهنا يقبع جزء من جوهر الأزمة في لبنان, ربما مشكلته البالغة في تعقيداتها, لأن بناءه الذي تمه عام 1920 على أساس التركيب الديموغرافي حسب الطوائف والمذاهب المكونة لشعبه آنذاك تغاضى عن توقع أوضاعه الديموغرافية مستقبلاً, لاسيما حسب معطى المذاهب نفسها. فشكلت أوزان وأحجام هذه المذاهب حينذاك, وبصرف النظر عن مدى صحتها, أساساً لبنية تركيب النظام السياسي, وبالتالي لتوزيع مختلف السلطات السياسية والوظائف الادارية والحكومية. ومن البديهي, والحال هذه, أن يؤدي أي خلل في التركيب الديموغرافي إلى تصدع في التوازن السياسي, لاسيما وأن السمة العامة لأي تركيب مماثل, وفي كافة البلدان, هي التبدل والتغير. فكيف والحال هذه, يمكن المحافظة على نظام, والدفاع عنه ومحاولة إطالة عمره, طالما أن الأسس المكوّنة له غير ثابتة, متبدلة ومتغيرة على الدوام, لاسيما وأن أغلب المهاجرين والمتحدرين من أصولهم لم يحتفظوا بهويتهم الوطنية, مما يطرح مشكلة أخرى تفاقم من حدة الصراع السياسي.
يهدف هذا البحث الى تقديم وصف وقائعي, يستند إلى أوثق المصادر الاحصائية المتوافرة وأقلها تحيزاً(*) لتلك الهجرات المغادرة, وكذلك للمتحدرين من أصول المهاجرين, التي تمّ بها تحويل أغلبية اللبنانيين لأن يقيموا خارج وطنهم.
ولأن الهجرة, بنظرنا, ليست مشكلة, كما دأبت على استخدام هذا التعبير مختلف الكتابات والأدبيات الاجتماعية والسياسية والسكانية, وإنما هي قضية, أي انها تتخطى منظور المشكلة الاجتماعية, التي يمكن حلها بتدابير وبإجراءات إدارية وتقنية تطبيقية, لتصبح جزءاً من واقع اجتماعي ديموغرافي, أي جزءاً من بنية مجتمعية, تستمر هذه القضية حاضرة, تخبو جذوتها أو تزدهر وتنطلق حسب الأوضاع الظرفية التي يمر بها هذا الواقع نفسه, المتكون بشكل أساسي من ولاءات وموروثات تقليدية تقوم على الجهوية والعشائرية والطائفية... الخ.
ويلاحظ وكأن هناك علاقة ترابط بين هذه الولاءات العمودية وحجم الهجرة, فكلما تعاظم دور هذه الولاءات في الحياة السياسية والاجتماعية كلما ارتفع معدل الهجرة وازداد زخمها, والعكس صحيح: إذ كلما تراجعت الولاءات العمودية واستطاعت بالمقابل أن تجد الولاءات الافقية (الوعي الوطني والسياسي والقومي وحتى الطبقي) فسحة للتعبير وللتأثير في الممارسة السياسية والمجتمعية تضاءل معدل الهجرة الخارجية وتراجع عدد المهاجرين.
بالطبع, ان الموضوع أكثر تعقيداً ويرتبط بأسباب متعددة, بيد أننا نسلط الضوء على أحدها الذي يعبر عن تجليات حدة الصراع السياسي على الكيان ومدى انعكاس ذلك على الوضع الديموغرافي. وبما أن الهجرة الخارجية باتت حالياً في لبنان, بخاصة بعد استتاب الامن والشروع في إعادة بناء الدولة, أي منذ عقد من الزمن, من أهم القضايا المجتمعية التي تتطلب حلولاً عاجلة, إذ قلما يخلو خطاب لمراجع روحية أو سياسية أو علمية من الإشارة إليها والتحذير من مخاطرها على النسيج الاجتماعي, إذ يتمثل ذلك على المستوى الديموغرافي بخلل في تركيب السكان حسب العمر: فتتراجع كثيراً نسبة الشباب بين مجموع السكان, بخاصة الذكور منهم. فيصبح المجتمع محكوماً على صعيد قوة العمل وعلى الصعيد السياسي بغلبة نسبة الراشدين الذين يميلون بطبعهم إلى المساومة والتقليد, فيضعف بالتالي عنصر التجديد والعنصر المقاوم للولاءات العمودية الموروثة التي لا تكون قد تمكنت بعد من أن تترسخ في ثقافتهم وفي هويتهم الاجتماعية.
إلى ذلك فإن موضوع تحديد وإحصاء عدد المهاجرين اللبنانيين المنتشرين في انحاء المعمورة هو موضوع خلاف سياسي, ويتراوح الرقم المشير الى عدد المنتشرين بين 8,6 مليون و16 مليون نسمة. وحيث أننا لا نريد الدخول في هذا الأمر, نرى أنه من الضروري إقتفاء هجرة اللبنانيين منذ ستينات القرن التاسع عشر, الى متصرفية جبل لبنان, أي “لبنان الصغير”, باعتبارها حملت برحمها ما ستكون عليه الأوضاع السياسية “لدولة لبنان الكبير” فيما بعد, وشكلت بداية الانتشار اللبناني في العالم, الأكبر حجماً, والأكثر تأثيراً في التركيب الديموغرافي اللبناني, في الوطن والمهجر.
إن معالجتنا للموضوع قد تضيف تقديرات أخرى, انما استناداً إلى أساليب وأسس احصائية ورياضية توخينا على أن تكون الأقرب إلى الموضوعية والدقة.
 

المرحلة الأولى 1860 -­ 1914
عقبات كثيرة تعيق دراسة الهجرة الخارجية من لبنان, ومن ثم الانتشار اللبناني في المعمورة, ليس فقط باعتباره الدولة الوحيدة في العالم التي لا تجرى فيها تعدادات سكانية, بل لأنه لم يشكل كياناً سياسياً بحدوده الإدارة الراهنة سوى بعد إعلان الجنرال الفرنسي غورو في الأول من أيلول عام 1920 دولة لبنان الكبير تحت سلطة الانتداب الفرنسي, كذلك كان نصيب سوريا. بحيث ضمّت إلى لبنان الصغير, أي إلى متصرفية جبل لبنان, المناطق الجغرافية المحيطة بها: (بيروت, الجنوب, البقاع والشمال), التي كانت تشكل أقاليم من الامبراطورية العثمانية في سوريا (ولايات: بيروت, صيدا, دمشق).
إن المعطيات الإحصائية الديموغرافية المتاحة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر, وبصرف النظر عن مدى الوثوق بمدى صحتها, كانت حول سكان الولايات العثمانية, وليس على أساس وحداتها الجغرافية الصغيرة, مما لم يتح إمكانية تجميع وتوليف للأرقام عن سكان تلك المناطق التي ستشكل دولة لبنان لاحقاً, ما عدا تلك الاحصائيات الديموغرافية عنها التي وردت في مشروع الجنرال الفرنسي دي بوفور, القائد العام للحملة العسكرية على سوريا 1860 ­- 1861([1]). لكن يمكن العثور على أرقام ومعلومات عامة حول الهجرة من ولايات السلطنة العثمانية يمكن أن تشكل إطاراً عاماً لدراسة هذه الحركة في لبنان على وجه العموم.
ان الأرقام الشائعة حول حجم الهجرة اللبنانية خلال هذه المرحلة تصل إلى 330 ألف نسمة, وهي الأرقام التي وردت عند ايلي صفا عام 1960([2]), واعتمدتها في ما بعد الكتابات الجغرافية والاقتصادية والديموغرافية كافة دونما تدقيق أو تمحيص.
تجمع كافة المصادر الديموغرافية بأن الهجرة من ولايات السلطنة العثمانية, في سوريا الكبرى, وبخاصة نحو الاميركيتين, انطلقت في البداية, ومنذ مطلع ستينات القرن التاسع عشر, من متصرفية جبل لبنان, التي كانت تبلغ مساحتها الجغرافية حوالى 4500كلم2, أي ما نسبته 43% من مساحة لبنان الحالية. أما أسباب ذلك, فردتها بعثة ارفد الى عاملين اثنين, الأول, الجور العثماني أو جور رجال الاقطاع, وتمثل السبب الثاني بالضغط الديموغرافي الناجم عن أعداد سكانية كثيفة على مساحة جغرافية محدودة ([3]). ويضيف شارل عيساوي سبباً آخر, نراه لا يقل أهمية عن السببين الآخرين, ألا وهو الاضطرابات الدينية والاجتماعية([4]). بينما نرجح أن يكون السبب الرئيسي هو قيام نظام سياسي واقتصادي جديد([5]), سمته الرئيسية المزيد من فتح جبل لبنان أمام المصالح التجارية الاجنبية وأمام السعي وراء الربح الخاص بلا قيود. أدّى ذلك من جهة أخرى إلى الرضى والارتياح بين رجال البنوك والتجار الأوروبيين في بيروت([6]). وفي حين لقي ذلك دعم الكنيسة المارونية والتجار والقوى الأوروبية([7]), فإنه لقي معارضة من الفلاحين ومن الفئات الشعبية التي أجهضوا حركتها عام 1858 والتي قادها طانيوس شاهين, بخاصة في كسروان, بعدما استطاعت القوى المتضررة من ذلك تأجيج حدة الصراعات الطائفية.
إلا أن أبرز النتائج الديموغرافية السلبية تمثلت ببروز ظاهرة الهجرة الخارجية والتفتيش عن مصادر للرزق والعيش خارج حدود الجبل الذي لم يعد قادراً على تأمين ما يجدّد قوة عمل الفلاحين أو العاملين في إنتاج الحرير, بحيث خرج سكانه بعد الصدامات الطائفية وبعد الشروع بتطبيق نظام المتصرفية, في وضع ضعيف يناضلون خلاله من أجل مساحة الأرض النادرة ضد مالكي الأرض الذين كان لايزال بأيديهم الكثير من وسائل القسر والإجبار الاقتصادية وغير الاقتصادية([8]), فتجمعت أسباب كثيرة اقتلعت جزءاً من السكان المغلوب على أمرهم سياسياً والمنهوكين اقتصادياً (تدمير بيوت وفقدان مصادر رزق) ورمت بهم خارج ديارهم نحو بلدان الاغتراب. فاتجهت هجرتهم أول الأمر إلى مصر التي كانت أحوالها الاقتصادية تنمو بسرعة منذ منتصف القرن التاسع عشر([9]). وكانت تلك الهجرة تقتصر في البداية على المسيحيين([10]), بخاصة الموارنة منهم الذين بلغ عدد المهاجرين بين صفوفهم عام 1858, عام اندلاع ثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين في كسروان, نحو خمسة آلاف نسمة([11]).
ولقد أجمعت عدة مصادر, من دون أن تبيّن مصدر معلوماتها, على أن مجموع المهاجرين, إلى القارة الاميركية, من مرفأي بيروت وطرابلس, بين عامي 1860 ­ 1900, بلغ حوالى 12 ألف نسمة([12]). إلا أن هذه المصادر نفسها تختلف حول تحديد هوية المهاجرين. ففي حين رأى إيلي صفا, وكذلك مختلف الكتاب اللبنانيين, على أن هؤلاء من اللبنانيين الذين غادروا متصرفية جبل لبنان, فإن شارل عيساوي يتجنّب تعيين هوياتهم ويفسح في المجال للاستنتاج بأنهم من السوريين واللبنانيين([13]).
ويبدو أن هذا الالتباس في التفريق بين جنسية المهاجرين, فيما إذا كانوا من السوريين عامة أو من اللبنانيين تحديداً قد تبدّد, فيما يعود للفترة الزمنية اللاحقة 1900 ­ 1914, التي شهدت طفرة كبيرة في حركة الهجرة الخارجية, بلغ حجمها حوالى 210 آلاف نسمة, أي بمعدل خمسة عشر ألف مهاجر سنوياً. إذ تؤكد كافة المصادر الاجنبية, التي يعتمد عليها شارل عيساوي في أرقامه, على أن الهجرة من الساحل السوري لم تكن تقتصر في بداية القرن العشرين على اللبنانيين, وإنما شملت السوريين والفلسطينيين, وإن الأرقام الواردة في تلك المصادر لم تكن تشير إلى اللبنانيين بمفردهم, وإنما إلى كافة المهاجرين من مرفأي بيروت وطرابلس آنذاك, ومن مختلف مناطق السلطنة العثمانية.
وهكذا, فإن 330 ألف نسمة الذين هاجروا الى الأميركيتين, على الأرجح من مرفأي بيروت وطرابلس, خلال الفترة الممتدة من عام 1860 إلى عام 1914, لم يكونوا من رعايا متصرفية جبل لبنان فقط, بل من رعايا السلطنة العثمانية على وجه الاجمال.
ونميل للقول بأن سبب الاضطراب في تقديرات عدد اللبنانيين المهاجرين قبل الحرب العالمية الأولى يرجع إلى الكتابات الاوروبية التي شكلت مصدراً للأرقام حول هجرة اللبنانيين والسوريين إلى العالم الجديد منذ ثمانينات القرن التاسع عشر.
­

 أرقام بحاجة إلى تصحيح:
إن (سوري) بخاصة في بلدان الاغتراب, وحتى منتصف القرن الحالي, كانت الكلمة الشائعة والمتداولة للإشارة إلى كل من وفد إلى تلك البلدان مما يسمّى بلاد الشام. وكان يتم التعامل مع اللبنانيين والسوريين على أنهم جالية سورية دونما تفريق بينهما. إلا أن الكتابات والمنشورات عن المهاجرين السوريين, بخاصة إلى الأميركيتين, حتى عام 1904, غالباً ما كان يقصد بها الهجرة من جبل لبنان([14]), لذا, يرجح بأن أغلبية ال120 ألف مهاجر, من مرفأي بيروت وطرابلس حتى عام 1900, كانوا من سكانه.
أما القنصل البريطاني في بيروت, فقدر عدد المهاجرين من جبل لبنان بثمانين ألفاً خلال هذه الفترة نفسها 1862- ­ 1900: ستون ألفاً توجهوا نحو بلدان الاغتراب, وعشرون ألفاً قصدوا مناطق ضمن ولايات الدولة العثمانية, بخاصة نحو أقضية بعلبك, صور, صيدا طرابلس ومدينة بيروت إلى جانب مصر وقبرص([15]). إنما اللافت في تقرير القنصل البريطاني تقديره أن ثلث المهاجرين إلى بلدان أجنبية عادوا إلى أرض الوطن([16]), وهي الإشارة التي خلت منها كافة المصادر الأخرى تقريباً, بحيث لم ترد فيها أي معلومات عن نسبة المستوطنين في الخارج بشكل نهائي.
وكما تقدم ذكره, فإن الهجرة إلى القارتين الاميركيتين, التي كانت شبه مقتصرة على سكان جبل لبنان في البداية, امتدت إلى كافة الولايات السورية منذ مطلع القرن العشرين. فجاء في تقرير القنصل البريطاني عام 1902 إن الهجرة في زيادة دائمة وإنها الآن قد امتدت من لبنان إلى سائر أنحاء سوريا... وإن السماسرة يستغلون تلك الأوضاع ([17]).
وهكذا, نميل للتأكيد بأن الأرقام المتداولة والمنشورة في مختلف الكتابات اللبنانية, بخاصة عند ايلي صفا([18]), الذي اعتمدت أرقامه بعثة ارفد عام 1961, عن المهاجرين من متصرفية جبل لبنان إلى بلدان الاغتراب منذ عام 1860 حتى عام 1914, والمقدرة بحوالى 330 ألف نسمة, ما هو سوى تقدير لعدد المهاجرين من كافة المناطق الجغرافية التي كانت تشكل سوريا الكبرى, وهي الآن سوريا, لبنان, فلسطين, والأردن.
إن الأرقام المتداولة عن المهاجرين اللبنانيين لغاية عام 1914 هي على الأرجح موضع شك وتفقد الحدود الدنيا من المصداقية.
وبصفتي متخصصاً في علم الديموغرافيا يمكنني اللجوء الى استخدام بعض الطرق الديموغرافية القياسية من الإسقاط (projection) والاستيفاء (Interpolation) والمراجعة المقطعية بين مصادر المعلومات وأنواعها, لكي يتسنى لي الوصول إلى تقديرات معقولة للهجرة الهائلة التي حصلت في جبل لبنان أولاً وفي لبنان بكامله تالياً.
ولنطرح السؤال ببساطة: لو لم يكن هناك هجرة لسكان متصرفية جبل لبنان خلال الفترة 1860 ­ 1914, فكم يكون عدد اللبنانيين المقيمين في جبل لبنان عام 1914؟ إن الفارق بين هذا العدد والعدد الفعلي للبنانيين المقيمين في جبل لبنان الذين تمّ تعدادهم في احصاء عام 1913, بمبادرة المتصرف أوهانس باشا, يمكن اعتباره بمثابة مقدار معقول للهجرة آنذاك, وهذا الرقم بالذات هو ما سنحاول تعيينه.
تتفق مصادر متعددة على أن سكان متصرفية جبل لبنان بلغ حوالى 400 ألف نسمة عام 1900. وفيما لو أضفنا إلى هذا العدد 120 ألف نسمة هاجروا من متصرفية الجبل خلال الفترة 1860 ­ 1900, لارتفع عدد سكان الجبل في نهاية القرن التاسع عشر, لو لم تحدث هجرة خارجية, إلى حوالى 520 ألف نسمة. وإذا ما تمّت مقارنة هذا الرقم الأخير مع مثيله لعام 1860 البالغ 269980 نسمة([19]), حسب تقديرات الجيش الفرنسي آنذاك, لتمكنا من حساب معدل نمو طبيعي للسكان آنذاك يصل الى 1,7% سنوياً, أي أن معدل الزياد الطبيعية للسكان بلغت 17 بالألف, وهو برأينا, وإن بدا مرتفعاً قياساً على مثيله في البلدان المجاورة, حيث بلغ 10 بالألف في سوريا و15 بالألف في مصر في فترة قريبة 1895 ­- 1913([20]), فإنه أقرب إلى الحقيقة ويعتبر بمثابة المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي في الجبل, نظراً للوضع الملائم على صعيدي الولادات والوفيات, إذ مالت الظاهرة الأولى للثبات والاستقرار واتجهت الثانية نحو الانحدار والتراجع.
وانطلاقاً من معدل زيادة طبيعة 2% سنوياً في أحسن الاحوال لأمكن لسكان الجبل أن يصل عددهم عام 1914 إلى حوالى 686 ألف نسمة. أما عدد السكان الفعلي من المقيمين آنذاك, وبعد التصحيحات التي قام بها يوسف السودا على نتائج تعداد 1913, فقد بلغ 469 ألف نسمة([21]). وهكذا, فإن الفارق بين الرقمين السابقين البالغ 217 ألف نسمة يمثل تقديرنا لعدد المهاجرين من جبل لبنان حتى عشية اندلاع الحرب الكونية الأولى, وليس 330 ألفاً كما هو شائع التداول في الكتابات الجغرافية والديموغرافية.

المرحلة الثانية: 1919 -­ 1974
لقد توقفت الهجرة خلال الحرب العالمية الأولى, بيد أن الوضع تطور بعد انتهائها, إذ تمّ إنشاء دولة لبنان الكبير, وضمّ إلى جبل لبنان مناطق البقاع والشمال والجنوب وبيروت, ما حد كثيراً من موجات الهجرة إلى الخارج. وقدّر إيلي صفا متوسط عدد المغادرين سنوياً من لبنان بحوالى 4400 نسمة خلال الفترة الممتدة من عام 1919 ولغاية عام 1938. وهذه الأرقام السنوية لا تختلف كثيراً عن التقديرات التي أوردها سعيد حمادة عن المهاجرين من لبنان البالغ 3250 نسمة سنوياً للفترة 1927 ­ 1933([22]). وبعد توقف الهجرة الى الخارج خلال الحرب الكونية الثانية, عادت واستعادت نشاطها وبمتوسط بلغ 3500 مهاجر سنوياً على امتداد الفترة 1946 ­ 1959([23]).
ومهما يكن من أمر, فإن عدد المهاجرين اللبنانيين الى بلدان الاغتراب وصل خلال مائة عام 1860 ­ 1959 إلى حوالى 354 ألف نسمة موزعين حسب الفترة الزمنية على الوجه التالي:


أما بالنسبة لمجموع عدد المهاجرين والمتحدرين منهم فقدرهم إيلي صفا بحوالي 1215000 نسمة عام 1959, أي على امتداد تلك الفترة (مئة عام) أي ما يوازي 45% من مجموع اللبنانيين, مقيمين ومغتربين([24]).
إنما, لدينا الكثير من الأسباب التي تدفع بنا للتشكيك بهذه الارقام التي يقترحها ايلي صفا, والتي اعتمدتها بعثة ارفد لاحقاً وظهرت على صفحات الكتب والمراجع دون أن يصحبها أي عرض للطرق المستخدمة في الوصول إليها, وأبرزها معلومات أوردها ايلي صفا حول حجم اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم في الأرجنتين, مفادها وجود 200 ألف نسمة عام 1959. إنما, استناداً إلى تعدادين سكانيين وإلى تحقيق لم ينجز بالكامل قامت به دائرة الخدمات في القنصلية اللبنانية في بيونس إيرس, توصل الأب سليم عبو إلى تقدير عدد اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم في الأرجنتين بحوالي 100 ألف نسمة عام 1967([25]), مما يعني أن الأرقام الواردة عند ايلي صفا تميل إلى التضخيم, وأن الرقم المقترح حول المتحدرين من أصل لبناني يدعو إلى الريبة والشك. لكننا, لسنا بوارد تقديم أي تقدير مخالف, لأن القرائن التي نحن بحاجة إليها غير متوافرة, وأن جل ما سنقوم به هو اعتماد هذا الرقم نفسه الوارد عند ايلي صفا عام 1959, لنجري عليه بعض الاسقاطات, ونضيف إليه أرقاماً أخرى عن المهاجرين حصلت لاحقاً, بهدف تقدير الحد الأقصى الذي يحتمل ان يكون قد وصل إليه عدد المتحدرين من أصل لبناني في نهاية الالفية الثانية.
أما فيما يعود للفترة اللاحقة 1959 ­- 1974, فلو قدر للعهد الشهابي 1958-­ 1964 أن يستمر وأن يدوم لفترة طويلة على قاعدة بناء المؤسسات وتفعيل دورها وتعميق أسس التنمية الاجتماعية, التي ميّزت ذلك العهد, لما كانت اندلعت على الأرجح “الحرب الأهلية” عام 1975, ولكانت تراجعت الهجرة المغادرة كثيراً. ففي بداية العهد الشهابي, حيث كان لايزال أثر الاضطرابات السياسية والاجتماعية لعام 1958 ثقيلاً, استمرت مغادرة اللبنانيين مرتفعة, فوصل صافي عدد المغادرين اللبنانيين الى 52664 نسمة خلال السنوات الثلاثة الأولى من ذلك العهد 1959 ­ 1961([26]). أما بعد فترة الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والإصلاح الاداري, فإنّ هجرة اللبنانيين إلى الخارج تضاءلت ليصبح صافي المغادر منها 17256 نسمة فقط خلال سبع سنوات (1962-­ 1968).
لكن, عاودت الهجرة الخارجية زخمها بعد عام 1968, أي بمعدل صافٍ للهجرة بلغ حوالي 10200 نسمة سنوياً. وهكذا وصل صافي الهجرة المغادرة إلى حوالي 131 ألف نسمة خلال الفترة الممتدة من عام 1959 وحتى عشية اندلاع شرارة الحرب الأهلية أواخر عام 1974. إذ تميزت الهجرة المغادرة في هذه الفترة (1959 ­- 1974) انها اتجهت صوب البلدان العربية المجاورة, بخاصة دول الخليج العربي, التي عرفت فورة نهوض اقتصادي وعمراني.

 

المرحلة الثالثة: 1975- ­ 2000
قد يتساءل البعض كيف لنا أن نكتب عن الهجرة الخارجية, أي عن موضوع مادته الرئيسية الاحصائيات, وهي بطبيعتها, فيما يخصه بالتحديد, معقدة ومتشابكة, في الوقت الذي تقدم فيه الاحصائيات الصادرة عن مؤسسات رسمية, معطيات سكانية متناقضة حول المقيمين في ربوع الوطن, بالرغم من السهولة الاحصائية في الحصول على ذلك. ففي حين توصلت وزارة الشؤون الاجتماعية “مسح المعطيات الاحصائية للسكان والمساكن في لبنان”([27]) الى الرقم 3,12 مليون نسمة عام 1996, بلغ هذا الرقم 4 ملايين نسمة عام 1997 في الدراسة التي قامت بها ادارة الاحصاء المركزي”([28]) وما بدا لافتاً أن التناقض بالنتائج لم يستفز لدى المسؤولين مسؤؤلياتهم لعقد أي اجتماع علمي حول ذلك!
والواقع أن الكتابة عن الهجرة بعد عام 1975 تصبح أكثر صعوبة, خصوصاً وأن الأرقام الديموغرافية على وجه الإجمال استّعملت واستُغلت في الصراع السياسي, فضلاً عن كونها مختلفة باختلاف المصادر المستقاة منها, وهذا ما يجعلها عرضة للشك.

التقديرات المتوافرة
شكلت الحرب في لبنان, كما تشكل في غيرها من البلدان, عاملاً رئيسياً للهجرة المغادرة. إن هجرة اللبنانيين إلى الخارج, التي لم تتجاوز عشرة آلاف نسمة في السنوات الخمس السابقة لاندلاع الحرب وصلت إلى حوالي خمسين الف نسمة سنوياً في الفترة 1975- ­ 1980([29])
ويشير أمير عبد الكريم إلى أن حجم المهاجرين اللبنانيين وصل الى حوالي 900 ألف نسمة عام 1990([30]) وهذا الرقم تعتمده أغلب الكتابات والدراسات. بينما تبين نتائج إدارة الاحصاء المركزي, المستندة إلى احصائيات الامن العام اللبناني حول حركة المغادرين والقادمين عبر الحدود اللبنانية, ان رصيد الهجرة اللبنانية منذ عام 1992 ولغاية بداية عام 2000 وصل إلى حوالى 1,032 شخصاً([31]). وهكذا, وحسب الارقام الواردة سابقاً فإن حجم الهجرة الخارجية يصل إلى مليوني مهاجر على الأقل خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
نتساءل هل أن هذا التقدير صحيح؟ للإجابة على ذلك لا بد من اللجوء الى تقدير لعدد المقيمين اللبنانيين في بداية عام 2001.
بالطبع هناك طرق متعددة تتيح امكانية للاسقاط الديموغرافي المنوي القيام به, لكن نظراً لأن الواقع الديموغرافي اللبناني كان متقلباً كثيراً على مستوى مختلف الظواهر الديموغرافية, خلال الربع الأخير من القرن العشرين, وعدم استجابة ما تنشره مديرية الاحوال الشخصية عن حالة السكان في لبنان (مواليد ­ وفيات... الخ) لمتطلبات هذا الاسقاط, عمدنا الى اسقاط يقوم على ثلاث فرضيات:
1- ­ عدم مغادرة أي مهاجر لبنان منذ عام 1975, حيث تتوافر لدينا معطيات صلبة عن حجم السكان, ولأول مرة في تاريخ لبنان.
2­-  تطور حجم السكان اللبنانيين وفق معدل نمو طبيعي بلغ 2,4% سنوياً خلال الفترة 1975 ­ 1987 و2% للفترة اللاحقة. إذ تشير كافة الأبحاث والدراسات الديموغرافية الى أن معدل النمو الطبيعي البالغ في لبنان 2,6% في بداية سبعينات القرن الماضي قد تراجع كثيراً في ما بعد, بحيث أنه أصبح بحدود 1,8% حالياً, ولأسباب بنيوية مرتبطة بتدني مستويات الخصوبة إذ أن متوسط عدد مواليد المرأة تراجع من 4,5 أولاد عام 1975([32]) الى حوالى 2,8 عام 1996(32).
3 ­- استمرار نسبة المقيمين غير اللبنانيين ثابتة (8,5%) منذ عام 1985, باستثناء المقيمين بصورة مؤقتة, بخاصة السوريين (عمال موسميون). هذا, وان هذه النسبة كانت بحدود 7,5% عام 1997 في دراسة الاوضاع المعيشية للأسر في لبنان (ادارة الاحصاء المركزي). وان الاسقاط سيكون انطلاقاً من بداية العام 1975 ولفترتين زمنيتين 1987 و2001, وان النتائج تشير إلى اعداد اللبنانيين المقيمين نظرياً على افتراض انه لم يغادر اي مهاجر لبنان. ومقارنة هذه النتائج مع أعداد اللبنانيين المقيمين فعلياً في هذين التاريخين تشير إلى تقدير حجم المهاجرين اللبنانيين خلال تلك الفترة. أما أعداد المقيمين اللبنانيين في هاتين الفترتين فمصدرها:
­ التحقيق الاحصائي بالعينة حول السكان المهجرين في لبنان عام 1987.
­ بالنسبة لعام 2001, طالما انه يتوافر تقديران لعدد السكان في لبنان عن ادارتين رسميتين عمي 1996 و1997, فإننا سنجري اسقاطاً لمتوسط هذين العددين لغاية عام 2001 على أساس معدل الزيادة السنوية منذ عام 1987 والبالغ 0,73% (مع العلم أننا اضفنا 300 ألف متجنس على نتائج دراسة وزارة الشؤون الاجتماعية لعام 1996 في حين أن هذا العدد تضمنته نتائج ادارة الاحصاء المركزي).


وانطلاقاً من معطيات الجدول السابق يتبين انه خلال الفترة 1975 ­ 1987 غادر لبنان حوالي 400 الف نسمة, في حين ان عدد المغادرين خلال العقدين والنصف الاخيرين, من القرن العشرين (1975 -­ 2001) بلغ مليون ومائة وخمسون الف مهاجر, أي أنه غادر لبنان منذ عام 1987 وحتى عشية الالفية الثانية حوالي 750 الف نسمة, بمتوسط سنوي بلغ 54 ألفاً. في حين ان متوسط عدد المهاجرين للفترة السابقة 1975 -­ 1987 بلغ حوالي 33,8 الف نسمة سنوياً.
ونعتقد أن هذا التقدير هو الاقرب الى الواقع, وان التقدير السابق الذي أشرنا إليه حول عدد المهاجرين اللبنانيين خلال هذه الفترة, والبالغ حوالي مليوني مغادر, الذي يرفع عدد المقيمين اللبنانيين, في بداية الألفية الثالثة في حال عدم وجود أي مهاجر, الى حوالي 6,118 ملايين نسمة, يبدو غير صحيح, لماذا؟
لأنه من غير المنطقي أن يتجاوز عدد المقيمين اللبنانيين 5 ملايين نسمة (بمن فيهم 8,5% من الأجانب) وهو الرقم الذي توصل إليه الديموغرافيان الشهيران فيليب فارغ ويوسف كرباج من خلال الاسقاط الديموغرافي الذي قاما به عام 1974 على أساس فرضية الحد الأقصى للنمو الطبيعي للسكان في لبنان 2,6 بالمئة, على امتداد تلك الفترة. وهكذا يكون قد تعرض لبنان خلال 25 عاماً لأكبر عملية هجرة في تاريخه, بحيث أن حوالي ربع سكانه اقتلعوا من ربوع الوطن إلى بلدان الاغتراب, في حين أن هذه النسبة من الهجرة كانت قد حصلت سابقاً في متصرفية جبل لبنان, وانما على امتداد فترة زمنية مضاعفة (1860-­ 1914).

 

يرى أحد علماء الاحصاء الفرنسيين جيرار كالو Gerard Calot ان إحدى سمات القرن العشرين كانت ذلك التطور الحاصل في ميدان الاحصاء. وإذا كانت تصحّ هذه الملاحظة على كافة بلدان المعمورة, فنحن غير معنيين بها, إذ لازال لبنان البلد الوحيد في العالم الذي لا تجري فيه احصاءات سكانية.
وإذا كان هذا هو واقع الحال الاحصائي للسكان اللبنانيين المقيمين, حيث ان تقديرات اعدادهم من مصادر رسمية تختلف كثيراً للعام نفسه تقريباً, عامي 1996 و1997 (3,112 و4 ملايين نسمة). فالأمر يصبح الأمر أكثر تعقيداً وتشابكاً بالنسبة للمهاجرين وللمتحدرين من أصولهم, بخاصة عندما يحتدم السجال السياسي الداخلي على أمور لها علاقة بالطوائف وبأصحابها.. الخ.
إلى ذلك فان التقديرات المتداولة حول حجم الانتشار اللبناني في العالم تتراوح ما بين 13 مليون حسب تقدير الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم([33]) و8,625 ملايين نسمة حسب تقدير, تمّ بناؤه على أساس نموذج رياضي, قام به الدكتور انيس ابي فرح([34]).

حجم الانتشار اللبناني في العالم
ولنراجع ما تمّ حتى الآن: إن حجم اللبنانيين والمتحدرين منهم وصل عام 1959 الى حوالي 1,215 مليون نسمة. أما المهاجرون اللبنانيون خلال الفترة الثانية 1959 ­- 1974 فكان بحدود 131 ألف نسمة وحوالي مليون ومائة الف نسمة في نهاية المرحلة الثالثة 1975 -­ 2000.
أما التقدير الثاني الذي نحن مطالبون بإجرائه فهو تقدير المتحدرين من أصل هؤلاء المهاجرين عام 2001, والاسقاط المطالبون به يقوم على طريقتين:
الطريقة الأولى: تعتمد على بعض الفرضيات حول معدلات النمو الديموغرافي بين المهاجرين والمتحدرين من أصولهم وهي:
أ -­ إن نمط تزايد المهاجرين اللبنانيين في بلدان الاغتراب, يخضع لمنطق آخر من النمو يختلف عن نظيره بين المقيمين (زواج من أجنبيات) ومعدل النمو السنوي استمر بحدود 3 بالمائة, كما أشرنا سابقاً بالنسبة للهجرات الحاصلة قبل عام 1959. والهجرة الحاصلة خلال فترة زمنية معينة, نفترض حصولها دفعة واحدة في منتصف الفترة, وذلك لنتمكن من تسهيل القيام بإسقاط سكاني, مع العلم أن النتائج في نهاية الفترة تستمر متماثلة إلى حد ما فيما لو تمّ إسقاط عدد المهاجرين لكل سنة بمفردها.
ب -­ ان معدل النمو السنوي للسكان بين المهاجرين من عام 1960 ولغاية عام 1974 كان بحدود 2,4 بالمائة, خصوصاً وأن أغلب الهجرات تمت إلى بلدان الخليج العربي.
ج -­ لم يتجاوز معدل النمو السنوي للسكان واحد بالمائة بين المهاجرين بعد عام 1975, لأن أغلب الهجرات كادت أن تقتصر على هجرات أسرية.
وانطلاقاً من ذلك, ووفقاً للحسابات التي قمنا بها, نصل إلى بناء الجدول التالي:


 
وعليه يُطرح التساؤل: ما هو التوزيع الراهن للسكان اللبنانيين؟ لقد نما اللبنانيون بطريق الزيادة العامة, لا الزيادة الطبيعية, إلى مجموع تقديري من حوالي 3,650 ملايين نسمة عام 2001. ويتوزع باقي اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم في سائر أنحاء العالم بأعداد تقريبية تصل, إلى حوالي 5,9 ملايين نسمة. إذ يتبين أن المغتربين يشكلون نسبة 62 بالمئة من مجموع اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم البالغ حوالي 9,55 ملايين, في حين لم تكن هذه النسبة تتجاوز 45 بالمائة عام 1959.
الطريقة الثانية: طريقة تقدير الانتشار اللبناني في العالم استناداً إلى حجم السكان في فلسطين.
عندما تغيب المصادر الاحصائية الرسمية, ويتعذر وجود المصادر الاحصائية الجديرة بالثقة, أي التي لا مصلحة لأصحابها بتضخيم الأرقام حول شعب من الشعوب أو في التقليل منها, وتبرز بالتالي, صعوبة في الحصول على أرقام صحيحة, يصبح أقرب إلى الحقيقة, استقراء هذه الأرقام ومراجعتها بالمقارنة مع أرقام في مناطق جغرافية مجاورة ومماثلة في التركيب الديموغرافي وفي الأوضاع الاجتماعية الأخرى. أضف إلى ذلك, إن هذه المقارنة تتيح إمكانية التثبّت من التماسك الداخلي لهذه الارقام في حال تمّ تقديرها على أساس بعض الطرق الاحصائية المتداولة. فنمو السكان الطبيعي يخضع لنمط من التزايد تحدّده آليات معينة من تطور الولادات والوفيات المحكوم بأوضاع اجتماعية واقتصادية متشابهة بين بلدين تنعكس بتماثل مشابه يبرز, إلى حد ما, في ظواهر أخرى, بخاصة الديموغرافية منها. وهكذا, فإن المهاجرين إلى بلدان, أكثر تقدماً وحضارة, يتبنون, ولو بعد حين السلوكيات السائدة بين السكان الاصليين, بخاصة السلوك الديموغرافي المتعلق بالخصوبة والانجاب, المتسم بالميل نحو انخفاض متوسط عدد المواليد في الأسرة, وبالتالي انخفاض معدل النمو السكاني.
وتشير بعض المصادر المتوافرة إلى أن عدد سكان تلك الأقاليم من الامبراطورية العثمانية, التي اندمحت لتؤلف دولة فلسطين فيما بعد, بلغ حوالي نصف مليون نسمة عند منتصف القرن الثامن عشر([35]). أما تلك المناطق التي شكلت دولة لبنان الكبير عام 1920, فكان يعيش فيها حوالي نصف مليون نسمة (488 ألفاً) عام 1861([36]).
إن التقديرات التي أجريت على سكان فلسطين العرب, المستندة إلى إحصاءات هيئات دولية ديموغرافيين بريطانيين وإحصاءات رسمية, بيّنت أن حجم السكان الأصليين من عرب فلسطين بلغ حوالي 5,35 ملايين نسمة عام 1970: 3 ملايين داخل المناطق التي تسيطر عليها اسرائيل, و2,35 مليون يتوزعون مشتتين في سائر أنحاء العالم ([37]). ولو تمّ إسقاط هذا المجموع حسب معدل تقديري للزيادة الطبيعية من 2,4 بالمائة فقط في السنة للفترة اللاحقة (1970 ­- 2000) لبلغ مجموع العرب الفلسطينيين والمتحدرين من أصولهم, في فلسطين وخارجها, حوالي 11 مليون نسمة.
وعليه فإن مجموع اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم, في لبنان والخارج, لا يتجاوز هذا الرقم المشار إليه للفلسطينيين, أي 11 مليون نسمة عام 2001. وإذا حذفنا حوالي 3,750 ملايين لبناني يقيمون فيه, لقدر عدد اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم في بلدان الاغتراب قياساً على سكان فلسطين, بحوالي 7,350 ملايين. واستناداً الى هذه النتيجة, فإن حجم الانتشار اللبناني في العالم يمثل على الأقل ضعفي مثيله من المقيمين على أرض الوطن وهنا, تبدو تقديراتنا اكثر تجريبية من التقدير السابق المبين في الطريق الأولى, وتنبؤاتنا اقل تعويلاً.
 

الخلاصة:
وهكذا, فإن التقديرات التي قمنا بها حول اللبنانيين والمتحدرين من أصولهم في بلدان الاغتراب تشير إلى أن حجمهم يتراوح ما بين حوالى 5,9 و7,350 مليون نسمة كحد أقصى.
بيد أنه ثمة ملاحظة أخيرة لا بد منها, أن الأرقام الواردة أعلاه هي تقديرات تجريبية, وهي بالتالي كغيرها من التقديرات الاخرى, عرضة للتشكيك والخطأ, إنما تتميز باعتمادها على طرق احصائية في التقدير وعلى فرضيات تستند إلى نتائج ديموغرافية محدّدة.
ومهما يكن من أمر, فإن التقديرات لا تصبح حقيقة, إنما تستمر على هوامشها القريبة أو البعيدة, إلى حين اجراء إحصاء, تبدّد نتائجه السراب المتراكم والمتضخم حول الأعداد التي يتم تداولها عن حجم الانتشار اللبناني في العالم, وهو الاحصاء الذي يتعذر اجراؤه حتى على أرض الوطن, ربما خوفاً من وضع أسس أولية لبنائه تضر بمصالح من ليس من مصلحته ذلك من القوى السياسية والفئات المستفيدة من بقاء الوضع على حاله. ونقدر بأنه عندما يتمكن الوطن من احتواء طوائفه يمكن الوصول إلى اجراء احصاء يبين فيه حجم اللبنانيين, مقيمين ومغتربين, على أساس مخزونهم العلمي والاقتصادي والاجتماعي وليس على أساس خوائهم الطائفي أو المذهبي.

 

المراجع

(*) لا توجد مصادر احصائية خالية من التحيز, بخاصة في بلد يعتمد نظامه الأساسي تركيب السكان حسب الطوائف, حيث يصبح تشويه المعلومات مسألة مستوطنة. لذلك تصبح الأرقام الصادرة عن مصادر أجنبية حول المغتربين اللبنانيين بخاصة قبل منتصف القرن الماضي, هي أدنى تقريباً إلى الواقع. ولكن ذلك لم يمنعني من استخدام مصادر لبنانية لكي أبيّن الحد الأقصى المطلق لأرقام يرغب البعض في تضخيمها, أو على نحو معكوس يرغب البعض الآخر في التقليل منها.
(*) يتوافر تقديران لعدد المهاجرين عام 1999, الأول صدر في نشرة إدارة الاحصاء المركزي, عدد 1 عام 2000, بحيث يبلغ عدد المهاجرين 272 ألف نسمة (استناداً إلى مصادر الأمن العام) وآخر عن الأمن العام يقدر عددهم 2267 نسمة (جريدة السفير عدد 8714).

 


[1]  Gouvernement du Liban, Projet Présenté par le Général De Beaufort, commandant du chef du corps expéditionnaire de Syrie en 1860 - 1861, In Troubles agraires et comflits entre communauté dans la 1ère moitié du XIX Os. au mont-liban, thèse du doctorat dEtat, soutenue par Amine Jradé à Grenoble II, France, 1991.

[2]  Elie safa, lémigration libanaise, Université st. joseph, Beyrouth 1960.

[3]  IRFED, Besoins et possibilités de developpement au Liban 1960- 1961, éd. Ministère du plan Tome I, p. 49.

[4]  شارل عيساوي, التاريخ الاقتصادي للهلال الخصيب 1800 ­ 1914, منشورات مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت 1990, ص 60.

[5]  فعلى اثر الصدامات الطائفية المريرة التي حصلت بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1860, تشكلت لجنة دولية من تركيا ومن الدول الأوروبية الخمسة: روسيا, بروسيا, فرنسا, بريطانيا والنمسا, لبحث وضع جبل لبنان. وتوصلت هذه اللجة لإصدار وثيقة دستورية عرفت بنظام البرتوكول الخاص بإعادة تنظيم الجبل, الذي كان يتشكل من قائمتين: واحدة درزية في الجنوب والأخرى مارونية في الشمال, وهي الوثيقة التي شكلت مع تعديلاتها عام 1864 أساساً لهذا النظام الجديد الذي عرف بنظام متصرفية جبل لبنان, والذي تمتع بالاستقلال الاداري عن ولاية السلطنة العثمانية آنذاك.

[6]  روجر اوين, الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي 1800 ­ 1914, ترجمة سامي الرزاز, مؤسسة الأبحاث العربية, بيروت 1990, ص 230.

[7]  المرجع السابق نفسه, ص 231.

[8] المرجع السابق نفسه, ص 232.

[9]  المرجع السابق نفسه, ص 234.

[10]  شارل عيساوي, التاريخ الاقتصادي, مرجع سبق ذكره ص 60.

[11]  فؤاد شبقلو, المهجرون “ضحايا المخطط الانعزالي”, برويت, ص 21, نقلاً عن م. جوبلين “مشكلة لبنان” (مغفل تاريخ النشر).

[12] شارع عيساوي, التاريخ الاقتصادي, مرجع سبق ذكره, ص 60.

[13] المرجع السابق نفسه, ص 60 ­ 61.

[14]  المرجع السابق نفسه, ص 128.

[15]  المرجع السابق نفسه, ص 140.

[16] المرجع السابق نفسه ص 140.

[17]  المرجع السابق نفسه ص 60.

[18]  مرجع سبق ذكره ص 52, Elie Safa, lémigration

[19]  A.M.G, Expédition de Syrie (1860 - 1861)

, série G4, carton No3, Rapport du général du Beaufort, N. 37, Beyrouth, le 14 février 1861, dans: Amine JRADE, trouble agraires et conflits entre communautés dans la `ère du XIXos. au Mont-Liban, thèse du Doctorat dEtat soutenue à Grenoble II le 16 sept. 1991.

[20]  Y.Courbage et Ph.Fargues, La situation démographique au Liban, I.S.S, Université Libanaise, Beyrouth 1974, Tome, p. 18.

[21]  A.M.G, Expédidtion de Syrie (1860-1861)

[22]  سعيد حماده, النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان, منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة بيروت الاميركية, بيروت 1936, ص 16.

[23]  مصدر سبق ذكره, ص 39, Y. Courbage et Ph. Fargues, la situation.., Tome II.

[24]  ­ المرجع السابق نفسه. ص 40.

[25]  Selim Abou, immigrés dans lautre amérique, éd. Plon, Paris 1972, p. 530.

[26]  Y. Courbage et Ph. Fargues, la situation, tome II, p. 43.

[27]  مسح المعطيات الاحصائية للسكان والمساكن 1994 ­ 1996, وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع صندوق الامم المتحدة للسكان, بيروت 1996.

[28]  د. رياض طباره, التنمية العربية والموارد البشرية, السياسات السكانية في لبنان, منشورات مركز الابحاث في معهد العلوم الاجتماعية, الجامعة اللبنانية, بيروت 1983, ص 8.

[29]  Amir Abdelkarim, la dispora Libanaise en France, éd, lصharmattan, Paris 1996, p. 25.

[30]  ناهد الرواس, التغييرات الديموغرافية في لبنان, رسالة أعدت لنيل شهادة الدبلوما في علم الاجتماع, معهد العلوم الاجتماعية (الفرع الأول), الجامعة اللبنانية, بيروت عام 2000, ص 67.

[31]  مصدر سبق ذكره, ص 29. Y. Courbage et Ph. Fargues, la situation.

[32]  ناهد الرواس, التغييرات الديموغرافية لبنان, مرجع سبق ذكره, ص 42.

[33] Chambre de commerce et dIndustrie canad-Liban, Bulletin, Vol.1, N:3, P.4.

[34]  الدكتور انيس ابي فرح, البطالة والهجرة داء في الجسم اللبناني لم يشخص بدقة, جريدة السفر, العدد 8711 تاريخ 20/11/2000.

[35]  ­ جانيت ل. ابولغد “التحول الديموغرافي لفلسطين”, تهويد فلسطين, ترجمة الدكتور اسعد رزق, منشورات مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية, بيروت 1972, ص 156.

[36]  مرجع سبق ذكره A.M.G, Expédition de Syrie (1860-1861)

[37]  جانيت ل. ابولغد “التحول الديموغرافي” مرجع سبق ذكره, ص 180.