- En
- Fr
- عربي
الهجرة الى الذات
إن الهجرة هي قانون وجودي ما اقتصر على الإنسان وحسب بل تعداه إلى عالم الحيوان والحشرات حتى النبات والجماد. واتسعت دائرة مفهومها لتشمل هجرة العقول والأفكار والأموال وانتقالها بين المجتمعات.
رافقت الهجرة العصور البشرية كلها من آدم الذي هجر الجنة بمعصيته إلى يومنا الحاضر. وأدت نتائجها إلى ثورات إصلاحية وتغييرات جوهرية في المجتمعات المنحرفة، واستحداث مجتمعات جديدة وإعمار الأرض وإصلاحها. وتأصلت هذه الظاهرة في النفس البشرية التواقة إلى اكتشاف العوالم الجديدة عبر الرحلات الفردية والجماعية، ونشر الإنسان وسائل استكشافه عبر البحار والمحيطات ليوسع من رقعة استعمار الأرض.
الهجرة هي صيرورة تنطبق على المعتقدات إطلاقاً. فهكذا هاجرت البوذية من نيبال واستقرت في الصين، وزحفت المسيحية من فلسطين إلى روما، وانطلقت الدعوة الإسلامية مع الهجرة النبوية، وفي مسيرة ماو تسي تونغ مشى معه مئة ألف من أتباعه، في ما عرف بالمسيرة الكبرى، إلى شمال الصين لينشئ هناك جمهوريته الأولى في ينان.
ولقد حققت أكبر الهجرات أفضل النتائج كما جرى مع هجرة كولومبوس إلى العالم الجديد حيث تقرر مصير الغرب وانتقلت محاور التاريخ والحضارة من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي.
أما اللبنانيون فقد عشقوا الهجرة مذ وجدوا، ومن أرضهم واليها كانت الهجرات فكان لبنان الفريد المتميز شعبا وحضارة. فمن شواطئه حمل قدموس الحرف إلى العالم ليتعرّف الى الحضارة، وخطف زوس "أوروب" لتحمل اسمها القارة العجوز، ومن صور هاجرت أليسار إلى الساحل الإفريقي تبنى عليه حياً فينيقياً عرف بقرطاجة. ومن موانئه هاجرت المراكب والسفن تمخر عباب البحر المتوسط موزعة على ضفافه وفيه قبسات من حضارة وبعض رسل، ومن البحر تعبر إلى المحيط تكتشف، قبل كولومبوس، العالم الجديد.
وإلى لبنان هاجر كل رسول دعوة ومعتقد وحضارة «فتَلبنَنَ»، ليغدو وطن الأرز واحداً في تنوعه وتعدد ثقافاته، ويقدم نموذجاً فريداً للقاء الأديان والحضارات والشعوب، ولحرية الفكر والقول والعمل.
ولقد شكل الانتشار اللبناني في الخارج رأسمالاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً كبيراً أفاد منه لبنان في مجالات وخسر في أخرى. كسب الصيت والشهرة من أبناء له دخلوا التاريخ من بابه الواسع، ودعمت ماليته أموال مغتربيه فصمدت على الرغم من كل ما عصفت به من حروب. ولكن بالمقابل، خسر من شبابه النخبة ومن أدمغته الألمع، فاستورد نتاجهم بدل أن يصدره.
ولكن هذه الهجرة تبقى اقل خطورة، بلا ادنى شك، من هجرة الذات التي بدأت عوارضها تظهر في مجتمعنا اللبناني، والتي قد يكون من نتائجها فقدان المجتمع خصائصه الأصيلة فتميع منظومته القيمية والأخلاقية وبالتالي وجوده وحضارته. لذا، بدلاً عن هجرة الذات هلمّ بنا للهجرة إلى الذات، الذات اللبنانية، إذ بها نرجع إلى أنفسنا ووطننا.
ولنكن في هجرة مستمرة إلى الذات وما يعبّر عنها بالصيرورة الدائمة والتحول المطرد نحو الأحسن والأفضل. هجرة بالنفس من الفساد إلى النقاء، من الكذب إلى الصدق، من الخيانة إلى الإخلاص، من الإهمال إلى الإتقان، من الشر إلى الخير، من الباطل إلى الحق، من التبعية إلى الوطنية، من الضلال إلى الهدى، من الانغلاق إلى الانفتاح، من الطائفية إلى الله تعالى.