دراسات وأبحاث

الهجرة غير الشرعية بين تجارة الأوهام وحلم الثروة
إعداد: الدكتور احمد علّو
(عميد متقاعد)

تعتبر الهجرة غير الشرعية، أو غير القانونية، أو السريّة, ظاهرة عالمية موجودة في الدول المختلفة، من الدول المتقدمة كالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، أو الدول النامية كدول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتحوّل بعض الدول الأوروبية قبلة للمهاجرين، من دول أخرى، سواء أكانت مجاورة أم بعيدة. ولكن هذه الظاهرة، اكتست أهمية بالغة في حوض البحر المتوسط، والحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، لكثرة تركيز الإعلام عليها، فما هي هذه الظاهرة، وأسبابها، وتداعياتها ونتائجها؟

 

الهجرة وتاريخها
الهجرة، أو المهاجرة لغةً، هي «الإنتقال من بلاد الى بلاد أخرى»، ولأسباب متعددة.
وقد ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948 عن الأمم المتحدة في المادتين 13 - 2 و14 - 1 ما يأتي:
- 13 - 2: «يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة اليها».
- 14 - 1: لكل فرد الحق في أن يلجأ الى بلاد أخرى أو يحاول الإلتجاء اليها هرباً من الإضطهاد».
الهجرة قديمة في التاريخ، وتعود الى قدم الإنسان نفسه، وانتقاله الدائم والدؤوب من مكان الى آخر بحثاً عن الرزق ووسائل العيش، أو بحثاً عن الأمان، أو هرباً من الطبيعة والطقس في مكان ما، الى آخر، ودائماً دافعه في ذلك هو حب البقاء والحفاظ على الحياة، أو الرغبة في اكتشاف بيئة أكثر تلاؤماً ومواءمة مع حاجاته وطموحاته.
كثيرة هي الشعوب التي عرفت الهجرة في تاريخها، وكثيرة هي الدول التي قامت ونشأت من المهاجرين، منذ أقدم العصور وحتى اليوم، في آسيا وأوروبا وأميركا وحتى في أفريقيا، وكلنا يعرف أن دولاً مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وكثير من دول أميركا اللاتينية وأستراليا قامت وتطوّرت بفضل الأعداد الكبيرة من المهاجرين من مختلف مناطق العالم. واليوم، وبعد أن اتخذت الدول أسماءها وحدودها، وهويتها القومية والسياسية أو الدينية، فقد وضعت من القوانين الداخلية ما يكفل لها المحافظة على كيانها وشعبها، فحددت طرقاً وقوانين للدخول اليها، والإقامة أو العمل فيها، كما وضعت قواعد وأنظمة لمنح جنسيتها لمن يأتي الى مجال سيادتها أو يطلب إذناً بالبقاء فوق أرضها، سواء أكان ذلك مؤقتاً أم دائماً، ومن يدخل بلداً ما خارج إطار هذه القوانين يعتبر وجوده فيها غير شرعي، وغير قانوني، وقابلاً للتوقيف والترحيل في أي لحظة.

 

حجم الهجرة غير الشرعية
من الصعوبة بمكان تحديد حجم هذه الهجرة وذلك نظراً الى طبيعة هذه الظاهرة، كون المهاجر السري يتوزّع على صنوف متعددة منها:
- شخص يدخل بلداً بطريقة غير قانونية ولا يسوّي وضعه القانوني.
- شخص يدخل بلداً بطريقة قانونية ثم يمكث هناك بعد انقضاء مهلة الإقامة القانونية.
- شخص يعمل بصورة غير قانونية خلال إقامة مسموح بها.
- شخص يعمل في عمل غير المنصوص عليه في عقد العمل.
ولعل هذا ما يفسّر تضارب التقديرات حول عدد المهاجرين غير الشرعيين، فمنظمة العمل الدولية مثلاً تقدّر حجم الهجرة غير الشرعية بما بين 10 و15٪ من عدد المهاجرين في العالم، وحسب التقديرات الأخيرة للأمم المتحدة، يبلغ حجم هذه الهجرة 1780 مليون شخص، كما أن منظمة الهجرة الدولية قدّرت حجم الهجرة غير القانونية الى دول الإتحاد الأوروبي بحوالى 1.5 مليون شخص.

 

ظاهرة الهجرة غير الشرعية

الهجرة غير الشرعية ظاهرة عالمية، وهي وإن كانت تجري بصورة سرية إلا أن ما تكشفه وسائل الإعلام بين فترة وأخرى، يدل على ما يظهر منها، أو ما تشاء الصدف، أو الحظ العاثر للقائمين بها من كشفه أو اكتشافه. وهي تمتد على مساحة غالبية دول عالم اليوم.
إن أهم المناطق التي تجري فيها هذه الهجرة تتركز كما يأتي:
- حوض البحر المتوسط: ما بين شمال أفريقيا ودول جنوب أوروبا خصوصاً.
- الحدود المكسيكية مع الولايات المتحدة وبعض دول أميركا اللاتينية.
- دول شرق آسيا؛ وخصوصاً ما بين أندونيسيا وأستراليا.
هذا بالإضافة الى دول آسيوية وأفريقية مختلفة تتم من خلالها عملية تنظيم هجرات سرية منفردة، أو جماعية باتجاه بلدان الجذب الواقعة في الشمال: دول أوروبا أو أميركا الشمالية، أو بعض دول الجذب في جنوب الكرة الأرضية كالبرازيل وأستراليا.

 

أسباب الهجرة

يمكن إيجاز أسباب الهجرة غير الشرعية بما يأتي:
 

• الأسباب الإقتصادية:
يشكّل التباين الإقتصادي ما بين الدول «الجاذبة»، والدول «الطاردة»، والفرق في المستوى المعيشي والإقتصادي، للفرد، عاملاً فاعلاً وأساسياً في تحفيز الإنسان في الدول الطاردة للإنتقال الى مكان آخر يؤمن له ما يطمح اليه، ذلك أن الكثير من المجتمعات في الجنوب ما زالت تعاني من تزايد البطالة، وكثرة اليد العاملة، وتقلّص فرص العمل وخصوصاً في صفوف الشباب والحاصلين على مؤهلات جامعية، كما أن بعض دول شمال أفريقيا لا زالت تعتمد في اقتصاداتها على الزراعة والتعدين، وهذان القطاعان لا يضمنان استقراراً في التنمية لارتباط الأول بالأمطار والثاني بحال السوق الدولية والتنافس التجاري. كذلك فإن ظاهرة البطالة تراكم في حجم الفقر في هذه المجتمعات، فمثلاً: 14٪ من المغاربة يعيشون تحت خط الفقر (1 دولار باليوم)، كذلك فإن معدل الأجور لا يكفي في حده الأدنى للإستمرار في حياة مستقرة.

 

• العوامل المحفّزة:
 

وتتجلّى في وجوه ثلاثة:
- صورة النجاح الإجتماعي: وهو الوجه الذي يظهره المهاجر عند عودته الى بلده لقضاء عطلة أو زيارة، حيث يعمد الى إبراز مظاهر الغنى: سيارة - هدايا - شراء عقار وبيت، وهنا يؤدي الإعلام المرئي دوراً بارزاً في إظهار هذه الصورة التي يلتقطها آلاف السكان حتى الفقراء منهم الذين يمتلكون على الرغم من فقرهم هوائيات تنقل اليهم عبر مئات القنوات مشاهد عن عالم ساحر يزرع فيهم الرغبة في الإنتقال اليه، والهجرة.
- القرب الجغرافي: لا تتجاوز المسافة بين شمال أفريقيا (المغرب مثلاً) وأوروبا العشرين كلم، ويمكن رؤية الشاطئ الأوروبي من طنجة، كذلك بالنسبة الى الحدود ما بين المكسيك والولايات المتحدة وأندونيسيا وأستراليا...
- عوامل النداء: يعتبر البعض أن «حلم الهجرة هو نتاج الممنوع»، وهو رد فعل أمام غلق الأبواب أمام الهجرة الشرعية والسياسية التي تبنتها دول أوروبا وأميركا في هذا المجال، مما أجّج وتيرة الهجرة السريّة، وعاد بنتائج عكسية، ولكنه رفع من كلفة هذه الهجرة بالنسبة الى مَن يريدونها. غير أن طلب اليد العاملة الرخيصة للقيام بأعمال مؤقتة ومنبوذة إجتماعياً، من قبل الدول المستقبلة، فتح المجال لقيام شبكات منظمة في العديد من البلدان التي تعتبر مناطق مرور للمهاجرين لتسهيل نقل هؤلاء، أو إيصالهم الى بر الأمان في الضفة الأخرى لقاء مبالغ قد تصل الى 5500 دولار للشخص الواحد. وهكذا فقد أدت جدلية الرفض القانوني لقبول ودخول المهاجرين الى الدول الجاذبة، والطلب الإقتصادي لبعض قطاعات العمل في هذه الدول لليد العاملة الرخيصة الى ما يمكن تسميته «بتجارة الأوهام». فالمهاجر يبيع بيته، أو أرضه، لتأمين ثمن الرحلة السريّة والتي قد لا تتم لأسباب عديدة، وقد يلقى حتفه، أو يعتقل خلالها.

 

الهجرة المغاربية أو موسم الهجرة الى الشمال
يبدو أن موسم الهجرة المغاربية نحو الشمال الأوروبي لم ينتهِ بعد، وأغلب الدراسات السوسيولوجية التي أجريت في دول المغرب العربي تؤكد أن نسبة عالية من الشباب، وغيرهم من الأطفال والكبار يحلمون بالهجرة السريّة والإلتحاق بـ«الفردوس المفقود»، والتخلّص من البطالة والإنتظار القاتل. ففي منطقة «بني ملال» وسط المغرب أكد حوالى 96٪ من الذين شملتهم الدراسة حول هذه الظاهرة، أنهم سيلجأون الى «الحراقة» أو «الحريك»، وهو الإسم الشعبي للهجرة السريّة عندهم وبأي «ثمن» من أجل الوصول الى «الفردوس المفقود»، ولسان حالهم يقول «لا» للمثل الشعبي: «قطران بلادي ولا عسل البلدان» بل: «ياكلنا الحوت... وما ياكلناش الدود»، أو «كرتون روما ولا نتوما» في إشارة الى حوادث الغرق في قوارب الموت (الباطيرات) وهي قوارب صغيرة تُستعمل للتهريب عبر مياه البحر المتوسط نحو سواحل أوروبا الجنوبية.

 

«الحراقة» و«الحريك»
يرى بعض المحللين أن فاتح الأندلس طارق بن زياد، عندما بلغ ضفة المتوسط الشمالية (إسبانيا حالياً) وأمر بإحراق السفن ليمنع جنوده من التفكير في العودة أو الهرب، لم يدر في عقله أن فعلته هذه ستصبح مثلاً يحتذيه عدد كبير من شباب الجنوب.
ذلك أن شباب اليوم المهاجرين الى الشمال يلجأ الى «حرق» أوراق الهوية وجميع مستنداته أملاً في الحصول على هوية جديدة ما إن تطأ قدماه وسيلة النقل المعدّة لهروبه، وهذه الوسيلة قد تكون قارباً صغيراً (تدعى قوارب الموت)، أو شاحنات البضائع التي تعبر البحر بواسطة قوارب كبيرة، أو أي وسيلة أخرى،  تتعدد ما بين السيارات وحافلات الركاب، أو عقود العمل المزوّرة، أو الزيجات البيضاء، أو عبر السفر القانوني الذي يتحوّل الى هجرة سرية. كما أن «مافيات» الهجرة السريّة تقوم بدور فاعل في تنمية وتشجيع وتسهيل عملية «الحريك» نظراً الى المكاسب الكبيرة التي تحصل عليها من ذلك.

 

الهجرة السريّة ما بين الولايات المتحدة والمكسيك
تمتد الحدود الدولية ما بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية بطول يصل الى 3360 كلم، وعلى الرغم من المراقبة المشددة والمستمرة لهذه الحدود خصوصاً التي تفرضها الولايات المتحدة، فإن عمليات الهجرة غير الشرعية والتهريب عبرها ما زالت مستمرة حتى هذا اليوم. وأخيراً أصدر الكونغرس الأميركي (تشرين الأول 2006) قراراً أجاز بموجبه بناء جدار بطول 1200 كلم على طول الحدود مع المكسيك للحد من هذه الهجرة، والتي لا تقتصر على المكسيكيين وحدهم بل إن الكثير من المهاجرين يأتون الى المكسيك كمحطة إنطلاق وتجمّع للدخول الى الولايات المتحدة. فهم يأتون من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وبعدها تتم عملية إنتقالهم السريّة من خلال شبكات ومنظمات محلية أو عالمية الى داخل الولايات المتحدة عبر الحدود وبكلفة باهظة قد تبلغ 10 آلاف دولار عن الشخص الواحد.
وتقدر الولايات المتحدة اليوم عدد المهاجرين غير الشرعيين فيها بحوالى 12 مليون شخص منهم نحو 6.2 مليون مكسيكي. ولإيقاف هذه الظاهرة أو الحد منها فقد وقّعت حكومتا المكسيك والولايات المتحدة خطة شراكة لحماية الحدود تدعى «الشراكة الذكية».
وكما يحدث على حدود الولايات المتحدة الجنوبية يحدث على حدودها الشمالية مع كندا، إلا أن الظاهرة هناك لم تصل الى حجم كبير يهدد مصالح الولايات المتحدة كما في الجنوب، غير أن الطرفين يتعاونان للحد منها قدر المستطاع.

 

الهجرة الآسيوية
تمتاز الهجرة الآسيوية بكونها تتمّ في قسمها الأكبر ما بين دولها ذاتها، والقليل منها يتم باتجاه الولايات المتحدة (الصين وكوريا)، والقسم الأكبر يتم باتجاه استراليا وخصوصاً من الدول المجاورة التي تعاني الفقر والحروب، أندونيسيا، تايلاند، بنغلادش، الهند، الباكستان، أفغانستان، وأخيراً من العراق، ويشكّل العراقيون اليوم أكبر نسبة من المهاجرين غير الشرعيين الى أستراليا، ويليهم الأفغان ودول الهند الصينية. ولا تزال مشاهد غرق بعض الزوارق التي تقل بعض هؤلاء المهاجرين في وسائل الإعلام تشهد على فظاعة وأخطار هذه العملية والمجازفة بالحياة لعبور المحيط الصاخب والأمواج العتية، بهدف الوصول الى بر الأمان، وتحقيق الحلم بحياة أفضل، حياة قد يدفعها هذا المهاجر ثمناً لتحقيق حلم قد يضيع في لجة مياه المحيط الغاضبة، أو لقمة سائغة لمفترس يطلع من بين الأمواج.

 

الشمال والجنوب
إن الهجرة غير الشرعية، أو السريّة، أو مهما تعددت أسماؤها دليل على وجود خلل ما كبير في تركيبة النظام العالمي، قديماً وحديثاً، وذلك بسبـب تفاوت مستوى الحياة بين «الشمال والجنوب»، بين دول متقدمة ودول متخلفة أو نامية، والمسؤوليـة في ذلك تقع على الدول المتقدمة كونها تمنع الهجرة العادية وتفرض قيوداً وقوانين صـارمة لتحمـي مصالحها واقتصادها، أو أمنها، كما أن الدول «الطاردة» مسؤولة لأن أنظمتها السياسية والسلطات الحاكمة فيها لا تقدّم من المشاريـع وفرص العمـل وتأمين الحد الأدنى للبقاء، ما يدفـع أبناء مجتمعات كثيرة، ورغبة في تحسين أحوال معاشهم وبقائهم، الى ركوب مجازفات خطيرة وغير قانونية لتحقيق حلم يحق لكل إنسان أن يفكر به ويعمل له، وما بين من ينادي بحقوق الإنسان ويتشدّق بحمايته، ومن يدّعي أنه يحكم لتطوير شعبه وتقدّمه وحريته، ستبقى مياه البحر المتوسط، أو المحيط الهندي، أو صحراء أريزونا، أو غابات كندا مقبرة للإنسان الذي يحلم بمستقبل أفضل.

 

المراجع:

1- الهجرة السرية بالدول المغاربية: www.Tunisia SAT.com.
2- وكالات الأنباء العربية - هجرة غير شرعية - أندونيسيا.
3- المعرفة - ملفات خاصة 2005 - ظاهرة الهجرة غير الشرعية - جزيرة نت.
4- مجلة العلوم الإجتماعية - الهجرة السرية بالدول المغاربية - قطران الوطن أم عسل الضفة الأخرى؟
5- المكسيك وتداعيات الهجرة غير الشرعية الى أميركا www.Islamicnews.net.
6- الشرق الأوسط - جريدة أكتوبر 2006 - عدد 10169 (الكونغرس يقرّر بناء جدار على الحدود مع المكسيك لوقف الهجرة غير الشرعية).