أوراق قديمة

الهجوم الإسرائيلي على السفينة الأميركية U.S.S. Liberty الوقائع والأهداف
إعداد: النقيب حسين غدار

قد يبدو أنّ العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي اتّسمَتْ عبر التاريخ بتعاون وثيق واحترام متبادل. لكن الحقيقة هي أنّ تلك العلاقة تُظهِر، في أكثر من محطة تاريخية، الخبث والإجرام الإسرائيليَّيْن في التعامل مع الآخرين، بما فيهم أهم الرعاة والداعمين للكيان الإسرائيلي.
إنّ الغاية من هذه الإضاءة التاريخية هي تأكيد الحقد والكراهية والنوايا الإجرامية كعناصر ثابتة في السياسة الإسرائيلية، بحيث لا يُنتَظَر من كيان كهذا حُسن نية نحو أي من جيرانه، وهو الذي ارتكب مجازر بكل معنى الكلمة في حق أقرب حلفائه.

 

أوّلًا: الوقائع التاريخية
في الثامن من حزيران 1967 خلال حرب الستة أيام التي شنّها العدو الإسرائيلي ضد الدول العربية، وفيما كانت سفينــة البحوث التقـنـية ليبـرتي التابعة للبحرية الأميركية تبحر على بُعد حوالى 30 ميلًا عن السـاحل المصري خارج الميـاه الإقليمية المصرية، تعرّضـت لهجوم إسرائيــلي مباغت ومدمّر، جوًّا وبحرًا، أدّى إلى مقتل 34 عنصرًا وجرح 171 من طاقم السفينة، بالإضافة إلى الأضرار الجسيمة التي سببتْها الطوربيدات. وقد فشـل الهجـوم في إغـراق السفينة كما كان مقدّرًا له.
عقب الهجوم، قدّم الكيان الإسرائيلي اعتذارًا رسميًّا معلِنًا أنّه حصل عن طريق الخطأ بعد اشتباه الجيش الإسرائيلي بأن السفينة مصرية. وفي شهر أيار من العام 1968 سدّدت حكومة العدو الإسرائيلي تعويضًا لضحايا الهجوم قدره 3.32 مليون دولار أميركي (حوالى 30 مليون دولار بحسابات العام 2017) ثم عاد وسدّد مبلغ 6 ملايين دولار في العام 1980 (نحو 17مليون دولار بحسابات العام 2017) تعويضًا عن الأضرار التي لحقت بالسفينة.
وقد أجرى كل من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الإسرائيلي تحقيقًا رسميًا في الهجوم، وأجمع التحقيقان على أنّ الهجوم كان خطأ غير متعمد.
هذا في السرد التاريخي، أمّا الدلائل الموضوعية، بالإضافة إلى إفادات أفراد الطاقم الذين بقوا أحياء بعد الهجوم، فإنها تُؤدي إلى استنتاجات مختلفة تمامًا. لذا فإنّه لا بد من الإجابة عن سؤالَين أساسيَّيْن:
-هل كان الهجوم الإسرائيلي متعمدًا ويخفي مؤامرة إسرائيلية خبيثة أم أنّه كان خطأً غير مقصود؟
-إذا كان الهجوم متعمدًا، ما هي الأهداف التي رُسمت له، وهل تم تحقيقها؟

 

ثانيًا: خطأٌ أم مؤامرة خبيثة؟
نُشير بداية إلى مادّتَين متوافرتَين على الإنترنت، وقد تناولتا حقيقة ما حدث لدى الهجوم الإسرائيلي على ليبرتي:
- وثائقي «موتى في الماء» Dead in the Water من إنتاج قناة BBC.
- كتاب «الهجوم على ليبرتي» Assault on the Liberty من تأليف أحد أفراد الطاقم الناجين من الهجوم، جيمس أنّيس James Ennes.
يجد المطّلع على هاتين المادتين إفادات مفصّلة أدلى بها العديد من الشهود، سواء من طاقم السفينة ليبرتي أو من المعنيين في دوائر القرار، تُظهِر حقيقة النوايا الإسرائيلية التي تكمن خلف الهجوم، وقد أوردْنا مقتطفات من المادّتين في هذا البحث.
 أكّدت التحقيقات أن ثلاث مقاتلات إسرائيلية من نوع Delta Wing كانت تحلّق فوق السفينة ليبرتي صبيحة يوم الهجوم. ويُلاحَظُ في هذه المرحلة أمران:
- كان العلم الأميركي مرفوعًا فوق السفينة ليبرتي بوضوح لا يدع مجالًا للشك في هويتها، لا سيما وأن الرؤية كانت ممتازة وأن الجو كان صافيًا.
- لم تحمل المقاتلات المحلّقة أي علامة تدل على أنها إسرائيلية، ما يعني أن الجيش الإسرائيلي تعمّد طلاء مقاتلاته لإخفاء النجمة المسدّسة التي تظهِر هويتها، وقد ثبت بعد اعتراف الجيش الإسرائيلي أن تلك المقاتلات كانت بالفعل إسرائيلية.
- كانت أجهزة الإرسال في السفينة تتعرض للتشويش Jamming من قبل المقاتلات لمنعها من إرسال نداء استغاثة، ولم يكن ذلك ممكنًا لو لم تعلم المقاتلات أن السفينة أميركية، فقد كان التعاون بين الجيشين الإسرائيلي والأميركي يقضي باطّلاع كل منهما على الموجات والترددات التي يستخدمها الآخر.
بدأ الهجوم في الساعة الرابعة عشرة ظهرًا تقريبًا، حين أمطرت رشاشات المقاتلات السفينةَ بوابل من القذائف الصاروخية والطلقات من عيار 30 ملم مُحدثة أضرارًا بليغة في مختلف أجزائها. وقد أُصيب قبطان السفينة William Mc Gonagle في ذراعه ورجله اليُمْنَيَيْن، وانتهى الهجوم الجوي حاصدًا ثمانية قتلى و75 جريحًا من طاقم السفينة.
بعد ذلك بدأ الهجوم البحري الذي نفّذتْه ثلاثة زوارق حربية إسرائيلية أطلقت خمسة طوربيدات نحو الهدف الأميركي، فأخطأت أربعة منها الهدف فيما أصابه الخامس مخلّفًا 25 قتيلًا وعشرات الجرحى وأضرارًا جسيمة في بدن السفينة. وقد كانت الزوارق الإسرائيلية تطلق رشاشاتها في اتجاه قوارب النجاة وتدمّرها بشكل متعمّد وممنهج.
جدير بالذكر أنّه بعد العملية مباشرة، تمكّن الأسطول الأميركي السادس الذي يبعد مسافة 500 ميل تقريبًا عن السفينة ليبرتي من التقاط إشارة استغاثة، فتمّ تجهيز عدد من الطائرات النفاثة التي انطلقتْ من على متن حاملة الطائرات USS America لتنفّذ هجومًا جويًّا على العاصمة المصرية القاهرة، بعدما ظنّت السلطات الأميركية أن الطائرات التي نفّذت الاعتداء كانت مصرية، إلّا أنّ الهجوم أُلغي قبل وصول الطائرات إلى هدفها بدقائق معدودة.
يبدو أنّ شهادة قبطان السفينة William Mc Gonagle تبيّن الموقف الأميركي الحقيقي من الهجوم، وإنْ كان ذلك الموقف لم يظهر علانية على لسان السلطات الأميركية لاعتبارات سياسية واستراتيجية. فبعد صمت دام ثلاثين عامًا، صرّح القبطان في الذكرى السنوية للهجوم على ليبرتي:
«أردتُ طوال السنوات الماضية أن أصدّق أن الهجوم كان خطأً، لكنه لم يكن كذلك؛ لقد حان الوقت لكي تُبيّن الحكومة الأميركية و«إسرائيل» الوقائع أمام الناجين من طاقم ليبرتي وأمام الشعب الأميركي».
 

ثالثًا: حقيقة الهجوم وأهدافه
بعد أن تأكد تعمُّد العدو الإسرائيلي إخفاء هوية طائراته، ومعرفته بهوية السفينة الأميركية، ونيّته تدميرها بشكل كامل، نأتي إلى الدافع الذي يقف وراء الهجوم.
يشي الهجوم الأميركي على القاهرة والذي تم إلغاؤه في آخر لحظة، بالغاية الإسرائيلية من تلك الجريمة. فمن المرجح أن هدف الهجوم الإسرائيلي الغادر والوحشي، مع تعمّد إخفاء هوية الطائرات والقوارب المهاجمة، كان إظهار دولة مصر على أنّها المنفّذة للهجوم، لاسيما وأنّ السفينة ليبرتي كانت قبالة السواحل المصرية.
وكان من المفيد للكيان الإسرائيلي زجّ الولايات المتحدة في الحرب كحليف قوي ضد العرب في حرب 1967، لكنّ تدارك السلطات الأميركية للمؤامرة، وعدم غرق السفينة، أدّيا إلى فشل الخطة.
في هذا الإطار، تبرز شهادة Richard Helms المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية CIA بين العامَين 1966 و1973، وهو الذي كان يشغل منصب المدير يوم الهجوم، في ظل ولاية الرئيس ليندون جونسون:
«كان الرئيس جونسون يغلي من الغضب، وقد ظن في بادئ الأمر أنّ الجيش المصري نفّذ الهجوم، وكاد يأمر برد مدمّر لولا اكتشافنا أن الإسرائيليين هم الذين هاجمونا (...) لم يشأ الرئيس تخريب علاقتنا بهم».
 

رابعًا: الخلاصة
في الختام يمكننا أن نُجْمِل المؤامرة الإسرائيلية ومآلها في النقاط الآتية:
- بعد أن شنّ العدو الإسرائيلي في الخامس من حزيران 1967 عدوانه ضد سوريا ومصر والأردن، قرر تنفيذ مؤامرة ماكرة وخبيثة لاستدراج الولايات المتحدة إلى الحرب كحليف قوي في وجه العرب، ووقع اختياره على السفينة الأميركية ليبرتي ليذهب طاقمها ضحية إجرام الإسرائيليين وانعدام الأخلاق لديهم.
- تم تنفيذ هجوم مدمّر على السفينة الأميركية يوم الثامن من حزيران 1967، وقد حرص الإسرائيليون على إخفاء هوية طائراتهم والتشويش على الموجات الراديويـة للسفينـة الأميركية؛ وبنتيجة الهجوم سقط 34 قتيلًا و171 جريحًا، إلّا أنّ الهجوم فشل في إغراق السفينة.
- لدى وقوع الهجوم، ظنّ الأميركيون أن الجيش المصري هو المعتدي، فشرعوا في رد عسكري ما لبث أن أُلغي في اللحظة الأخيرة.
- بعد فشل المخطط، استغلّ العدو الإسرائيلي الرغبة الأميركية في التهدئة وعدم نسف العلاقات الأميركية الإسرائيلية لاعتبارات مختلفة، فأجرى تحقيقًا خلص إلى وقوع خطأ غير مقصود، وكذلك فعل الأميركيون.
لقد قُدّمت تفسيرات أخرى مختلفة كأسباب محتملة وراء الهجوم، منها رَفْضُ الإسرائيليين لوجود سفينة تجسس أميركية تلتقط اتصالاتهم خلال عدوانهم العسكري ضدّ الدول العربية؛ وبالتالي يمكن أن تكون للهجوم أسباب متعدّدة. لكن مهما يكن، يبقى هذا الهجوم شاهدًا على الإجرام الإسرائيلي، وعلى منهجية عمل الكيان الصهيوني الذي يستبعد من أساليبه كل رادع أخلاقي، ويحترف المكر والخديعة والإرهاب.
 

المراجع:
 - William D. Gerhard and Henry W. Millington; Attack on a SIGINT Collector the USS Liberty; Declassified NSA report; April 2011.
- USS Liberty: Dead In The Water (BBC Documentary 2002).
- www.youtube.com
- http://www.lander.odessa.ua/doc/Ennes_James_M_Jr_-_Assault_on_the_Liberty.
- James Scott; The Attack on Liberty; Simon & Schuster; New York 2009.
- مقابلة في وثائقي Dead in the Water مع James Ennes، ومع الرقيب المتقاعد Joe Lentini الذي عمل على رأس فريق الإشارة في السفينة ليبرتي.
- كلمة القبطان في الذكرى الثلاثين للهجوم منقولة في الوثائقي Dead In The Water.