العوافي يا وطن

الواجب ونقطة على السطر
إعداد: الهام نصر تابت

قد يأتي يوم يُقال فيه كل شيء، لكن إلى أن يأتي ذلك اليوم، الوقت للعمل. أصلًا هل من متسع للكلام بعد؟ وأي كلام!؟
صَمْت المؤسسة العسكرية ليس سمة زمنها الراهن فحسب، إنّه الرحم الذي تكونت فيه مناقبيتها لتخرج إلى ساحات التضحية متوَّجةً بالتزامها الواجب المقدس. تاج من شوك تحتمله بصلابة ما مثلها صلابة، وبصبر ما مثله صبر.
يُقسِم العسكري أن يذود عن علم بلاده. يفي بقسَمه، يزرع دمه على كل تلة وفي كل وادٍ وناحية حيث يطلّ خطر. يمضي إلى واجبه وهو مدرك أنّه ربما لن يعود. يُغادر بيته وفي عينيه صور قد لا يُتاح له رؤيتها مرة أخرى. يفعل ذلك كل يوم. تتغير في حياته ومن حوله أمور كثيرة، ويظل هو هو، محافظًا على قسمه، معتمرًا شرفه العسكري أيًا كانت الأثمان.
المؤسف بل المؤلم، أن يضطر الجيش على مدى عقود إلى الانتشار في الشوارع والأزقّة ليحفظ الأمن ويحمي السلم الأهلي والاستقرار. الأمن والسلم الأهلي والاستقرار، ليست بالأمور التي تولد من فوهات البنادق. إنّها نتيجة انتظام عمل المؤسسات في الدولة، ونتيجة الجهود التي تبذلها هذه الدولة والسياسات التي تنتهجها لتوفر الازدهار الاقتصادي والتنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية. من دون هذه المقومات لا يستقر مجتمع، ولا يستتب أمن... لكن أين نحن مما يجب أن يكون؟ خلافات سياسية، مصالح متناقضة، وسياسات مهترئة، تُطيح بمقدرات الوطن وتضعه على قارعة الفتن والأخطار.
كم من الفتن منع الجيش بعرقه والدم؟ كم من المرات واجه بصبره وعمق تقديره للأوضاع أرباب المصالح المتصارعة هنا وهناك؟ كم من المرات كانت سواعد العسكريين البديل الوحيد لمؤسسات لم تنهض بمسؤولياتها؟ الشواهد القريبة والبعيدة كثيرة، ولا حاجة للتذكير.
مؤسف بل مؤلم، أن يضطر الجيش إلى الوقوف في وجه مواطنين استوطن الفقر والقهر بيوتهم، وأن يُصَوّب عليه ممن خذلوا مواطنيهم، ولم يقوموا بأقل ما يقع على عاتقهم من مسؤوليات وواجبات.
هؤلاء كُثُر، وقد تصارعوا سابقًا في ساحة طرابلس وساحات أخرى، وكان على الجيش في كل مرة أن يلملم آثار الصراعات، ويعالج الموقف مستندًا إلى ما لديه من رصيد لدى شعبه، ومعتمدًا أقصى درجات اليقظة والرويّة. لكن إلى متى تستمر الأمور على هذا النحو، ونحن في ما نحن عليه من أزمات؟
في طرابلس الكثير من الوجع والقهر والغضب، وكل ذلك كفيل بإشعال بركان لا مجرد نيران. لكنّ نيران الوجع والغضب مهما اشتد وهجها لن تحجب نيران المصالح المتضاربة والحسابات العقيمة لمن يُفترض أنّهم أولى بالتخفيف من معاناة طرابلس وانتشالها من البؤس.
ثمة موقوفون وتحقيقات... وقد يأتي يوم يُقال فيه كل شيء، لكنّ الوقت الآن للعمل، وثمة عمل كثير. وإلى أن يأتي وقت القول سيواصل الجيش سهره على الوطن. سيواصل ضرب الخلايا الإرهابية كما فعل في عرسال بينما كانت المحاولات البائسة تحاول جرّه إلى مواجهة أهله في طرابلس.
سيواصل حماية حق شعبه في التعبير بحرية عن رأيه وغضبه، لكنّه سيمنع التعديات وأعمال الشغب التي تتسلل من خلالها الفتن. وسيكون تدخّله محترفًا، وواعيًا، وحريصًا على المصلحة الوطنية، وهذا ما أثبته مرات عديدة خصوصًا في السنوات الأخيرة.
لن يتردّد جيشنا في إنجاز أي مهمة من شأنها التخفيف من معاناة المواطنين، من طرابلس إلى عرسال، ومن بيروت إلى الحدود. وسيستمر في تعزيز قدراته وكفاءة عسكرييه، من دون الالتفات إلى ما يُطبخ في غرف سوداء، رغم أنّها مكشوفة أمامه.
وستستمر قيادته في حمايته من التدخل في شؤونه أيًا كان مصدرها، ليظل جيش لبنان، حصن لبنان، ومصدر الثقة في زمن عزت فيه الثقة وتدنت إلى أدنى من الحضيض.
جيشنا، «جيش يقوم بمهمات غير مسبوقة» وفق ما يقول رئيس هيئة أركان الجيوش الفرنسية، ويعبّر عنه الكثير من القادة في العالم. جيش يواجه التقشف وقلة الإمكانات معتمدًا على عزيمة رجاله وإيمانهم بوطنهم.
جيش نفتخر به: جيش يقوم بواجبه ونقطة على السطر.
العوافي يا جيشنا.
العوافي يا وطن.