محاضرة استراتيجية

الوزير السابق ميشال اده محاضراً في دمشق

التضامن العربي يجب أن يكون القاعدة التي تكم وتوجه سياسة الأقطار العربية بإجماع.

حرب تشرين المجيدة هي الثمرة الناضجة لما أسسته الحركة التصحيحية من رؤية ونهج.

إسرائيل حاولت من خلال اتفاق 17 أيار فرض حل منفرد على لبنان يخرجه من انتمائه العربي.

ما كان لمؤتمر مدريد أن ينعقد لولا موافقة سوريا على المشاركة فيه وقلب المعادلة.

"إعلان مبادئ أوسلو" شكّل في الواقع بداية مرحلة بالغة الصعوبة على المستوى العربي.

نحن نعترض اليوم لأخطر وأدق فترات صراعنا مع العدو الصهيوني على الإطلاق.

صحة النهج الذي أرساه القائد التاريخي حافظ الأسد تتأكد اليوم أكثر من أي يوم آخر.

الصمود العربي في وجه إسرائيل يلعب دوراً حاسماً في فرض السلام العادل والشامل.

 

بدعوة من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة في الجمهورية العربية السورية, وفي الرابع من أيلول 2002, ألقى الوزير السابق ميشال أده محاضرة في صالة 8 آذار في دمشق تحت عنوان “الصمود العربي ودوره الحاسم في فرض السلام العادل والشامل”, حضرها مدير الإدارة السياسية في الجيش العربي السوري, ومدير التوجيه في الجيش اللبناني, وحشد من الضباط السوريين واللبنانيين.

 

استهل الوزير إده محاضرته بالإشارة الى أن الأساس الذي بنت عليه سوريا صمودها ووطّدته قاعدة صلبة وصخرة صمّاء للصمود العربي, هو النهج الوطني والقومي الذي أرساه الرئيس الراحل حافظ الأسد, بجوهره القائم على الوعي الحاسم بأن أي بلد عربي سوف يظلّ مهدداً بإستقلاله وسيادته وإقتصاده وثرواته وتطوّره وكرامته, ما دامت إسرائيل لا يُفرض عليها الإنكفاء والتراجع, والتخلي عن المشروع الصهيوني, أي عن طابعها العنصري التوسعي العدواني الإرهابي.
وفي هذا الإطار, استشهد الوزير إده بحرب تشرين المجيدة التي جاءت بحق, الثمرة الناضجة الأولى لما أسسته الحركة التصحيحية من رؤية ونهج, إذ أنها حملت الصهاينة الى التيّقن من استحالة الحلول العسكرية التي اعتمدوها من أجل أن ينتزعوا إعتراف العرب بكيان إسرائيل الصهيوني وإقرارهم بالتسليم بتسيّدها على المنطقة والإستسلام أمامها.
كذلك, أشار الوزير إده الى سقوط إسرائيل في لبنان وبالتالي سقوط إتفاق 17 أيار الذي حاولت فرضه حلاً منفرداً إستسلامياً على لبنان يخرجه من إنتمائه العربي الأصيل بتفكيكه معازل طائفية ومذهبية. كما أكد أن إسرائيل سقطت أيضاً هي ومحاولاتها فرض مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين على لبنان, والذي خططت له إجهازاً في آن معاً على الشعب الفلسطيني وقضيته, وعلى لبنان.


ونبّه الوزير إده الى كون دور سوريا حاجة موضوعية وموقعاً مقرراً, على المستوى الدولي, يستحيل من دونه معالجة وحل مسائل الصراع العربي الإسرائيلي بإحلال السلام الدائم المنشود.
وبعد أن تناول الوزير إده حقيقة الموقف الأميركي من سوريا في قضية محاربة الإرهاب, وكذلك المواقف الأوروبية منها, تطرق الى التغيّرات الحاصلة بعد أحداث 11 أيلول 2001 التي حاول الصهاينة استغلالها من أجل نقل المعركة الى خارج الكيان الصهيوني, بعدما ثبت عجزه عن الإنتصار فيها بفعل إستمرار الشعب الفلسطيني في إنتفاضته الشريفة.
وخلص الوزير إده في ختام محاضرته الى اعتبار صمود سوريا ولبنان وانتفاضة فلسطين هو ما يعبّد الطريق للسلام العادل والشامل, وينقذ كل بلدان العرب من مخاطر الهيمنة الصهيونية, ومن التبعية لإسرائيل وأعبائها الحقيقية المدمرة الساحقة للجميع.
وفي ما يأتي, النص الكامل لمحاضرة الوزير ميشال إده.


القضايا القومية المصيرية

أيها الأصدقاء
إنه ليشرفني أن أتحادث معكم وأتحاور, في موضوع الصمود العربي, هنا في دمشق الأسد, عاصمة هذا الصمود وقلبه النابض. دمشق التي لم تشأ أبداً هذا الموقع إستئثاراً, وهي التي كم سعت وتسعى, وكم تحمّلت وتتحمّل, وكم عضت على الجراح وما تزال, كي لا يكون هذا الصمود استثناء يقتصر الإلتزام به على بلد عربي واحد, وكي لا يظل التضامن العربي هبّة كلام عابرة, بل القاعدة التي تحكم وتوجّه سياسة الأقطار العربية بإجماع.
أما الأساس الذي بنت عليه سوريا صمودها ووطدته قاعدة صلبة وصخرة صمّاء للصمود العربي, فهو النهج الوطني والقومي الذي أرساه الرئيس الراحل حافظ الأسد, بجوهره القائم على الوعي الحاسم بأنّ أي بلد عربي سوف يظلّ مهدداً باستقلاله وسيادته وإقتصاده وثرواته وتطوره وكرامته, ما دامت إسرائيل لا يفرض عليها الإنكفاء والتراجع, والتخلّي عن المشروع الصهيوني, أي عن طابعها العنصري التوسعي العدواني الإرهابي.
هذا الإقتناع القاطع بإعتبار عدم إكتراث سوريا بالقضايا القومية المصيرية بمثابة تخل وطني في الوقت نفسه عن سوريا ذاتها, ظلّ جوهر السياسة الستراتيجية التي على أساسها حفظ الرئيس الأسد سوريا, ووفّر لها الصمود, وإنتزع لها المبادرة. فسوريا ليست ولا تكون سوريّة إلا بمقدار ما تكون عربية. ومن هذه الزاوية بالذات, انتبهت سوريا الى كون القضية الفلسطينية منذ تكوّنها, وفي مسار تطوّرها, وعلى أساس إستهدافات المشروع الصهيوني الجذرية تحديداً, إنما تبرز خصوصيتها على حقيقتها الجوهرية بكونها عربية بامتياز.
ولكم ألحق من ضرر قتّال بالصمود العربي وبالقضايا المصيرية العربية, تجاهل هذه الحقيقة وعدم أخذها بالإعتبار الستراتيجي على المستوى الوطني لكل قطر عربي.
ولقد تمثل هذا التجاهل أساساً في نموذجين, مختلفين من حيث المظهر, ومؤتلفين واحدين من حيث المضمون:
الموقف المتعاطي مع المشروع الصهيوني بكونه مسألة محدودة الفعل والإستهدافات والتداعيات بفلسطين وحسب, وبالشعب الفلسطيني حصراً. فاتّسمت علاقات أصحاب هذا الموقف بالقضية الفلسطينية بمجرد التعاطف “البرّاني” فقط, كما لو أنها قضية محض خارجية لا تمسّ في الجوهر أي بلد عربي آخر. وربما وصل الأمر بأصحاب هذا الموقف ­ وقد ظهر ذلك فعلاً ­ الى حد التنصّل من هذه القضية, بل الى حد إعتبارها عبئاً يجب إطّراحه ورميه ونفض اليد منه, مع بالغ الأسف بالطبع.
أما الموقف الآخر فهو الذي تعاطى مع القضية الفلسطينية من موقع ما سمّي بـ”إستقلالية القرار الفلسطيني”, حسبما ذهب إليه السيد ياسر عرفات آنذاك, بذريعة إحترام خصوصية القضية الفلسطينية. وهو ما عكس تنكّراً فعلياً لذلك الترابط الموضوعي, وألحق الوهن بالصمود العربي وبالقضية الفلسطينية في آن. بل قد وصل الأمر أحياناً بأصحاب هذا الموقف, في فترات من مجرى الصراع, الى عدم الإكتفاء بفكّ الترابط العضوي بين الشعب الفلسطيني وقضيته وبين القوى والأقطار العربية الصامدة في وجه العدو الصهيوني. بل انتهى بهم هذا الأمر, في أحيان بالغة الخطورة, الى حدّ عزل الشعب الفلسطيني, وإضعاف مقاومته, والمساومة الإستسلامية على حقوقه المشروعة وعلى حياة ونضال أبنائه وأبطاله المقاومين.

 

المواجهة السورية الإسرائيلية

لكنّه على الرغم من كل ما اعترى وما يزال يعتري الأوضاع العربية من ثغرات وسياسات حدّت فعلاً من مفاعيل الصمود العربي, وشلّت الكثير مما يختزنه من طاقات, فلقد ترسّخ هذا الصمود الذي جسّده أساساً الدور السوري, والذي اختُزلَ, بالواقع, في المواجهة السورية الإسرائيلية, والذي تمكّن حتى الآن, من أن يعطّل على المشروع الصهيوني تحقيق كامل أهدافه في فرض السيطرة المطلقة على بلداننا العربية قاطبة وتحويلها الى بلدان تابعة, والى مجرّد ضواح ملحقة بالكيان الصهيوني, العاصمة ­ المركز, تتسوّل منه كسرة الخبز وقطرة الماء.
إن المقاربة التي تتوخى الموضوعية بصدد هذا الصمود العربي, تستلزم التوقف عند ما اتسمت به هذه المواجهة, في سياق الصراع العربي الإسرائيلي, من مراحل مد وجزر, شهدتهما وضعية كل من إسرائيل وسوريا, من حيث امتلاك زمام المبادرة والفعل, أو الإنكفاء الى ردود الفعل والمراوحة والتراجع.
فعلى امتداد خمس وعشرين سنة تلت الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني, كانت إسرائيل تتحكم بالمبادرة في الصراع الذي عكست مجرياته رجحاناً شبه كاسح لها. وهذا من خلال تكديسها الإنتصارات العسكرية في الحروب التي شنتها عام 1948 و1956 و1967, مستندة في تحقيق ذلك الى جبروت تسلحها وترسانتها العسكرية, مقابل حرمان العرب من التسلّح ومنعه من التمكّن من امتلاك القدرات العسكرية الضرورية بحدودها الدنيا.
لكنّ هذا المشهد اخذ بالتبدّل فعلاً من الحركة التصحيحية التي بادر إليها وقادها الرئيس حافظ الأسد في سوريا عام 1970, والتي على أساسها بدأ زمام المبادرة ينتقل الى سوريا والصالح العربي العام. والبرهان على ذلك كله كان حرب تشرين المجيدة التي جاءت بحق, الثمرة الناضجة الأولى لما أسسته الحركة التصحيحية من رؤية ومن نهج.
إن مبادرة سوريا مع مصر, الى شن حرب تشرين التي فاجأت إسرائيل وهزّت عميقاً ركونها المتغطرس لانتصاراتها العسكرية المتراكمة, شكّلت نقطة التحوّل الأولى في الصمود العربي ضد المشروع الصهيوني. فألحقت هذه الحرب بالجيش الإسرائيلي أول هزيمة عسكرية في تاريخه. وكاد هذا الجيش أن ينهار لولا تدخل الدول الكبرى, والولايات المتحدة الأميركية بخاصة, فتم إنقاذ الكيان الصهيوني من الهزيمة المحققة, بعدما هرع الجميع الى تجنيبه كأسها القتّال, وهم الذين تبيّنوا بالملموس عجز هذا الكيان عن تحمّل هزيمة حقيقية واحدة من دون أن يتعرّض للإنهيار, بحكم طبيعته المصطنعة بالذات. وهكذا منع على العرب تكريس الإنتصار على إسرائيل في حرب نظامية. غير أن هذا الصمود الذي انتزع المبادرة للعرب, شكّل آنذاك العمود الفقري لولادة واستواء تضامن عربي حقيقي شامل حاسم التأثير والفعل, الى جانب سوريا ومصر آنذاك, بما أثبت فعلاً أن الصمود هو مخاض التضامن, وقابلته, وحاضنته في آن. ولقد تمثّل هذا التضامن أساساً بموقف المملكة العربية السعودية بقيادة المغفور له الملك فيصل الراحل, والذي بادر الى استخدام سلاح النفط في المعركة, ودَفْعِ الأشقاء العرب الآخرين الى الحذو حذو هذا الموقف الرائد.

 

حرب تشرين المجيدة

حرب تشرين 1973 نقلت المبادرة الى العرب, ونقلت إسرائيل التي تلمّست حقائق هزيمتها العسكرية, الى مرحلة من الجزر, حملت الصهاينة الذين تفاجأوا بظاهرة الصمود العربي المستقطب كل ذلك التضامن العربي, الى التيقّن من استحالة الحلول العسكرية التي اعتمدوها من أجل أن ينتزعوا إعتراف العرب بكيانها الصهيوني وإقرارهم بالتسليم بتسيّدها على المنطقة والإستسلام أمامها.
فعدّلت إسرائيل من خطّتها لتبنيها على أساس اللجوء الى فرض حل سياسي يحقق إختراقها للوطن العربي وإسقاطه من الداخل بتفكيك وشرذمة العرب وضرب التضامن العربي. وكان عماد هذه الخطة المعدلة الجديدة فرض الحلول المستفردة بكل بلد عربي على حدة, من خلال إبرام إتفاقات سلام منفردة من قبل كل منها مع الكيان الصهيوني.
وعلى هذا الأساس, تمكنت إسرائيل من إستعادة المبادرة المفقودة, وخرجت من موقع الجزر الذي وضعتها فيه حرب تشرين الى مرحلة جديدة من المدّ, بعدما تمكّنت من تحييد مصر وإخراجها رسمياً من دائرة الصراع, على يد الرئيس أنور السادات الذي كان الفريسة الأولى للخطة الإسرائيلية والسقوط في شراكها, عند توقيعه أول إتفاق سلام منفرد مع إسرائيل. ولقد شكّلت هذه الخطوة الحلقة الأولى التي بدأت بها سياسة ضرب التضامن العربي, وفرض الحلول الإستسلامية, ومحاصرة الصمود العربي, تمهيداً للإجهاز عليه بصورة متصاعدة ونهائية.
وبإزاء ذلك, بادرت سوريا الى إقامة وتعزيز علاقات تحالف ستراتيجية راسخة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية, بالرد على تحييد مصر من جهة, بمتابعة تعزيز التوازن الستراتيجي مع العدو الصهيوني.

 

سقوط إسرائيل في لبنان

بعدما باءت بالفشل كل أشكال الضغوط الصهيونية على سوريا, ترغيباً وترهيباً, لحملها على أن تسلك بدورها طريق الحلول المنفردة, التفتت إسرائيل الى تركيز استهدافاتها على سوريا, والنيل منها في لبنان بخاصة. ولم يكن الهدف الأساس من الحرب التي أشعلتها إسرائيل في ربوعه عام 1975, أي بعد سنة ونصف لا أكثر من حرب تشرين, ثم عاودت إشعالها بإجتياح آذار 1978, سوى تحطيم نهج الصمود العربي جذرياً بإسقاط سوريا, وفي لبنان تحديداً, وكانت ذروة التعبير المؤشّر على هذه الإندفاعة الإسرائيلية في طور المد وإستعادة المبادرة, إجتياح لبنان عام 1982.
لكن من سقط في لبنان إسرائيل وليس سوريا. سقطت هي واتفاق 17 أيار الذي حاولت فرضه حلاً منفرداً إستسلامياً على لبنان يخرجه من إنتمائه العربي الأصيل بتفكيكه معازل طائفية ومذهبية. وسقطت هي ومحاولاتها فرض مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين على لبنان, والذي خطّطت له إجهازاً في آن معاً على الشعب الفلسطيني وقضيته, وعلى لبنان.
وبكلام آخر, وبدل أن يتوّج إجتياح إسرائيل السياسة الإسرائيلية بفرض الإستسلام على لبنان بعد تقويضه وتفتيته, وإخضاع سوريا, صمد لبنان. صمد حتى النهاية, وخلافاً لكل التوقعات ولكل المتوقعين إنهياره وسوريا. وذلك على قاعدة رسوخ سوريا في صمودها, وبفضل دعمها المطلق اللامتناهي للمقاومة الوطنية والإسلامية التي اندلعت منذ أيلول 1982 ضد الجيش الإسرائيلي المحتل, في حرب غير تقليدية, غير نظامية, هي حرب العصابات.
هنا تحديداً, انتزعت سوريا مجدداً المبادرة الفعّالة الحاسمة, عندما رأى الرئيس الراحل حافظ الأسد الى المقاومة في لبنان, والى وجوب دعمها بصورة مطلقة, قضية إستراتيجية بالغة الأهمية في مواجهة المدّ الإسرائيلي الهجومي المتجدد, وفي مواجهة تمدد المشروع الصهيوني نفسه, ومن أجل تعزيز الصمود العربي بالذات وإستعادة أسس ومناخات التضامن العربي على قاعدته. وهذا خصوصاً بعدما تبيّن لهذا القائد التاريخي, أن الإنتصار العربي على إسرائيل في حرب تقليدية أمر ممنوع عليهم, بعدما حُرموا من تكريسه في حرب تشرين.
إن قرار الرئيس الأسد في أن تشكّل سوريا, وفي أن تظل سوريا, قاعدة الإنطلاق للمقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان, هو الذي أمّن إنتقال الصمود العربي مجدداً الى الإمساك بالمبادرة التي دفعت بإسرائيل الى أكثر من التراجع والإنكفاء, الى مرحلة الجزر وردود الفعل العشوائية. إذ كان ذلك القرار بحق قراراً تاريخي الأبعاد بدليل نتائجه التاريخية الأبعاد والتداعيات التي عصفت وما تزال بالكيان الصهيوني من أساساته, لتدخله في سيرورة من التأزم الجوهري, انكشف مضمونه أمام الإسرائيليين أنفسهم بكونه أزمة مصير وجودية الطابع.
ولولا ذلك الدعم المطلق للمقاومة والذي نهضت إليه سوريا بكل شرف, وبالكثير الكثير من فعالية العطاء والبذل, وبحس من المسؤولية الوطنية والقومية, لما تمكّنت هذه المقاومة الباسلة من إحراز الإنتصارات المتتالية على العدو الصهيوني, ولا من دحر جيشه المحتل وإرغامه في مرحلة أولى على الإنكفاء تباعاً من بيروت والضاحية وقسم من الجبل في أيلول 1983. ومن ثم من باقي الجبل وشرق صيدا في آذار 1985 الى المنطقة الحدودية المحتلة منذ آذار 1978, لتنجز المقاومة الإسلامية, في مرحلة أخيرة دحر الجيش الإسرائيلي وتحرير لبنان من رجس إحتلاله من دون قيد أو شرط ولا ترتيبات أمنية ولا مفاوضات, في 25 أيار 2000. ولقد مكّنت العناية الإلهية هذا القائد الكبير من أن يرى بأم عينيه ثمرة إنجازه التاريخي الكبير, قبيل أن ينتقل الى جنان الخلد بأيام معدودة.
غير أن النتائج المترتبة على هذه المقاومة لم تقتصر حدود مفاعيلها على لبنان.
فهي قد أسهمت, في مرحلة أولى, بانتعاش كفاحية الشعب الفلسطيني في انتفاضة الحجارة الأولى التي انطلقت عام 1987, أي عقب دحر الجيش الإسرائيلي من شرق صيدا عام 1985. مثلما كان لدحر جيش الإحتلال في 25 أيار من العام 2000 أثره الحاسم في إندلاع إنتفاضة الأقصى المباركة في 28 أيلول 2000 في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي عقر الكيان الصهيوني بالذات.

 

الأرض مقابل السلام

بموازاة ذلك, أدرك الرئيس الأسد الأهمية الحيوية القصوى لخوض معركة الصمود والتحرير والمقاومة إياها على جبهة السياسة والعلاقات الدولية أيضاً, والتي طالما احتكرتها الصهيونية ووجدت فيها مرتعها الخصب لكسب التعاطف الدولي معها, وحمل عواصم القرار وغيرها في العالم على الإنحياز إليها والى مواقفها وطروحاتها.
ولقد تجلى هذا البعد الستراتيجي بإقدام الرئيس الأسد على قلبه, رأساً على عقب, المعادلة التي كانت سائدة لصالح إسرائيل في المنطقة. وذلك من خلال قراره التاريخي بالمشاركة بمؤتمر مدريد عام 1991 على أساس القبول بالقرار 242 ومبدأ الأرض مقابل السلام, بعد انتزاعه ضمانات أميركية ودولية بذلك. وأثبت الرئيس الأسد آنذاك أن العرب هم الذين يملكون مشروع سلام فعلي, هو السلام العادل والشامل, وليس إسرائيل التي لا تملك غير مشروع دوّامة من الحروب لا نهاية لها.
إنه ما كان لمؤتمر مدريد أن ينعقد أصلاً, لولا موافقة سوريا على المشاركة فيه. وكلّنا يتذكّر, في هذا الصدد, الرحلات المكوكية التي قام بها الى دمشق وزير الخارجية الأميركية جيمس بيكر آنذاك, على امتداد خمسة أشهر (من 2 آب 1990 حتى كانون الثاني 1991) قبل الحصول على موافقة سوريا.
وعليه, فلقد كان مجرد انعقاد هذا المؤتمر بذاته انتصاراً حقيقياً لسوريا. وهل من دليل أبلغ على ذلك من غضب رئيس الحكومة الإسرائيلي آنذاك يتسحاق شامير, ونقمة إسرائيل, وضيقها الصريح, ورفضها الضمني الأشد, لعقد هذا المؤتمر وفق المضامين التي حددتها سوريا, والتي من شأنها أن تفضح تمسّك إسرائيل بالطابع العدواني التوسعي العنصري الإرهابي ورفضها العضوي لأي مشروع سلام حقيقي دائم في المنطقة؟ غير أن المسألة المركزية التي يجدر حقاً الإنتباه إليها في الصدد الذي نحن فيه, أي تعقّب إسرائيل ومحاصرتها في الساحة الدولية كذلك, فتكمن فعلاً في الإنتباه الموضوعي الى كون دور سوريا والى كون صمودها بالذات, قد بات حاجة موضوعية وموقعاً مقرراً, على المستوى الدولي, يستحيل من دونه معالجة وحل مسائل الصراع العربي الإسرائيلي بإحلال بالسلام الدائم المنشود. وأذكّر هنا بالمقولة الشهيرة: لا حرب بدون مصر ولكن لا سلام من دون سوريا, والتي أدرك الجميع صحتها آنذاك.

 

الالتفاف على مؤتمر مدريد

أمام هذا الاختراق السوري المتقدّم, فقدت إسرائيل زمام المبادرة السياسية أيضاً. وتراجعت مرة أخرى من مرحلة المدّ التي عرفتها من قبل, الى المراوحة في مرحلة من الجزر. فانكفأت الى الإلتفاف على مؤتمر مدريد والتنصّل منه ومن موجباته. وسعت بشكل منهجي الى دفنه ومبادئه التي على أساسها وافقت سوريا على المشاركة فيه.
وكانت الترجمة الملموسة لهذا الموقف الإسرائيلي “إعلان مبادئ أوسلو” الذي نجحت إسرائيل في استدراج ياسر عرفات الى الوقوع في شراكه. واستخدمت قبوله بهذا الإعلان لخلق وتعميم الإنطباع والإقتناع العام لدى الرأي العام العالمي, ولدى الأوساط اليهودية في العالم, ولدى بعض الأوساط العربية أيضاً, بأنه تمّ التوصّل أخيراً الى حل للقضية الفلسطينية. وهذا بدليل توقيع أصحاب القضية أنفسهم على هذا الحلّ الذي بشّرت الدوائر الصهيونية وإسرائيل على أساسه بانتهاء تالٍ وشيك للصراع العربي الإسرائيلي برمته, من غير حاجة الى مؤتمر مدريد أو سواه من مؤتمرات أو مبادرات مماثلة, ولا سواها من إتفاقيات. على أساس هذا “الإعلان”, تمكنت إسرائيل فعلاً من إستعادة المبادرة مجدداً, ومن العودة ­ ولو الى حين ­ الى فترة من المدّ بعد فترة الجزر الذي كانت تراوح فيه.
ذلك أن “إعلان مبادئ أوسلو” شكّل في الواقع, بداية مرحلة بالغة الصعوبة على المستوى العربي بخاصة. وهذا ليس فقط لأنه مكّن إسرائيل من قصم ظهر إنتفاضة أطفال الحجارة الأولى التي كانت اندلعت عام 1987, بل لأنه مكّنها أيضاً من تحقيق إختراقات خطيرة الأبعاد والدلالات للأوضاع العربية ومن داخلها, نالت من المناعة العربية في الصميم, وألحقت وهناً أكيداً بالصمود العربي. وهذا كله من البوابة الفلسطينية بالذات, إذ استدرج الأردن للتوقيع على إتفاق سلام منفرد في وادي عربة مع إسرائيل عام 1994. كما شهد الوضع العربي تلك الهرولة من قبل بعض الأشقاء العرب المضللين الى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. وذلك قبل السلام, ومن دون السلام, وبديلاً من السلام, وفيما كانت إسرائيل تتابع تنكيلها بالشعب الفلسطيني, مستمرة بإحتلالها للأراضي العربية, رافضة أي إنسحاب منها, ممعنة في تهويد القدس, وفي بناء المزيد من المستعمرات, وفي تصعيد عدوانيتها وجرائمها العنصرية الإرهابية. وهكذا, فإن واحداً من أخطر المفاعيل المترتبة على هذا الإختراق الصهيوني يتمثل بتعطيل وشل أبسط مظاهر وتعبيرات العمل العربي الموحد أو المشترك.

 

صمود سوريا ولبنان

في هذه الحال من التدهور العربي, اختزلت سوريا هي وحدها الصمود العربي, ومعها لبنان. فتحملت هذه المسؤولية القومية التاريخية بكل شرف وإباء, وبغالي التضحيات. وتابعت الصمود. وتابعت التصدي للمشروع الصهيوني حتى فيما هو ينقل معركته الى الدول الكبرى في العالم, وداخل الولايات المتحدة بخاصة.
وإذا كان جوهر نهج الصمود السعي الدؤوب الدائم الى تعطيل هذا المشروع, وشلّ مصادر قوته ونقاط استناده, فإن حضور هذا النهج في كل ساحة يتواجد ويفعل فيها اللوبي الصهيوني, ولا سيما في الولايات المتحدة, يغدو أمراً فائق الحيوية لمواجهة النفوذ الصهيوني وضغوطاته البالغة القدرة والتنوّع والتعقيد على الإدارة الأميركية.
وليس يصح, على ما أرى, أن نستغرق في تركيز اللوم على الولايات المتحدة وحدها, وبصورة تكاد أن تفضح نية التمويه على قصورنا العربي بالذات, وعلى هروبنا من مساءلة أنفسنا وأوضاعنا, ومواقف العديد من أشقائنا الذين غفلوا أو تغافلوا بإستمرارهم في التطبيع, عن استخدام إسرائيل تطبيعهم معها من أجل محاصرة الصمود العربي وإسقاطه بمحاصرة سوريا وتكرار محاولات عزلها عربياً ودولياً, لتسهيل أمر الإنقضاض الصهيوني عليها.
إن إسرائيل لم تضق ذرعاً بصمود سوريا وحسب, بل باتت تضيق ذرعاً كذلك, وتغلي غيظاً, بإزاء ذلك التفهم الأميركي لدور سوريا وصمودها, في العديد من الحالات والظروف البالغة الدقة والتأثير, في مجرى الصراع العربي الإسرائيلي. وهذا رغم كل الأبواق الصهيونية أو المتصهينة في الولايات المتحدة, والتي لا تنفك يومياً, منذ عقود وحتى يومنا هذا, عن إطلاق وشنّ أعنف الحملات على سوريا, متقصدة تصوير حملاتها هذه وكأنها مواقف رسمية أميركية. في حين أن عدداً من أبرز المسؤولين في الإدارة الأميركية يجدون أنفسهم, بإزاء هذا التحامل الصهيوني, مضطرين من حين الى آخر للتذكير بمواقف سوريا المناهضة للإرهاب.
فإسرائيل تدرك جيداً أن الولايات المتحدة الأميركية تعلم حق العلم أن سوريا هي التي دعمت وتدعم المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان, وهي التي وفّرت لهذه المقاومة قاعدة الإنطلاق الأساس. وهذا, ناهيك عن علمها كذلك بكون سوريا تحتضن ­ ومنذ عقود ­ منظمات المقاومة الفلسطينية التي تخوض حرب تحررها الوطني. ومع ذلك, لم تقدم, لا في حينه ولا في ما بعد, هذه الدولة الأميركية, صديقة إسرائيل بإمتياز, على الأخذ بتحريضات الصهاينة لضرب سوريا, ولا حتى بصورة محدودة, ولا حتى بالمعنى السياسي القاطع.

 

حقيقة الموقف الأميركي

إنه ليجدر هنا بكل من تخونه ذاكرته أن يتذكر أن الولايات المتحدة هي التي لم تكتف فقط بالموافقة على شرعنة المقاومة التي كان يقودها حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية المحتلة, وذلك وفق “تفاهم نيسان” عام 1996. بل تعدت ذلك الى إبداء موافقتها, وحسبما نصّ هذا “التفاهم” على دخول سوريا مقابل إسرائيل الى اللجنة المكلفة بالإشراف على تنفيذ بنود هذا التفاهم, الى جانب الولايات المتحدة نفسها وفرنسا.
وبمثال آخر, فإن إسرائيل التي كانت تدرك عجز الولايات المتحدة عن الضغط عليها وإرغامها على تطبيق القرار 425 القاضي بإنسحابها من لبنان من دون قيد أو شرط, إنما تدرك تمام الإدراك, من جهة ملازمة, أن الولايات المتحدة العارفة بوضعية عجزها ذاك, كانت تنتظر سانحة من الصمود السوري, بل هي برغبة فعلية الى هذا الصمود تحديداً, دونما تصريح بذلك, كي توازي به ضغوطات اللوبي الصهيوني.
وفي مثال آخر أكثر صراحة, في هذا السياق, فإسرائيل لا يسعها أن تنسى حقيقة الموقف الأميركي الذي لم يكن راضياً عن خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عام 1998, ولا مشجعاً عليها, عندما أدرك هذا الأخير آنذاك أن لبّ المشكلة, والعقبة الكؤود بوجه سياسته العنصرية الصهيونية, ليست سوى سوريا. فأقدم على محاولة تطويقها عسكرياً وجغرافياً بتلك الكمّاشة التي ذراعاها إسرائيل وتركيا. ولو شاءت الولايات المتحدة آنذاك النجاح لخطة نتنياهو هذه, لكانت غضّت الطرف عنها بالأقل. بيد أنها سامت بتخفيف التوتر وإزالته ما بين سوريا وتركيا, في سياق إبعاد عبدالله أوجلان. فحالت بذلك دون تمكين نتنياهو من تحقيق خطته تلك مع بعض المتطرفين الأتراك. ولقد تابعت سوريا من جهتها توطيد العلاقات وتعزيزها مع تركيا على أساس علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة, بما يعيق ويشلّ أي سعي إسرائيلي لإرباك المواجهة السورية ضد إسرائيل.
هذا المثال يفصح بدوره عن الرغبة الأميركية بالدور السوري, كيما تتمكن من انتهاك سياسة تأخذ بعين الإعتبار مصالحه التي تستدعي علاقات متوازنة مع كل دول المنطقة.
أما غياب مثل هذا الدور فمن شأنه أن يعرض الإدارة الأميركية الى أشد الضغوطات وأعنف الحملات من قبل إسرائيل واللوبي الصهيوني اللذين سوف يسارعان حتماً الى إتهامها بمواقف متباينة مع سياسة إسرائيل, وبكونها عربية أكثر من العرب أنفسهم الذين وقّعوا مع إسرائيل علاقات تطبيع واتفاقات سلام منفرد, بما يعني رضاهم عن سياسة إسرائيل وتصرفاتها ومخططاتها.
في هذا السياق ذاته من الوقائع الأميركية التي تبرز الرغبة الملحة لحضور دور عربي فاعل مواجه لإسرائيل لا متنازل أمامها ولا خاضع لإملاءاتها, فإنه يصعب توقع القيام بهذا الدور من قبل الدول العربية التي تجمعها بالولايات المتحدة روابط وصداقات تقليدية. وذلك بسبب من هذه الروابط بالذات التي لا يمكن أن تقنع إسرائيل مطلقاً بعدم وجود رغبة أميركية ضمنية خلف مواقف هذه الدول العربية المشار إليها, فيما لو ارتضت القيام بذلك الدور.

 

المواقف الأوروبية

إضافة الى هذه الوقائع الأميركية, ثمة وقائع أوروبية عديدة مماثلة تبرز الحاجة الأوروبية الملحة كذلك لهذا الدور العربي, كيما تتمكن أوروبا من النهوض الى دور ضاغط من جهتها على إسرائيل.
إن سويسرا التي تتعرّض لابتزاز مالي وإقتصادي صهيوني مستمرّ, وإنّ النمسا التي تضيق ذرعاً بمحاصرة إسرائيل لها باتهامها بنزعة العداء للسامية, أي لليهود, وإنّ السويد التي يتهددها الإرهاب الفكري والسياسي الصهيوني, وبخاصة بعد سلسلة المواقف النقدية الصريحة لإسرائيل, والتي أعلنتها وزيرة خارجيتها, وإنّ ألمانيا التي ما زالت تطاردها إسرائيل وتبتزها بعقدة النازية الهتلرية, وإنّ الدانمارك, وبلجيكا, وحتى فرنسا ذاتها الحريصة دائماً على حقوق الإنسان وحق الشعوب بتقرير مصيرها بنفسها وعلى القضايا العربية المحقة, والتي تقف ضد غطرسة إسرائيل وعدوانيتها وتوسعيتها وعنصريتها منذ وقوف الجنرال ديغول الى الجانب العربي في عدوان إسرائيل عام 1967, وإن إسبانيا, وإنكلترا, وإيطاليا وغيرها وغيرها من الدول الأوروبية, التي تتعرض جميعها الى سيف الإتهام بمعاداة السامية المسلّط فوق رؤوسها ورؤوس مواطنيها, كلّما توجّهت بمجرد مساءلة وأبسطها باتجاه السياسة الإسرائيلية, كل هذه الدول الأوروبية تنتظر صموداً عربياً لتستند إليه, كيما يكون لها أن تلعب دورها الخاص في مواجهة إسرائيل وصلفها وإجرامها, في الوقت ذاته الذي تبدي هذه الدول جميعها حرصها على أمن إسرائيل وإستقرارها, في ظل سلام حقيقي تنعم به جميع دول المنطقة.


كلّ ما حاولت الإشارة إليه, في هذا الصدد الأميركي والأوروبي على حد سواء, لا يتعدى كونه دعوة الى رؤية الوقائع على ما هي عليه, والى إدراك المنطق الكامن خلف ما تبديه هذه الوقائع من حرص على الدور السوري, ألا وهو منطق حماية المصالح الأميركية والأوروبية أولاً وأخيراً, قبل أن يكون كرمى عيون العرب. فإذا كان الصمود العربي مطلوباً, وحيوياً, بالنسبة للولايات المتحدة وللإتحاد الأوروبي, من أجل أن يوازيا به الضغوطات والتأثيرات الصهيونية, فلأن مصالحهما تقضي به, ولأن البراغماتية الأميركية التي هي نقيض التحجر في المبادئ والجمود, ونقيض الدوغماتية بالتعريف, فليس توجّهها في نهاية المطاف غير المصالح.
هذه النظرة الأميركية الى المسائل والقضايا المتصلة بالصراع في المنطقة وبالأطراف المنخرطين فيه, هل تبدّلت من حيث الجوهر, بعد العملية الإرهابية الموصوفة المدمرة الإجرامية التي تعرّض لها مبنيا “التجارة الخارجية” و”البنتاغون” الأميركيان في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول العام الفائت؟

 

الإنتفاضة الفلسطينية وتأثيراتها

ربما تفترض مقاربة الإجابة على هذا السؤال بأكثر ما يمكن من الدقة, أن نتوقف بسرعة عند معطيات الأوضاع والسياسة الإسرائيلية التي تفاقم تأزمها بفعل الإنتفاضة الفلسطينية المباركة والمستمرة.
فلقد عطّلت هذه الانتفاضة المخطط الإسرائيلي بفرض الحل الإستسلامي على الشعب الفلسطيني. واتخذت طابع حرب تحرر وطني نقلت “حرب العصابات” الى الأراضي الفلسطينية المحتلة, والى عقر الكيان الصهيوني نفسه. وهو الأمر النوعي الذي أدخل إسرائيل نفسها في أزمة وجودية الطابع للمرة الأولى منذ الإعلان عن قيامها.
ولقد قضت هذه الانتفاضة على أسطورة الأمن والإستقرار الإسرائيليين, وعلى الهجرة اليهودية لإسرائيل, بل تسببت بالظاهرة الأشد خطراً عليها, ألا وهي ظاهرة الهجرة المعاكسة. وقضّ إستمرار هذه الإنتفاضة مضاجع الإسرائيليين الذين لم يعودوا قادرين على أن ينعموا بالنوم إذا لم يستيقظ الشعب الفلسطيني على شمس الحرية فوق الأراضي الفلسطينية المحررة.
وبكلمة, فلقد أمسك إستمرار الإنتفاضة بتلابيب الكيان الصهيوني الذي بدأ قاطنوه من اليهود يتملكهم الشعور بإنعدام أي مستقبل لأبنائهم في هذا الكيان الذي بات يتراءى لهم بلا أفق.
وكانت ذروة الفشل الذريع لهذه السياسة المتمسكة بفرض الحل الإستسلامي التصفوي, إرتماء إسرائيل بأحضان أرييل شارون وقوى التطرّف الصهيوني العنصري الإرهابي.
إعتلى شارون السلطة وفي جعبته العسكرية برنامج من بند وحيد: قصم ظهر الإنتفاضة ليس إلآّ. وهو لم يعد الإسرائيليين إلا بأمر واحد: الإجهاز على الإنتفاضة خلال مئة يوم, وفرض الأمن مئة بالمئة.
لكنه, وبعد ثمانية عشر شهراً من ممارسته الحكم بأبشع أنواع المجازر والمذابح والعنصرية والإرهاب الموصوف, وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية, لم يقدّم للإسرائيليين سوى المزيد من إنعدام الأمن والأمان, وسوى الإنهيار المتسارع لإسرائيل نفسها. إنه لم يفعل غير أن يقود إسرائيل الى حرب إبادة عنصرية حقيقية على الشعب الفلسطيني تستهدف إلغاءه من الوجود, سياسياً وبشرياً, عن طريق الإقتلاع والترحيل المموّه بتسمية “الترانسفير” الصهيونية.
حتى الحل الإستسلامي بات شارون يرفضه. لم يعد يقبل بغير إقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه, وإن على مراحل. بمن في ذلك عرب 1948 الصامدون داخل الكيان الصهيوني. حتى الحلول الإستسلامية باتت مرفوضة من قبله ومن قبل قوى التطرّف, لأن من شأنها أن تثبت, في إعتبارهما الصهيوني العنصري, الوجود البشري الفلسطيني أياً كانت صيغته, سواء في الأرض الفلسطينية المحتلة أو في داخل الكيان الصهيوني. ولذا, فلقد اعتبر شارون أن أي إستقرار يُمنح للفلسطينيين وإن في ظلّ حل إستسلامي يرضخون له, سرعان ما سوف ينتهي بذاته الى إغراق إسرائيل.
ذلك أن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي الذي تسميه عنصرية الصهاينة “القنبلة الديموغرافية” بات يشكل للإسرائيليين عنصر ذعر أساسي, وباتت حقائقه العددية تُطرح من قبلهم, كقضية مصير بالنسبة إليهم, لا سيما بمقابل ظاهرة بل موجات الهجرة المعاكسة العارمة التي بدأت تطعن الكيان الصهيوني في الصميم.

 

إعلان الحرب ضد الإرهاب

أمّا بعد 11 أيلول 2001, فلقد استغل شارون والصهاينة, عسكرياً وسياسياً, إدانة العالم للعملية الإرهابية واستثمروا الى أقصى حد الحرب على الإرهاب.
وسعت إسرائيل بكل ما يملك الصهاينة من نفوذ فعّال في وسائل الإعلام الأساسية في العالم, الى حمل هذا العالم بأسره على إعتبار مقاومة الشعب الفلسطيني المشروعة إرهاباً مرذولاً ومداناً. وعلى أن ما ترتكبه إسرائيل من مذابح ومجازر ليس سوى “دفاع مشروع عن النفس ضد الإرهاب” (كذا!), مطالبة بإعتبار المجازر والفظاعات الدموية التي تمعن بإرتكابها من ذات الطبيعة والأهداف والوسائل التي تمارس في أفغانستان ضد طالبان و”القاعدة”. وتمكنت إسرائيل فعلاً, بعد تردد أميركي دام بضعة أشهر, من حمل الإدارة الأميركية بخاصة على تبني طروحات شارون في هذا الصدد, بما في ذلك حملها على التراجع العلني عن الترحيب بمبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله التي تكرّست في قمة بيروت الأخيرة مبادرة عربية. وهذا, بعدما كان شارون قد أسقطها بمدافعه وباجتياح مدن الضفة والقطاع, وبارتكاب أبشع المجازر في رام الله وطولكرم وبيت لحم وجنين, وغيرها, فور الإعلان عن هذه المبادرة.
مثلما حملت إسرائيل أيضاً الإدارة الأميركية, تالياً, على إعتبار فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله في لبنان منظمات إرهابية, بعدما كانت قد وقّعت في إتفاق “تفاهم نيسان” على إعتبار هذه المقاومة التي يقودها ويتابعها حزب الله تحديداً في الأراضي المحتلة, حقاً مشروعاً.
من هنا أيضاً رفض شارون المطلق لأي حل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني, ولأي تسوية بل رفضه مجرد الكلام عن مجرد إحتمال بمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويجدر بنا أن نتذكر أن شارون نفسه, وبعد ثلاثة أشهر تحديداً من توليه السلطة, راح يصر على إعتبار المشكلة لا تتعدى كونها إرهاباً من جانب إرهابيين فلسطينيين يقودهم ويرأسهم رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات نفسه الذي شبهه, ومنذ ذلك الوقت, بـ”بن لادن”. وهذا في حزيران 2001, أي قبل العملية الإرهابية التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001. كما لو أن هذه العملية الإرهابية الموصوفة جاءت مصداقاً على إدعاءات شارون كـ”شحمة على فطيرته”. ومع ذلك, بقي الشعب الفلسطيني مستمراً في انتفاضته. وفضّل الموت مقاتلاً واقفاً على أن يذبح راكعاً. فلم يعد لدى شارون من همّ آخر سوى تجنيب إسرائيل, وجيشها, وقطعان مستوطنيها, الإنهيار الكامل. وهو ما لم يعد إنهياراً إقتصادياً وحسب, ولا إنهياراً سياسياً فقط, إنّه, الى ذلك كله, إنهيار مجتمعي ينطوي على الكثير من مؤشرات التفكك. وأسطع دليل على هذا مواقف مجموعات من ضباط الجيش الإسرائيلي وبياناتهم الرافضة للخدمة العسكرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهي ظاهرة آخذة بالإتساع, ويضم إليها أكثر فأكثر المزيد من الصحافيين والأكاديميين والفنانين والمثقفين اليهود داخل إسرائيل بالذات, وخارجها كذلك.

 

أزمة المصير والوجود

بإزاء هذا الإنهيار المتعدد الأبعاد والمظاهر, يتوهّم شارون وقادة الصهاينة اليوم, ويتابعون, عملية إنقاذية لإسرائيل من خلال أوسع تفجير يطول بنيرانه كل المنطقة, وينتقل بالمعركة الى الخارج, ويفرض على بلداننا العربية الرضوخ النهائي الكامل, ويتيح لإسرائيل أن تمرر, في إطار هذا التفجير الواسع النطاق, عملية إقتلاع الشعب الفلسطيني وإبادته كشعب, وكوجود سياسي, وكهوية, وكقضية.
وليست الهستيريا الصهيونية الفالتة من عقالها اليوم, وبمحاولاتها المحمومة لاستنفار العالم ضد العرب والإسلام, سوى تعبير, في الآن معاً, عن المدى الذي بلغه العجز الإسرائيلي, وعن عمق المأزق الذي دفع الصمود العربي بإسرائيل الى الغرق فيه والتخبط في لجّته.
إنها فعلاً أزمة مصير وجودية المضمون والطابع, تتفاقم داخل دولة إسرائيل التي تبرز اليوم, وأكثر من أي وقت مضى, على حقيقتها السافرة بكونها دولة شاذة, بخلاف أي دولة طبيعية في العالم, هذا لأنها أكثر من دولة, لأنها مشروع. مشروع غير قابل للإستمرار على قيد الحياة إلا إذا ظلّ قيد التمدد. ففي توقفه موته. وهنا, تحديداً, هنا جوهرياً, يكمن جوهر الصمود السوري المختزل للصمود العربي بكونه بدأ يعطّل ويوقف تمدد المشروع الصهيوني.
وهذا ما يفسّر بحدود بعيدة, سعار إسرائيل الحالي, ولجوء الحركة الصهيونية, للسعي الى نقل المعركة الى خارج الكيان الصهيوني ذاته بعدما ثبت عجزه عن الإنتصار فيها. وبحيث تصبح ساحة هذه المعركة البلدان العربية بأسرها, وحتى مراكز القرار في الدول الكبرى بالعالم, والعمل المحموم على زجّ هذه الدول الى جانب إسرائيل, إنقاذاً لها من أزمتها المستعصية.
وليس من المبالغة, ولا من قبيل التهويل قطّ, الإنتباه الجدّي الى الأخطار المصيرية الطابع التي تتهدد عالمنا العربي بأسره من جرّاء هذا السعار الصهيوني. بل ربما نحن نتعرض اليوم لما يصح إعتباره أخطر وأدق فترات صراعنا مع العدو الصهيوني على الإطلاق.
ففي ما مضى, كانت خارطة سايكس ­ بيكو وخطوطها الجغراسية هي ما واجه النهوض القومي العربي والحركة القومية العربية بتجزئة الوطن العربي الذي تقاسم السيطرة على بلدانه عدد من الدول الإستعمارية, في عالم كان يومها متعدد الإستقطاب. وهو ما انطوى على إعاقة وإفشال تحقق النزوع العربي العام الى الوحدة القومية بمشاريع التفتيت القومي.
أما اليوم, وفي هذا العالم الذي بات أحادي الإستقطاب بحدود بعيدة, فيجدر بنا أن لا نتفاجأ فيما نحن نشهد محاولات ومشاريع آخذة ملامحها بالإرتسام على الارض, باتجاه تفكيك وإعادة تركيب الوطن العربي بدوله كافة, بما يتجاوز خارطة سايكس ­ بيكو, إنما على قاعدة المزيد من التفكيك. إنها عملية تفتيت قطري. تفتيت كل قطر عربي بما يقضي على الوحدة الجغرافية والسياسية الكيانية لكل بلد عربي. ناهيك عن الإجهاز على الروح القومية, وعلى الهوية والشخصية العربية. إنها عملية إعادة تركيب جذري للمنطقة, مدمرة ساحقة لجميع البلدان العربية من دون إستثناء, يسعى المشروع الصهيوني الى فرضها كيما يبقى قيد الحياة. وهو يستند في ذلك الى سياسة زج الدول الكبرى, والولايات المتحدة الأميركية بخاصة, في تنفيذ مخططه هذا, بعدما تمكّن اللوبي الصهيوني من التغلغل في مراكز القرار الأميركي, وحيث تشهد الولايات المتحدة صراعاً حاداً بين تيارات متعددة, متباينة في النظرة والعمل, بشأن السياسة الخارجية في الشرق الأوسط.

 

النفوذ الصهيوني وتأثيراته

ليس النفوذ الصهيوني وتأثيراته وضغوطاته بالأمر الجديد, في هذا الصدد. إنما الجديد هو هذا التصعيد الصهيوني الجذري الذي لم يعد يحفل ­ بفعل إشتداد التأزم العاصف بإسرائيل ­ بافتضاح إنقضاضه السافر المتعجّل اللجوج على السياسة الأميركية لإحتلالها ومصادرتها بالكامل, ولإخضاعها بصورة علنية مطلقة لمآربه واستهدافاته.
في هذا الإطار تحديداً, يتعين أن نقرأ التهديد تلو الآخر والتصعيد تلو الآخر, بشن حرب قاضية على العراق. وصولاً الى إعلان إسرائيل الرسمي عن قدرتها وعن عزمها على إستخدام السلاح النووي الذي تتباهى الآن علناً بامتلاكها له, وبأن استخدامه الجاهز من قبلها, سوف يمحو العراق أرضاً وبشراً عن خارطة العالم.
هذا التحريض المسعور الذي يدفع به ويقوده شارون وغلاة التطرّف الصهيوني من أجل تدمير العراق, هو من أخطر ما يتهدد المنطقة والعالم العربي والإسلامي والعالم بأسره, في حال تمكنت إسرائيل من توريط الولايات المتحدة وحملها على تنفيذ مآربها بضرب العراق والقضاء عليه.
إن من ينجح بتدمير العراق سوف لن يوقفه أمر ولا أي رادع عن متابعة تدمير سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية ومصر وسائر الدول العربية تباعاً.
في هذا السياق نفسه, تتصاعد الحملة الصهيونية الهستيرية, حتى من خلال أبواق أميركية الجنسية شكلاً, صهيونية الهوى والإنتماء, على المملكة العربية السعودية, وإستعداء الشعب الأميركي عليها, وممارسة كل أشكال الضغوط والإبتزازات والإستنفارات الهادفة الى شلّ وتعطيل أي من قدرات المملكة على التضامن مع صمود سوريا ولبنان والشعب الفلسطيني. وحتى الى تفجير المملكة نفسها من الداخل, عبر الكلام المعلن عن احتمال قيام جمهورية نفطية في المنطقة الشرقية من هذه المملكة.
ولقد تمكّنت هذه الحملة من تعطيل حركة المملكة السعودية الى حد بعيد, بعدما أظهرتها, بين ليلة وضحاها, بكونها أخطر عدو للولايات المتحدة, وهي التي عرفت أبداً بكونها أعرق وأهم صديق تاريخي تقليدي لها.
وهذا بخاصة بعد أن وفّرت العملية الإرهابية في 11 أيلول الفرصة الذهبية للّوبي الصهيوني لشن حملته المركّزة على تصوير تلك العملية الإرهابية نفسها, والإرهاب بعامة, بكونهما صنيعة السعودية بالذات, والتي يرسّخ الإعلام الصهيوني اليوم تقديمها بأبشع النعوت المسعورة الحاقدة بصفتها العدو اللدود الأول للشعب الأميركي, والخطر الداهم الأول على البشرية جمعاء والحضارة الغربية بخاصة, هي والعرب والإسلام نفسه, ديانة ومسلمين أينما كانوا والى أي بلد انتموا.
إنه سيناريو الإبتزاز الذي تتهدد به مصر بدورها, من خلال الإعلان عن وقف المساعدات الإضافية الأميركية التي كانت مقررة لها. وهذا بالتذرع بصدور حكم قضائي مصري على الكاتب المصري سعد الدين إبراهيم والحامل في الوقت نفسه الجنسية الأميركية. فرغم كل علاقات مصر وإتفاقاتها الرسمية بالسلام المنفرد, فإن إسرائيل باتت عاجزة عن تحمل أقلّ موقف يسائلها, أو يشير ­ أو حتى يلمّح تلميحاً ­ الى سلوكها الدموي الإجرامي وسياستها العنصرية المنهجية.

 

الحملة الصهيونية على سوريا

في هذا السياق ذاته إيّاه, تتركز, وتتمحور, الحملة الصهيونية اليوم على سوريا, بعدما اطمأنت الصهيونية بحدود بعيدة الى ما اعتبرته نجاحاً في تعطيل الدور السعودي.
فإبا بها تصعّد, بقصارى ما تملك من قدرات, من سعارها ضد سوريا التي أضحت وحدها, أجل وحدها, النبض والقلب والجبهة الشامخة, ذوداً عن الكرامة العربية وعن المستقبل العربي.
ذلك هو جوهر ومضمون السياق الذي يتعين أن نقرأ في ضوئه ومعطياته محاولة دفع الكونغرس الأميركي في أيامنا هذه للشروع في بحث ومناقشة وإقرار ما سمي بـ”مشروع قانون محاسبة سوريا”, بما فيه الشق المتعلق بما سمي “محاسبة دورها في لبنان”. وذلك, بناءً على إقتراح عضو الكونغرس النائب الأميركي الصهيوني النزعة, بنيامين غليمان, رئيس لجنة الشرق الأوسط الفرعية في لجنة الشؤون الخارجية.
مشروع القانون هذا الذي صاغه مؤيدو إسرائيل, يدعو الرئيس الأميركي بوش الى عزل سوريا وفرض عقوبات عليها ما لم تلتزم بما يسميه المشروع عدم دعم المنظمات الإرهابية, وعدم خرق القوانين الدولية, وسحب قواتها من لبنان, وتوقيع إتفاق سلام مع إسرائيل, وسوى ذلك من مطالب إسرائيلية بامتياز.
إسرائيل التي فشلت الى الآن في كسر حلقة الصمود السوري, في ساحة المعركة الأصلية في المنطقة, تجرّب اليوم كسرها والإجهاز على سوريا, في قلب الولايات المتحدة من خلال هذا الإستنفار الجنوني لدمغ سوريا بالدولة المولّدة للإرهاب والحاضنة له ولتنظيماته.
وليس هذا كلّه لمجرد التغطية على معمل الإرهاب اليومي الذي تمثله وتمارسه دولة إسرائيل, وهي التي باتت غير عابئة أصلاً بالتستير عليه. إنما أساساً بهدف تدمير التعويل الأميركي والأوروبي قاطبة على دور لسوريا. وإن لم يكن هذا التعويل الفعلي ظاهراً ولا معلناً. فما يُسمى اليوم “مشروع قانون محاسبة سوريا” إنما ينطوي ضمناً, وأساساً كذلك, على محاسبة الأميركيين والأوروبيين الذين ما يزالون يعوّلون الكثير على سوريا حتى, وبخاصة, بعد 11 أيلول 2002, ويعتمدون على سياستها الستراتيجية الثابتة في إرادة السلام العادل والشامل.
أنّى لأحد عاقل أن يصدّق هذه الإختلاقات والمزاعم الصهيونية المنصبة على إتهام سوريا بالإرهاب, وهي التي واجهته وقضت عليه داخلها, وحاربته وما تزال تتصدى له خارجها, ودفعت الأثمان والأكلاف الباهظة في حربها عليه؟ وأنّى لأحد أن يصدّق ذلك, فيما سوريا نفسها ضحية الإرهاب الموصوف بالذات؟ وفيما الكل يعلم حقّ العلم أن المعركة التي ما انفكّت سوريا تخوضها وتتابعها إنّما هي معركة قومية الجوهر تحررية الطابع, وتخوضها ليس فقط ضد إرهاب دولة إسرائيل وتوسعيتها وعنصريتها, بل ضد الإرهاب بعامة, والذي تعتبره سوريا عدوّها الدائم وعدو القومية العربية, وعدو الإسلام وعدو كل الشعوب التي تناضل من أجل تحررها. إذ ليس من شأن الإرهاب ومن طبيعته إلا أن يشوّه طبيعة المعركة التي تخوضها سوريا وينال من عدالتها ومشروعيتها في الصميم.
إن سوريا ضد الإرهاب قطعاً, لأنها لا ترى إليه إلا حليف إسرائيل الأول.
الولايات المتحدة نفسها غير مقتنعة بهذه الإدعاءات الصهيونية. ولقد أبدت العديد من المؤشرات والمواقف المدللة على عدم انزلاقها الى تبني هذه التخرصات الصهيونية, رغم معاناتها من حجم ضغوطات اللوبي الصهيوني, ورغم إدراكها حقيقة استهدافاته الرامية الى زجّ الولايات المتحدة نهائياً في حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني وعلى سوريا وعلى جميع البلدان العربية, وعلى الإسلام. بل بسبب من هذا الإدراك بالذات حرصت الولايات المتحدة في عدد من الأحيان على إظهار التمايز بتعبيرات مختلفة, عن مواقف إسرائيل المسعورة في هذا الصدد.
فالولايات المتحدة لا يسعها أن تتجاهل كون الرئيس السوري بشار الأسد كان أول من بادر الى إعلان إدانته القاطعة لعملية 11 أيلول الإرهابية يوم وقوعها بالذات. وهي لم يسعها أيضاً إلا أن تعلن عن ارتياحها للتعاون الحقيقي الذي أبدته سوريا مع الولايات المتحدة في شأن قضايا تتصل بالحرب على الإرهاب.
أما المثال الأسطع على تأبّي واشنطن الأخذ بمزاعم إسرائيل واللوبي الصهيوني في هذا الخصوص, فيتجسد بعدم معارضتها لانتخاب سوريا, وتحديداً بعد 11 أيلول 2001 بالذات, عضواً في مجلس الأمن رغم الإبقاء الرسمي على إدراج سوريا على لائحة الإرهاب الأميركية. وهل من عاقل لا يدرك مدى هيمنة الولايات المتحدة على المجلس الأمن, ولا يعي تماماً بأنه لو لم ترغب الولايات المتحدة بعضوية سوريا في مجلس الأمن لما كان لها ذلك؟

 

صراع داخل الإدارة الأميركية

ثمّة داخل الولايات المتحدة, وداخل الإدارة الأميركية نفسها كذلك, صراع حقيقي يتفاقم بين تيارات ومراكز قوى حول الموقف من سوريا. ثمة صراع أميركي, محوره سوريا بالتحديد, لأنها هي الصمود العربي. هناك اتجاهان رئيسان على ما يبدو في هذا الصدد. أحدهما يقول بضرورة إستمرار الحوار مع سوريا حول جميع القضايا المتصلة بالإرهاب وبعملية السلام, فيما يقول الإتجاه الآخر المتشدد الخاضع لطروحات اللوبي الصهيوني, بممارسة أشد وأقصى الضغط على سوريا, بصرف النظر عن موقفها من مسائل الصراع في الشرق الأوسط.
في هذا الإطار, ابتكر اللوبي الصهيوني هذا المشروع المشين “بمحاسبة سوريا” الذي لا يلحق غير الضرر الأكبر بالولايات المتحدة نفسها, وإن كان ينطوي في الوقت ذاته على أشد المخاطر هولاً على مستوى الوطن العربي بأكمله, في حال تم إقراره والأخذ به, وفرض تبنيه على الإدارة الأميركية, علماً بالصعوبات الواقعية البالغة التي تعترض تصديق هذا القرار, وتطبيقه بخاصة.
وإذا كان من المتعين علينا أن نرى الدلالات والأوجه المتعددة لهذا الإستنفار الصهيوني داخل الولايات المتحدة, وخارجها, ضد سوريا بالتحديد, أي ضد العرب قاطبة في النهاية من خلال سوريا, فإنه يتعين علينا كذلك, وبنفس الدرجة من الأهمية, أن لا ننزلق سلفاً ومسبقاً الى ما يعتبر بمثابة تسهيل لمهمة اللوبي الصهيوني في إحكام قبضته على القرار الأميركي ومصادرة السياسة الأميركية بصورة ناجزة.
كل من يجهل أو يتجاهل عندنا مخطط إسرائيل الساعي الى التماهي مع الولايات المتحدة, الى تصوير نفسها وسياستها كأنها والولايات المتحدة صنوان, إنما يخدم بذلك اللوبي الصهيوني نفسه الذي ما توقف لحظة, وفي الآن معاً, عن تصوير إسرائيل بكونها هي هي الولايات المتحدة الأميركية, وعن تصوير الولايات المتحدة بأنها هي هي إسرائيل بالذات.
وكل من يسارع في الوطن العربي الى اعتبار المعركة هي أولاً وأخيراً ­ أو يجب أن تكون أولاً وأخيراً مع الولايات المتحدة بصفتها هي العدو الأساسي, والأوحد, للعرب وبصورة مطلقة, وقبل إسرائيل وبعدها, إنما يلعب وللأسف لعبة إسرائيل نفسها. إنّ صحة النهج الذي أرساه القائد التاريخي حافظ الأسد تتأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى, وسط كل هذه التطورات والتحوّلات النوعية التي نشهدها, وبكل ما تنطوي عليه من مخاطر مدمرة.
لقد راهنت إسرائيل على غياب حافظ الأسد متوهّمة تزعزع الأوضاع في سوريا, ودخولها في مرحلة من اللاإستقرار الذي ينهكها ويحملها على الرضوخ والإستسلام. لكنما العكس هو ما حصل: فإسرائيل نفسها هي التي تعصف بها حال من اللاإستقرار المتفاقم الذي يضرب عميقاً في داخل كيانها. وإذا بمحاولات اختراقاتها ترتد عليها فتصبح هي المخترقة. في حين تنعم سوريا بالإستقرار المكين الذي تثبت بإنتخاب الرئيس بشار الأسد بإجماع شعبي قلّ نظيره, وأعربت بإزائه الولايات المتحدة الأميركية نفسها عن إرتياحها لهذا الإنتقال الدستوري الذي شهدته سوريا بصورة طبيعية.
بل إن الرهان من قبل الفاتيكان وبالزيارة التاريخية لقداسة الحبر الأعظم لسوريا, رغم كل المحاولات الإسرائيلية والصهيونية لتعطيلها, وكذلك الرهان من قبل الدول الكبرى, ما يزال معقوداً على سوريا ومواقفها الحكيمة الصلبة الشجاعة في آن, في السعي الى إيجاد حلول حقيقية للمسائل والقضايا المتعلقة بالمنطقة. وهو ما أكدته المواقف والإتفاقات المعلنة من قبل أعلى المسؤولين في كل من إسبانيا, وفرنسا, وألمانيا, تتويجاً لإستقبال هذه الدول الحار للرئيس بشار الأسد, على الرغم من الحملات الصهيونية المسعورة التي حاولت أن تشوه سمعة هذا الرئيس وتفشّل سياسة سوريا الثابتة. وهو الأمر الذي يعكس حقيقة التطلعات والآمال التي تعقدها هذه الدول على دور سوريا وعلى خيارها الستراتيجي الثابت في السلام الحقيقي العادل والشامل, حلاً وحيداً لدوامة الحروب والعنف التي تتسبب بها نزعة الهيمنة والسيطرة والعنصرية الصهيونية.

 

دلالات المواقف الدولية تجاه سوريا

علامَ يدلّ هذا الموقف الدولي من حيث الأساس؟ على إدراك المجموعة الدولية القاطع, بما فيها الولايات المتحدة نفسها, لأهمية الدور الحاسم المقرر لسوريا, بفعل صدقيتها وإستقلالية قرارها. وهذا حتى عندما كانت في أوج علاقات التحالف والصداقة مع الإتحاد السوفياتي سابقاً. إذ ظلّت حريصة أبداً على أن تتخذ قراراتها من موقع المصالح القومية, العربية, والصمود في مواجهة مخططات الهيمنة الصهيونية, قبل أي إعتبار آخر, ومن دون أي مسايرة لأحد, أو تنازل لرغبة حليف.
إنه دور لا يمكن لأي بلد عربي آخر أن يؤديه ­ وللأسف ­ رغم رغبة سوريا العميقة وجهادها الدائم, بأن تكون كل دولنا العربية بقادرة عليه, صامدة راسخة في متابعته. وعليه, فإنّ الحاجة الدولية لسوريا ناجمة عن كونها لم تنزلق أصلاً الى إتفاقات منفردة, ولم تهرول الى التطبيع قبل السلام وبديلاً منه. ولم تراوغ في خيارها السلمي القاطع. فدورها بالتالي هو الأساس, وهي المرجع. وهي المحاور الذي من دونه يستحيل الوصول بالمنطقة الى السلام الحقيقي العادل والشامل.
لقد بيّنت التجارب العديدة والمريرة في مجرى صراعنا مع المشروع الصهيوني بأن التغيير المنشود لصالح العرب يستحيل إنتظاره وترقبه إلا من خلال صنعنا له, نحن العرب. وأنه يستحيل ارتجاؤه من داخل إسرائيل, ولا بالمراهنة على أي من تياراتها أو ساستها. ولا أيضاً من خلال الإتكال على أي مبادرة أو مشروع خارجي وحسب.
وإنّ سوريا اليوم تجسد هذه الخيارات المصيرية خير تجسيد. ولا سيما في هذه المرحلة الحبلى بالأحداث النوعية, التي يراد لها أن تكون مرحلة فرض الحلول التصفوية بتكريس الهيمنة الصهيونية على الوطن العربي.
ولهذا فهي على درجة مصيرية, بالغة من القصوى والخطورة على كل بلد عربي منفرداً, وعلى الأمة جمعاء.
وعلى هذا كله, فإن التضامن مع سوريا اليوم ضرورة وطنية لسلامة كل قطر عربي, وضرورة قومية مصيرية بالنسبة للأمة العربية جمعاء. فعلى قاعدة هذا الصمود السوري تحديداً, سوف نكون قادرين على إستعادة صحوة عربية تتحرك على أساس موقف موحد وتضامن عربي جامع ­ كما حصل في قمة بيروت الأخيرة.
وهذا هو أساس التحرّك العربي للرئيس بشار الأسد, وللدبلوماسية السورية المتحركة بتوجيهاته, من أجل تجميع كل نقاط وعناصر الإلتقاء العربي وتوحيد المواقف المشتركة المتضامنة في مواجهة المخاطر المحدقة بالجميع, ومن أجل تعطيل فعالية الفريق الأميركي المتطرّف والخاضع بصورة سافرة لطروحات اللوبي الصهيوني.
لقد بادر القائد حافظ الأسد قبيل انعقاد مؤتمر مدريد في العام 1991, الى طي صفحة الخلافات والتباينات التي كانت قائمة في ما بين سوريا وبعض الأشقاء العرب, فمد يد التعاون الصادق الى السيد ياسر عرفات والرئيس حسني مبارك والملك حسين من أجل وحدة الكلمة ووحدة الصف العربيين.
فليكن لجميع القادة العرب اليوم الإقتداء بهذا الموقف القومي النبيل المنزّه, في جمع الصف العربي المعرّض بكامل بلدانه الى مشاريع السحق والتدمير.

 

كرامة الغد العربي

هذا الإلتقاء العربي المتضامن, هو الأمر الذي يدفع بالآخرين في العالم الى التحرك بإتجاه الضغط الفعلي على إسرائيل, التي يتسارع إنحدارها الى هوّة الإنتحار المؤكد, إذا ظلّت مصرّة على التمسك بالحل الصهيوني, لأزمتها الوجودية, أي الحل العنصري التوسعي العدواني الإرهابي, فيما هو هذا “الحل” المستحيل أصلاً سبب بلائه, وعلّة كيانها العضوية. ليس من حل آخر يوفّر الإستقرار والأمن لجميع بلدان المنطقة بما فيها إسرائيل, سوى أخذ إسرائيل نفسها بالسلام العادل والشامل بصورة قاطعة.
إذا كان ذلك هو تطلع الأوساط الدولية الى جوهر دور سوريا, ومن دون مبالغة, فكم يبدو ساذجاً مخطئاً كل عربي يظن نفسه, أو بلده أو نظامه, أو مدينته, أو عمله, أو بيته, أو ثروته, في منأى عمّا تتعرض له اليوم من مخاطر كل من سوريا ولبنان والشعب الفلسطيني والمملكة العربية السعودية والعراق.
لكنما الحزن المفجع حقاً أن نرى عربياً واحداً يعتبر صمود سوريا ولبنان وإنتفاضة فلسطين عبئاً عليه, فيما هو, هذا الصمود, هو الذي يعبّد الطريق للسلام العادل والشامل, وينقذ كل بلدان العرب من مخاطر الهيمنة الصهيونية, ومن التبعية لإسرائيل وأعبائها الحقيقية المدمرة الساحقة للجميع.
تلك هي المسألة. وتلك هي الكارثة إذا ما أصرّ البعض منا على أن يلدغ مرتين ومرات من الجحر إياه.
من سوريا انبثق الفجر الذي تتذكرون, من إرادة وصمود وإباء نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي اللذين استنهضا الإجماع العربي وإجتماعه. فأشرق تحرير القدس, وإجتُرِحَ ذلك النصر التاريخي على الفرنجة.
وعلى صمود سوريا ذاتها اليوم, التي حفظت التاريخ وحافظت عليه روحية واستلهاماً لما هو الجوهري في أنصع منجزاته وليس بماضوية متحجرة فارغة جدباء.
إنه على هذا الصمود, تتوقف اليوم, إشراقة تحرير القدس مجدداً, وكرامة الغد العربي بأسره.

 

فشكراً لك يا دمشق على كل ما قد أنجزت. وشكراً لك على كل ما سوف تنجزين.