اقتصاد ومال

الوزير جورج قرم لـ«الجيش»:
إعداد: تريز منصور

سلسـلة الرتب والرواتب قضية محقّة ولكن...
الفصل بين غلاء الـمعيشـة وزيادة الراتـب
بدايـة لـحـل الأزمـة المالية
في لبنان

 

بعد أخذ وردّ... أقرّ مجلس الوزراء سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، معلنًا أنه ما زال بصدد البحث عن مصادر لتمويلها.
إقرار السلسلة وقع بين رفضين الأول أتى من موقف هيئة التنسيق النقابية التي ترفض مبدأ تقسيط السلسلة... والثاني يمثله رفض الهيئات الإقتصادية المطلق للسلسلة.
يضاف إلى هذين الموقفين موقف حاكم مصرف لبنان الذي أكد إستحالة دفع مستحقات السلسلة من دون إجراءات ضريبية قاسية ربما تؤثر على الإستقرار الإقتصادي.
مجلة « الجيش» حاورت وزير المال الأسبق، الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي الدكتور جورج قرم، حول مسألة سلسلة الرتب والرواتب، والوضعين المالي والاقتصادي.


المعضلة
• أُقرّت سلسلة الرتب والرواتب ولكن من دون رصيد، على اعتبار أن مصادر التمويل لم تؤمّن بعد. فماذا يقول الوزير قرم عن هذه المعضلة المالية والإقتصادية؟
- منذ العام 2005 يشكل التخبّط عنوانًا لكل ما يتعلق بأمور المالية العامة، فنحن نعلم أنه منذ عدة سنوات حتى اليوم لم يقرّالمجلس النيابي أي موازنة، وليس هناك من حسابات للمالية العامة تصرف بإقرار منه، ما جعلنا في حالة من المخالفات الدستورية المتراكمة في كل ملف المالية العامة. وجاء إقرار سلسلة الرتب والرواتب ليسجّل مخالفة جديدة، وهي إقرار أعباء جديدة (بغضّ النظر عن شرعية هذه الأعباء)، من دون أن يكون هناك موارد مناسبة، وهذا ما أثار حفيظة الهيئات الاقتصادية، كما أن هيئة التنسيق النقابية للقطاع العام، لم ترضَ حتى اللحظة بمبدأ تقسيط السلسلة، الذي أجده مناسبًا جدًا لظروف الدولة المالية.


• على الرغم من الوعد الذي قطعه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي منذ أشهر لموظفي القطاع العام، بأن مصادر التمويل لن تحمّل المواطن أي أعباء إضافية، نجد أن الحكومة تتريث في تمويل السلسلة. كما أن الهيئات الاقتصادية، وعلى رأسها حاكم مصرف لبنان، متخوّفة من أثر إقرارها على الاقتصاد والمالية العامة، في حين نجد أصوات إقتصادية تنفي المخاطر وحجم التضخم، فأين تكمن حقيقة الأمر ومن هو المحق؟
- هناك لعبة تقليدية على صعيد الوضع الإقتصادي، فأرباب العمل يدافعون عن أنفسهم وعن مصالحهم باستمرار. والمشكلة الأساسية والجوهرية في الإقتصاد اللبناني هي في كونه إقتصاد الـ«مونتي كارلو» الذي يتمركز في مساحة 50 ألف متر مربع ويهمل العشرة آلاف متر مربع الباقية في البلد. ثمّة ثقافة إقتصادية مسيطرة على العقول في لبنان، جعلتنا نهمل التوجّه إلى الإنتاج أو الحداثة الإقتصادية. مثلاً القطاع التربوي مهم جدًا، ويهيّئ الشباب اللبناني ويحضره للنجاح في الخارج، نظرًا الى ضيق الأفق الإقتصادي في لبنان، لكن هذا القطاع لا يحظى بالإهتمام اللازم.
وأضاف قائلاً: يجب أن تزاد رواتب القطاع العام إسوة بالقطاع الخاص (زيادة غلاء معيشة)، ولكن، على الجميع أن يدركوا أن السلسلة بحاجة إلى دراسة علمية.
الوضع الاقتصادي والمالي يبقى هشًّا ما دام العلاج «ترقيعيًا»... والفصل بين مسألتي غلاء المعيشة والزيادة على الأجر بداية لحل الأزمة المالية في لبنان. ثمّة قوى ضاغطة سواء من القطاع الخاص بفروعه المختلفة، أو من القطاع العام، وبالتالي كل لبنان فيه قوى مالية ضاغطة، ولذلك نعيش في حالة من عدم الشفافية... لنأخذ على سبيل المثال ملف الكهرباء، منذ انتهاء الحرب الأهلية، لم نتمكن من تأمين الكهرباء بصورة مستمرة وهذه فضيحة كبرى، ونحن نعلم أن هناك قوى ضاغطة من مستوردي «الفيول أويل» الى أصحاب المولدات وغيرهم من المستفيدين من هذا الوضع. أؤكد مجددًا بأننا في حالة شبه فوضى في إدارة أمور البلاد الاقتصادية والمالية، لا بل نحن خارج الضبط الدستوري، وخارج إطار المنطق المالي السليم. فأي دولة تستمر لسنوات عديدة بدون تصديق الموازنة من قبل المجلس النيابي؟ خلال 22 شهرًا من عمر حكومتنا (حكومة الرئيس الحص)، قدّمنا ثلاث موازنات وأحلناها الى المجلس النيابي الذي أقر اثنتين منها، والثالثة سحبها الرئيس فؤاد السنيورة من المجلس النيابي كي يعدّل بعض بنودها، واستمرت الحكاية الى اليوم.
وأضاف الوزير قرم: النفقات الناتجة عن أرقام السلسلة يجب أن تكون تحت السيطرة، أي أن الأعباء الإضافية يجب أن يؤمن تمويلها.
وعلى الرغم من أحقيّة كل المطالب، أرى أن إقتصادنا لم يتعافَ كثيرًا، ومن الخطأ أن تدخل الحكومة في متاهات العجز والمديونية المتزايدة، خصوصًا أن إقتصادنا ليس بألف خير.

 

سر صمود الاقتصاد
• ما سر صمود المالية العامة، طالما أن الفوضى تعمّها وكذلك الاقتصاد، وعلى الرغم من الديون المتراكمة وخدمة الدين المتعاظمة؟
- لا يمكن أن أصف الاقتصاد اللبناني بأنه بألف خير، بل أقول إن هناك اقتصاديين في لبنان: الاقتصاد مركّز على 40 إلى 50 كلم2 تشمل العاصمة والأحياء الراقية فيها وبعض المصايف، حيث معدّل النمو يبلغ ربما 40 إلى50 في المئة لأن كل الاستثمارات تتجه نحو القطاع العقاري، ونحو التوظيف في ودائع في المصارف، ونحو المرافق السياحية من فنادق ومطاعم. أما خارج هذه القطاعات، فهناك اقتصاد ثان مهمل يعاني التهميش، والسكان خارج الأحياء الراقية في المدن الكبرى، في حالة تصل أحيانًا الى الفقر المدقع. ونحن نرى ماذا يحصل في الأحياء الشعبية في طرابلس وصيدا وبعلبك ومناطق أخرى في الأرياف، وهذه فضيحة كبرى.
ويتابع الوزير قرم: إن ما أنقذ المالية هو طبعًا وضع مشروع الضريبة على القيمة المضافة (TVA) خلال عهد الرئيس السابق العماد إميل لحود وبشكل متكامل. فأكبر مورد اليوم للخزينة هو هذه الضريبة وحصيلتها. وثاني أكبر مورد هو إيرادات الهاتف الخلوي الذي رفض الرئيس لحود وزميلي آنذاك الوزير جان لوي قرداحي تأميم شركتيه، فأتت كل إيراداته الى خزينة الدولة. هذان الإجراءان أنقذا المالية العامة في البلد، وحتى اليوم نرى أن حصيلة الضريبة على القيمة المضافة تزيد باستمرار، لأن الاستهلاك يزيد في لبنان، وكذلك حصيلة قطاع الخلوي.
وأحد المخارج للوضع المالي، حيث من المحتّم أن يزيد عجز الخزينة بسبب الأعباء الإضافية للسلسلة، هو على سبيل المثال عمليات خصخصة مدروسة ومصوّبة بشكل صحيح، أي خصخصة جزئية للهاتف الثابت مع إعطاء رخصة ثالثة للخلوي، وهذا من الممكن أن يدرّ على الخزينة بين 2 و3 مليارات دولار. وثانيًا الكهرباء لجهة فتح القطاع دون خصخصة المصانع، والسماح للقطاع الخاص بأن يستثمر بطاقات إضافية في الكهرباء، ما يمكن أن يولد إيرادات إضافية.
وأضاف: هناك خصخصة جزئية للميدل إيست التي تربح اليوم. وهنا نسأل: لماذا لا تزال هذه الشركة في يد مصرف لبنان؟ هذه مخالفة قانونية ضخمة، لأن قانون النقد والتسليف يمنع مصرف لبنان من التملّك خارج مهمة البنك المركزي. لقد حصل الأمر في ظروف استثنائية خلال الحرب، لكن هذه الظروف انتهت. وأيضًا لدينا شركة «إنترا للاستثمار»، و«كازينو لبنان»، وبالتالي هناك إمكانات مهمة لزيادة الإيرادات بواسطتها.
وكذلك الأمر بالنسبة الى الأملاك البحرية، التي قدمنا بخصوصها مشروعًا متكاملاً، يشير بوضوح الى طريقة معالجة التعدّيات عليها، إنما للأسف لم يبصر النور. وقد تبيّن لنا أن الإيرادات مهمة، ولكنها ليست خارقة، وإلا أفلس كل القطاع السياحي القائم على الشاطئ. وأشار إلى المرافق السياحية المتعدّية على الأملاك البحرية والتي لا تدفع إيجارات للدولة، إذ أن الدولة تمتنع عن جبايتها خوفًا من شرعنة المخالفات. بينما المرفق الذي نال الرخصة ويحترم قانون الأملاك البحرية يدفع إيجاراته. فكل هذه أوضاع شاذة يتم السكوت عنها ويتعوّد اللبنانيون على وجودها، وهذا لا يجوز.
وبالنسبة الى الضرائب العقارية، يضيف الوزير قرم، كان الوزير شربل نحاس يتكل على ضريبة عقارية جديدة، لكن الأمر صعب، ولا سيما أن القطاع العقاري يعتبر العمود الفقري للإقتصاد اللبناني. كذلك وضع الضريبة على الأملاك البحرية أمر صعب جدًا فالمالكون هم أنفسهم من سيشرعون في المجلس النيابي.

 

الإجراءات الضريبية
• وردت في لائحة مصادر تمويل السلسلة، عدة إجراءات ضريبية منها زيادة الضريبة على الفوائد، وزيادة 2 في المئة على ضريبة القيمة المضافة TVA... فهل من أثر سلبي لهذه الإجراءات مثل هروب الاستثمارات والودائع إلى الخارج، وما هي مصادر التمويل الناجعة التي لا تضّر بالإقتصاد؟
- الضريبة على الفائدة متواضعة للغاية وتصل حاليًا الى 5 بالمئة. وأنا أقول أن الفارق بين الفائدة في لبنان والفائدة في الخارج لا يزال كبيرًا ويتحمل إلى حد ما زيادة معتدلة.


•كيف تجد مشروع الموازنة العامة للعام 2012 الذي أرسل الى المجلس النيابي؟
- مع كل جهود الخبراء ومع كل الدراسات والمساعدات التقنية التي قدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والإتحاد الأوروبي، لا تزال الموازنة اللبنانية موازنة تقليدية بالبنود نفسها وبالأسلوب ذاته الذي كان معمولاً به قبل الحرب الأهلية وهذا لا يجوز بتاتًا.


• ما هو الواقع الإقتصادي والمالي اليوم في ظل الوضع الراهن؟
- الدين العام لا يزال على حاله حيث يجب ألا ننسى أن معدل الدين العام قياسًا للناتج المحلي الإجمالي، كان قد وصل إلى نسبة 180 في المئة وهي نسبة خطيرة جدًا، ومن ثم بعد سنوات الفورة الاقتصادية وبشكل خاص بين 2009 و2011 هبط هذا المعدل إلى 135 في المئة، وهذا تحسّن كبير في ظل الفلتان المالي الذي سبق وتحدثنا عنه.
وهناك إمكان لعودة هذه النسبة المعيارية إلى الزيادة، لكن لا يجوز أن تصل الى 180 في المئة، فهذا خط أحمر. وبالتالي، المطلوب سلة من الإجراءات بدءًا من عودة الانتظام إلى المالية العامة، وتوفير موارد إضافية للخزينة بشكل معتدل بدون تهريب ودائع أو زيادة أعباء على الفئات الاجتماعية الفقيرة، وزيادة إنتاجية القطاع العام وهي إنتاجية متدنية حاليًا، ورفع إنتاجية الاقتصاد ككل، خصوصًا وأننا اقتصاد تبذيري. فالمياه تلوّث وتذهب إلى البحر، والتربة الخصبة لم يتم استغلالها بالشكل الأكفأ، والأدمغة تصدّر إلى الخارج بدل أن تستمر في الداخل، والاقتصاد كما ذكرت مبني على قطاعات دون سواها.
وأردف يقول: هذا كله لا يكفي بل يجب أن يكون الاقتصاد اللبناني متنوعًا وبالتالي، يجب أن نعيد النظر به كاقتصاد خدماتي بسيط، لأن لبنان لم يعد في مركز الوسيط بين الغرب المتطور والدول العربية التي كانت متخلفة في الماضي ولم تعد كذلك اليوم. وبالتالي في ظل العولمة، على لبنان أن يجد مكانًا له بأن ينتج السلع ذات المحتوى التكنولوجي الرفيع أو الخدمات ذات المحتوى التكنولوجي المتقدم، وأن يتوقّف عن تصدير الأدمغة وإهمال المياه والتربة الخصبة لأن ذلك جريمة بحق لبنان.


• ما هي الخطوات المتوجّبة على الحكومة لإنقاذ الوضع الاقتصادي الراهن، وهل لديك رؤية واضحة، إنطلاقًا من تجربتك في وزارة المال سابقًا؟
- لا أتصور أن أصحاب الشركات الكبرى في لبنان مستعدّون لدفع متوجباتهم الضريبية، إذ أن هناك مجموعات لديها قوة سياسية فاعلة في البلد، ولا تدفع الضرائب بشكل صحيح، كما أن التشريع الضرائبي اللبناني تشوبه ثغرات قانونية كبيرة جدًا، تتيح لبعض الفعاليات التهرّب من دفع الضرائب بشكل قانوني (على سبيل المثال، في العقارات هناك ضريبة التسجيل)، كذلك فإن السرية المصرفية المطبقة في لبنان تساعد في التهرّب من الضرائب، وأنا أرى أنه طالما أن ثورة الوعي الاقتصادي لم تحصل في لبنان، فلن يتغير أي شيء.
وانطلاقًا من تجربتي كوزير للمال، أرى أن قضية مكافحة الفساد ضرورية، لكنها لسوء الحظ صعبة جدًا في لبنان، لأن من يرفع هذا الشعار يصطدم بأنواع مختلفة من الردع.


• إلى أي مدى تراجع تدفق الرساميل العربية والأجنبية إلى لبنان في الآونة الأخيرة؟
- أضع هذا الكلام في خانة التهويل الكبير الذي بدأ منذ بداية الإعمار، إذ يتخوّف اللبناني من احتمال عدم تحويل أموال الخليج إلى لبنان، إنه نوع من اعتماد بلد ما على استمرار تدفّق سيل من الأموال من الخارج، وهذا ما يقتل التنمية الاقتصادية، لأنه يحول دون الاتكال على القدرات الذاتية، وليس لذلك أي معنى اقتصادي...

 

دور القطاع المصرفي
• هل للقطاع المصرفي دور أساسي في اتخاذ تدابير لإنعاش الاقتصاد الوطني، والحدّ من تراجعه؟
- دور المصارف في نهاية المطاف هو دور تابع، ولا يطلب منها دور مغاير في التنمية كما حصل في الدول الأخرى، التي دخلت في أنماط تنموية متسارعة، بحيث تملكت التكنولوجيا، لأن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد مقيّد.
ففي ظل وجود عقلية اقتصادية جامدة ومتحجرة نرى أن وظيفة لبنان الاقتصادية مقتصرة على عمليات وساطة مالية وعقارية وصفقات وفنادق ومطاعم فخمة، من دون النظر إلى القدرات الإنتاجية الهائلة التي يمكن أن تكون موجودة في لبنان، وأهمها، قدرات بشرية هائلة يجري تصديرها إلى الخارج، تربة خصبة، فائض مياه، ديناميكية الشعب اللبناني، وبفضلها فإنه من الممكن جدًا أن يتطور لبنان ليكون مثل سنغافورة أو كوريا الجنوبية وإيرلندا و جزيرة مالطا. ولسوء الحظ، لدينا إيديولوجيا مسيطرة على عقول 90 في المئة من اقتصاديي البلد الذين يحملون تراث وفكر مدرسة أغفلت الرؤية الشاملة لإمكانات الاقتصاد اللبناني الذي لا يصلح برأيها إلا للخدمات، وإن أي توسّع في الزراعة والصناعة لا فائدة له بتاتًا، فلبنان وفق تبريرهم، لا يستطيع أن ينافس الدول الصناعية الكبرى، سواء كانت لديها منتجات زراعية أو استهلاكية. هذا بالإضافة إلى الكلام على الإصلاحات الاقتصادية بمنظور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، وهو كلام سطحي للغاية لا يعالج المشاكل الحقيقية للبنان. هناك جريمة اقتصادية كبرى ترتكب بحق لبنان، نظرا الى إهمال قدراته الذاتية المميزة.


• ماذا يقول الوزير جورج قرم حول النمط التنموي اللبناني؟
- تشير كل الدراسات الأكاديمية الجدِّية، إلى أنَّ هذا النمط التنموي الذي اعتمد بشكل حصري على قطاع خدمات التجارة والوساطة وبعض الخدمات المالية ذات القيمة المضافة المتدنية، لم يؤمِّن رفاهية الشعب اللبناني وفرص العمل الكافية، كما لم يؤمِّن التطور المتكافئ بين المناطق اللبنانية المختلفة.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة خلال العهد الشهابي لإرساء قواعد اقتصادية أكثر متانة وتطوير البنى المؤسساتية الاقتصادية والنقدية والاجتماعية والتربوية، فإنَّ النموذج التنموي الضيِّق المعمول به بقي مهيمنًا، وازداد قوة منذ التسعينيات من القرن الماضي في ظل سياسات إعادة الإعمار.
لذلك بقيت القدرات الإنتاجية اللبنانية مكبوتة وغير مستغلّة، ما سبَّب نزفًا خطيرًا من الكفاءات البشرية إلى خارج لبنان، وأدى إلى تراكم مديونية هائلة تشمل القطاع العام والقطاع الخاص على السواء، في ظل انتفاخ خطيرللقطاع العقاري والمالي في بيروت وجبل لبنان، على حساب المناطق الأخرى والقطاعات الإنتاجية، وكذلك في ظل تركُّز الثروة العقارية في أيدي بعض المقاولين من الأثرياءاللبنانيين والعرب.
وهذا ما يفسِّر إلى حد بعيد، ظاهرة تراكم المديونية الهائلة للدولة، والتي كانت أحد المصادرالرئيسة، لإثراء البعض على حساب سلامة الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية، وقد أصبح لبنان أسير هذه المديونية، ومتَّكلاً أكثر فأكثرعلى مصادر تمويل خارجية.
وبالتالي فمن مقوِّمات البرنامج الإصلاحي التركيز على الشؤون المالية والنقدية، وكذلك على حلّ مشكلة الديْن العام، حيث بات من الضروري إدخال نظام تسقيف لخدمة الديْن العام، التي يجب أن لا تتعدَّى 35 في المئة من إيرادات الدولة، وتشجيع المصارف من خلال تنويع نشاطاتها داخل لبنان وخارجه، لتخفيف اتكالها على الاكتتاب والمتاجرة بسندات الخزينة أو اليوروبوند والمتاجرة بها لتحقيق أرباحها.
أما بالنسبة إلى النظام النقدي، فيجب إصلاحه بشكل تدريجي، بحيث نتخلَّص من الوضع الشاذ الذي نحن فيه. وأوضح قائلاً: نحن نستعمل، بشكل غير متكافىء، العملة الوطنية والدولار الأميركي في التعاملات الداخلية، وقد أصبحت المصارف اللبنانية هي التي تمدّ المصرف المركزي بالسيولة بالدولار من أجل الحفاظ على الاحتياطات من العملة الأجنبية. وبالتالي، فإن حجم هذه الإحتياطات لا يعكس الوضع المالي والنقدي الصحيح.
وهذا الإصلاح النقدي لا يمكن أن يتمّ بنجاح، إلا في ظل ثورة إنتاجية شاملة في البلاد، بحيث يُخفّض إلى درجة كبيرة العجز الهائل في الميزان التجاري الذي أصبحنا نعانيه بشكل لا مثيل له في تاريخ لبنان الاقتصادي، ما يهدِّد باستمرار سلامة الوضع النقدي وإمكان تأمين انتظام دفع الجزء المحرر بالدولار الأميركي من خدمة الدين العام (50 في المئة).
وختم الوزير قرم حديثه بالإشارة إلى أنّ: منطق المالية العامة السائد منذ تسعينيات القرن الماضي أنتج فلتانًا ماليًا، من الصعب تجاوزه بسياسات محدودة.
المطلوب سياسة مالية مختلفة جذريًا، تقوم بها مختلف وزارات الدولة لتنشيط الاقتصاد اللبناني والدورة الإنتاجية في لبنان، وبالتالي ما دمنا لم نشرع بإجراء إصلاحات داخل النظام الضريبي (باستثناء بعض الإجراءات على الضريبة المضافة)، لن نشعر بالإصلاح الحقيقي...
ويجب درس سلسة الرتب والرواتب، بشكل علمي، إنطلاقًا من حاجات جميع فئات الموظفين واختصاصاتهم، كما يجب الفصل نهائيًا بين مسألتي غلاء المعيشة وبين زيادات الرواتب الأساسية.

سلامة متخوّف من تداعيات السلسلة
لم يبحث مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 7-11-2012 في لائحة الموارد المالية لسلسلة الرتب والرواتب، لكنه استمع إلى عرض معمّق قدمه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن الوضع النقدي، وتأثير سلسلة الرتب والرواتب على الوضع الاقتصادي، مقترحًا تقسيط السلسلة على خمس سنوات وتأمين الموارد التي لا تضرّ بالحركة الإقتصادية وبالحقوق المكتسبة للموظفين في القطاع العام.  وقد أبدى سلامة سلسلة ملاحظات على أعباء السلسلة وتخوّف من تداعياتها على المالية العامة وعلى التصنيف الخارجي للبنان، ولا سيما بالنسبة إلى حاجاته الإستدانية من الخارج...

 

ما هي قيمة السلسلة مقسّطة على خمس سنوات?
تتمسك الحكومة ورئيسها بنقطة تقسيط سلسلة الرتب والرواتب لمدة خمس سنوات، أي حتى العام 2017. وتظهر المؤشرات أن الكلفة الإجمالية للسلسلة بين العام 2012 والعام 2017 تتخطى 8614 مليار ليرة بواقع يراوح بين 675.9 مليارات ليرة للعام 2012، وحوالى 1025 مليار ليرة للعام 2013، مع وتيرة تصاعدية وصولاً إلى حوالى 2285,8 مليار ليرة العام 2016، وحوالى 1898 مليارًا العام 2017.