رحلة في الإنسان

الوصول الى قمة النجاح عبر مسالك الخوف من الفشل
إعداد: غريس فرح

الثمن قد يكون باهظاً...

 

من المعترف به أن النجاح يحققه عموماً أصحاب الشخصية القوية المنفتحة، القادرون على اقتحام المصاعب وتحدي المتغيرات. إلا أنه يصعب التصديق أن القلقين من ذوي المشاعر السلبية، وفي مقدمها الخوف، يصلون الى النجاح بنسب مرتفعة. ولكن أي نجاح يحقق هؤلاء، والى أي حد بإمكانهم الاحتفاظ به في ظل الخوف والأحاسيس المضطربة.

لإلقاء الضوء على هذا الواقع الذي يعيشه الكثيرون، لا بد من التطرّق الى آخر ما توصلت إليه الدراسات في هذا المجال.

 

القوة والخوف

أكدت الدراسات النفسية التي تناولت مفهوم النجاح والعوامل الداخلة في تحقيقه، على أن الناجحين نوعان: نوع قوي يحدد أهدافه ويسعى إليها بخطى ثابتة ومدروسة، ونوع يجهد للوصول الى القمة لأنه يخاف من أن يُقال أنه فاشل.

هذا النوع من الناس المعنيين بالدراسة، يحققون عموماً نجاحات سلبية مبنية على الحقد والتحدي والخوف من الانتقاد، وهي أحاسيس تتسبب بها في معظم الأحيان عوامل مختلفة أهمها، رواسب المعاناة من بطالة الآباء، إضافة الى الخجل المتأصل نتيجة الرسوب في الدراسة خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة.

 

كيف تنعكس هذه الرواسب؟

الأبـناء الذين يعيـشون في أجـواء عائلـية قوامها الفقر والبطالة، ينشأون وبهم توق وجشع لا يهدأ الى المال والشهرة والنجاح، وفي الوقت نفسه يشعرون بخوف دائم من عدم إمكانية تحقيق ما يصبون إليه لعدم ثقتهم بأنفسهم. من هنا قد يميل بعضهم الى الكسل والخنوع الناجم عن الاعتراف بالنقص، بينما يميل البعض الآخر الى سلوك التحدي طريقاً للانتقام وإثبات الذات.

على صعيد آخر، فإن الرسوب في الدراسة، والتعرض لانتقاد الأهل والمدرسين والزملاء، إضافة الى العجز عن متابعة التحصيل العلمي العالي بسبب العجز المادي، قد يترك في النفوس آثاراً تنعكس سلباً على السلوك المستقبلي. من هنا ميل البعض الى الإدمان المرضي على العمل من أجل الوصول الى النجاح الحلم. وهو نجاح غالباً ما يكون محفوفاً بالمخاطر. والدليل تعرّض نسبة كبيرة من مدمني العمل، وخصوصاً المنتمين الى هذه الفئة بالذات، الى عوارض الإكتئاب السريري الحاد. فما هي أسباب اكتئاب هؤلاء؟

 

طغيان رواسب الذكريات

عندما يصل الخائفون من الفشل الى مناصب إدارية هامة، وذلك كنتيجة لكفاحهم الهوسي، ينتابهم رعب مفاجئ من إمكانية فقدان مراكزهم بسبب طغيان رواسب الذكريات اللاواعية، وهذا بالطبع يعيد الى أذهانهم أطياف المعاناة العائلية والمدرسية، ويزيد بالتالي خوفهم من إمكانية انكشاف مكامن ضعفهم، فينكبون على العمل بطريقة قد توصلهم الى حافة الإنهيار.

 

إهمال المصارحة الذاتية

اللافت أن الإنكباب الهوسي على العمل، يتسبب عموماً بمعاناة صامتة تسلخ أصحابها عن واقعهم وتمنعهم من مصارحة ذواتهم. وهي حالة توصل الى المزيد من تحدي الذات والعزلة وقمع المشاعر بسبب الخوف من التعرض للانتقاد.

هنا يلفت الاختصاصيون الى أن السعي المتواصل الى النجاح والمناصب العالية وبالتالي تكديس الأموال، يمنع المعنيين وخصوصاً الذكور، من اللقاء مع ذواتهم والاعتراف ضمناً بمشاعرهم المضطربة. وهذا بالطبع يخلق هوة سحيقة بين ما هم عليه، وبين ما يسعون الى تحقيقه.

الى ذلك، يعتقد الساعون الى النجاح عموماً أن الوصول الى القمة يحقق السعادة. لذا فهم سرعان ما يشعرون بخيبة الأمل عندما يكتشفون أن المناصب العالية قد تتحوّل الى حواجز تمنعهم من الانعتاق من قيود الكبت والأقنعة المزيفة.

فأصحاب المناصب في المؤسسات العامة والخاصة يضطرون رغماً عنهم الى تقمص شخصيات مزيفة قد تتناقض أحياناً مع طبيعتهم. فهم مضطرون مثلاً الى التمسك بقناع الحزم والشدة مع الإبقاء على مساحة تفصل بينهم وبين الموظفين والمساعدين، وذلك حفاظاً على هيبتهم ووقارهم. وهذا الواقع يبقيهم في عزلة عن الآخرين ويجعلهم مع الوقت يعتادون على نمط حياتهم الجاف، فيهملون مشاعرهم الى حد يصبح من الصعب عليهم البوح بها حتى الى أقرب الناس إليهم. وهذا بالطبع قد يتسبب بعزلتهم وبالتالي اكتئابهم.

 

فقدان الحوافز

من المعروف أن الكيميائيات المولدة للمشاعر الإيجابية، ترتفع في أدمغتنا أثناء سعينا لتحقيق هدف ما. من هنا شعور الفرح والاندفاع والحماس الذي يرافق الخطوات الموصلة الى النجاح في العمل واحتلال المراكز المرموقة.

إلا أنه من الملاحظ أن هذه الأحاسيس سرعان ما تخبو بعد مدة من تحقيق الهدف بفعل انخفاض هذه الكيميائيات وعودتها الى المستوى الطبيعي. من هنا يتخلى البعض عن الحماس الذي اختبروه خلال رحلة العبور من القاعدة الى القمة، وهذا بالطبع يشعرهم بالوصول الى نهاية المطاف، ويعيد الى ذاكرتهم مرارة الخوف من الفشل مجدداً. ومن أجل الاحتفاظ بمراكزهم، ينكب هؤلاء على العمل بأشكال تبعدهم عن أفراد العائلة والأصدقاء، وتحولهم مع الوقت الى عبيد لمهنتهم التي يخافون فقدانها، الأمر الذي يخضعهم لضغوطات تفوق طاقاتهم على التحمّل، ويؤدي الى إصابتم بعوارض الاكتئاب المرضي.

 

الحلول المقترحة

الاختصاصيون الذين أشرفوا على علاج مجموعات من كبار المدراء المصابين بالاكتئاب المرضي، وضعوا جملة ملاحظات توجهوا بها الى المسؤولين المعانين من ضغوطات العمل، إضافة الى الساعين الى النجاح من منطلق الخوف من الفشل، وهذه أهمها:

  • من الخطأ النظر الى الفشل في أداء مهمة ما على أنه ذنب أو جريمة. فجميعنا قد يفشل أحياناً وينجح أحياناً أخرى. فلا داعي إذن لمحاسبة أنفسنا بقسـوة، ولا مبرر لخوفـنا من انتقـاد سـوانا.
  • من الخطأ الفادح تجاهل أحاسيس الضعف التابعة في أعماقنا والتستر عليها بمظاهر القوة المزيفة. فالضعف ليس عيباً، والتعبير العلني عن المعاناة منه قد يحوّله مع الوقت الى مصدر للقوة.
  • التواصل مع الغير وتبادل المشاعر الصادقة يمنحنا القوة على الاستمرار ومواصلة التحدي. من هنا ينصح ببناء علاقات ودية حميمة تمكن المعانين من ضغوطات العمل من البوح بمعاناتهم من أجل التخفيف من انعكاساتها.
  • الاعتراف بأن النجاح لا يوصل دائماً الى السعادة. فهذا قد يجنب المعنيين الوقوع ضحية خيبات الأمل.
  • الاعتياد على العمل من أجل إرضاء الذات لا الغير.
  • تخصيص أوقـات لمزاولـة الرياضة والهوايـات والترفيه عن النفـس. وينصـح المدراء المتزوجون بقضاء أكبر وقت ممكن مع الأولاد ومشاركتهم في اللعب.
  • الاعتراف بالخوف من الفشل وبمشاعر القلق المرافقة له يخفف من سلبية انعكاساتها.
  • عـدم تجاهل الانذارات المسبقة لعـوارض الاكتئاب المرضي والمتمثلة عمومـاً بمشاعـر التـوتر وسرعـة الانفعـال والغضـب، إضافـة الى الميل الى العزلـة ومضاعفـة الجـهد في العـمل.
  • تخصيص أوقات للتأمل واللقاء مع الذات ومراجعة الحسابات، واستشارة الاختصاصيين عند الحاجة.