دراسات وأبحاث

الوضع الإستراتيجي الدولي بعـد 11 أيلول 2001
إعداد: العقيد الركن سورين أبي سمرا
المقدم طلال رحال - الرائد جوزف نقولا

في 11 أيلول 2001, دخلت العلاقات الدولية برمتها في مرحلة جديدة تختلف جذرياً عن كل المراحل التي سبقتها منذ عقود, بل ربما منذ قرون عديدة. فتداعيات الحدث لن تنحصر في مكان وزمان معينين بل قد تطاول النظام العالمي بمجمله, لتعيد تشكيله, على غرار ما حدث في أعقاب الحربين العالميتين, أو إنهيار جدار برلين في تشرين الثاني 1989. ويمكن القول إنه مع إنهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك, إنهارت مسلمات ومفاهيم عديدة في مجال العلوم السياسية يصعب حصرها قبل أن تنتهي “الحرب العالمية” التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على “الإرهاب”. وهي حرب طويلة وصعبة ومعقدة تخاض على جبهات متعددة, إعلامية ومالية وإقتصادية وعسكرية ودبلوماسية, كما أعلن البيت الأبيض.
طيلة حقبة الحرب الباردة, كان المحللون ينظرون الى الأحداث الدولية من زاوية القطبية -­ الثنائية وموقف القوتين العظميين منها, أما اليوم وبعد 11 ايلول, فإن كل الحوادث الدولية المقبلة سوف ينظر إليها من زاوية تداعيات الزلزال الأميركي. فالعالم قبل 11 أيلول 2001 هو غيره بعد هذا التاريخ, هذا على الأقل ما أجمع عليه المراقبون حتى الآن.
ويمكن القول إنه في 11 أيلول 2001 إنتهت الفترة الإنتقالية في النظام الدولي بين الحرب الباردة و”النظام العالمي الجديد”. لكننا ربما دخلنا في فترة إنتقالية جديدة, قد تطول أو تقصر, بحسب تطورات الحرب المفتوحة التي تتميز, هذه المرة, بالغموض الشامل الذي يحيط بنوايا الدولة العظمى التي تشنها, وبالأهداف التي حددتها.
إن التعـاطف العالمي والدعم الدولي الذي تلقته الولايات المتحدة بعـد 11 أيلول فـتح أمامـها سـبلاً أساسية لخـوض المعركـة التي اعلنتها على “الإرهـاب الدولي”. وبالتالي فإن عقبات قانونـية وسياسية ولوجستية وغيرها, زالت من أمامها منذ اللحظة التي اعلـنت فيها قيادتهـا لهذا الصراع الجديد. وقد تشكل حولها, وبسرعة فائـقة, تحالـف دولي كبير يضم قوى ودولاً من مشارب وتلاوين متنوعة ومختلفة. وهذا تغيّر مفصلي أساسي في المشهد الجيوستراتيجي الدولي لم يكن متوفراً قبل 11 أيلول. وبذلك يمكن القول إن تغيراً جذرياً طرأ أيضاً على العلاقات السياسية بين الدول التي تحكم بحركتها تطور النظام العالمي, وهي أساساً القوى العظمى وتحديداً أميركا, الصين وروسيا. ذلك أنه وإن كان الإتحاد الأوروبي أيضاً قـوة عظمى يحـسب لها حساب في الـتنافس العالمي, إلا أن انضـمامه الى الحلـف الأميركي يبـقى أمراً متـوقعاً, على الأقل قـبل نجاحـه في تشـكـيل دفـاع مستـقل أو سياسة خارجية مشتـركة, وهو أمر يبـدو أنه سـيطول إنـتظاره بعـض الشـيء.
كيف كانت الولايات المتحدة وبالتحديد الإدارة الجمهورية الحالية تنظر الى المنافسين الإستراتيجيين, روسيا والصين قبل 11 أيلول؟ وفي أي إتجاه تطورت العلاقة معهما بعد هذا التاريخ؟

العالم كما رأته إدارة “بوش” قبل 11 أيلول 2001: حرب باردة جديدة

لقد عمل أعضاء إدارة بوش الإبن, كلهم تقريباً, لدى الرؤساء الجمهوريين في الربع الأخير من القرن العشرين (فورد وريغان وبوش) فخاضوا غمار الحرب الباردة, ومنهم من شارك في تصفيتها إنطلاقاً من سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989, الى تفكك الإتحاد السوفياتي في صيف 1991. إن هؤلاء “المحاربين القدامى” تعاطوا مع الإتفاقات والمعاهدات الموقعة في فترة الحرب الباردة على أنها باطلة أو عفا عنها الزمن. حتى التوازن الإستراتيجي العالمي القائم على الردع النووي, صار في نظرهم, من مخلفات مرحلة قد انقضت.
طبعاً هذا لا يعني أن أعضاء الإدارة الجديدة النافذين يملكون رؤية واحدة موحدة للسياسة الدولية. يكفي التذكير بأن وزير الخارجية كولن باول كان قد عارض عملية “درع الصحراء” عندما كان رئيساً لأركان حرب الخليج في عهد بوش الأب, الأمر الذي تسبب بخلافات حادة مع وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني الذي صار اليوم نائباً للرئيس بوش الإبن.
وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مقرب من تشيني وقد عيّن نائباً له من المتشددين هو بول دولفوفيتز الذي سبق ونشر عام 1994 تقريراً عرف باسمه, يعتبر أن روسيا, رغم كل ما تعانيه من ضعف وتفكك ما تزال تشكل تهديداً محتملاً للولايات المتحدة, لذلك يجب العمل على محاصرتها بدول تنتمي الى الحلف الأطلسي, وصولاً الى فرط عقد مجموعة الدول المستقلة والفدرالية الروسية, كي تصبح روسيا مجرد دولة صغيرة عادية. والتقرير نفسه يدعو الى الإستمرار في محاصرة وضرب العراق وصولاً الى قلب نظامه واستبداله بنظام حليف.
هؤلاء “المحاربون القدامى” أو فرسان الحرب الباردة الجديدة يقدمون أنفسهم على أنهم أبطال الزمن الجديد مع بداية هذا القرن الجديد, وفي نظرهم لم يعد الإستقرار الدولي والأمن العالمي قائمين بالضرورة على توازن معين موروث من فترة الحرب الباردة, ولكنه يجب أن يقوم على تفوق الولايات المتحدة الأميركية المطلق والدائم وإعطاء الأولوية للمصالح الحيوية الأميركية وهيمنة واشنطن على النظام الدولي.

  • الموقف من روسيا: تهديد مضمر:

بعد محاولات الرئيس كلينتون محاصرة روسيا عبر توسيع حلف الأطلسي الى أوروبا الشرقية, واحتوائها عبر المساعدات المالية وصولاً الى التقارب معها على سبيل التوصل الى شراكة استراتيجية بين القوي والضعيف, أتت تصريحات الإدارة الأميركية الحالية عن “التهديد الروسي” لتعيد أجواء الحرب الباردة الى سابق عهدها.
ولكن ما هي الذرائع التي تقدمت بها واشنطن لتبرير إتخاذ مواقف متشددة حيال روسيا؟
- ­ روسيا تتقرب من إيران, وقد وقعت معها شراكة إستراتيجية تتضمن مبيعات أسلحة ومواد وأجهزة تستخدم في محطات الطاقة الذرية. ويتذمر الأميركيون من تقديم روسيا المساعدات لإيران في مجال بناء المحطات الكهروذرية في “بوشهر” وبيع أسلحة تقليدية متطورة لطهران.
هذا رغم أن المحطة المذكورة تبنى تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما الأسلحة فتقدم ضمن الحدود التي لا تمنعها القواعد الدولية. والتعاون الروسي ­ الإيراني, في مختلف المجالات, يساعد على إستقرار الوضع في طاجكستان, وكان يشكل عقبة في طريق النشاط التوسعي لحركة طالبان الأفغانية.
- ­ في عهد كلينتون تمكن وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف الذي صار رئيساً للوزراء من إقناع مادلين أولبرايت بأن سياسة تحويل إيران الى بلاد منبوذة هي سياسة غير بناءة, وأخذت واشنطن ترسل إشارات إيجابية الى الإصلاحيين بزعامة الرئيس خاتمي. لكن يبدو أن عدم إرتياح الإدارة الأميركية الجديدة الى سياسة روسيا يدل على أنها قد تتراجع عن الخط الذي رسمته تلك الإشارة.
- ­ روسيا تتبع نهج تطوير العلاقات مع الإتحاد الأوروبي والصين والهند وبلدان أخرى. إن الأميركيين يعتبرون ذلك

تعارض موسكو خطط واشنطن لإقامة نظام الدروع المضادة للصواريخ, كذلك فإن موقف روسيا من العراق يثير حفيظة واشنطن.

“دسائس معادية لأميركا”, ومما يثيرهم خصوصاً هو أن روسيا تعيد علاقاتها مع فييتنام وكوبا وكوريا الشمالية وهي مستعدة لتطويرها.
- ­ تعارض موسكو خطط واشنطن لإقامة نظام الدروع المضادة للصواريخ, كذلك فإن موقف روسيا من العراق يثير حفيظة واشنطن.
على خلفية هذه الإعتبارات وغيرها وعلى أساس إستراتيجي قامت نظرة الإدارة الجمهورية الأميركية الى روسيا. ومن الملفت أنه بعد تولي هذه الإدارة السلطة بأسابيع معدودة, نشبت أزمة ديبلوماسية كبرى بين البلدين تشبه الأزمات التي ذاع صيتها خلال الحرب الباردة. وتفصيل ذلك أن المخابرات الأميركية اكتشفت أن رجل المكتب الفدرالي الأميركي روبرت هانشس يتجسس لصالح روسيا. رداً على ذلك قرر الرئيس بوش بنفسه إبعاد خمسين ديبلوماسياً روسياً, وهو قرار ما لبثت أن ردت عليه موسكو بالمثل تماماً. لقد جاء القرار الأميركي مفرطاً الى حد كبير إذا كان يكفي مكالمة هاتفية على الخط الأحمر بين العاصمتين أو استدعاء السفير الروسي في واشنطن للإحتجاج أمامه. ولكن يبدو أن الشكل أهم من المضمون بالنسبة لإدارة لا تخشى عودة الحرب الباردة, بل ربما تسعى إليها.

  •  العلاقة مع الصين: مصالح وهواجس:

تنقسم الطبقة السياسية الحاكمة في واشنطن بين موقفين حيال الصين: الأول يرى في هذه الأمة العظيمة ذات الجذور الحضارية صديقاً يفيد الولايات المتحدة, إذا أحسنت التعامل معها, فدولة المليار و250 مليون مستهلك هي سوق واعد في كل القطاعات. والتيار الثاني يرى في الصين تهديداً على المدى المتوسط للولايات المتحدة من جميع النواحي الإستراتيجية والعسكرية وحتى الإقتصادية. والفائض التجاري الصيني حيال الولايات المتحدة يربو على عشرات مليارات الدولارات سنوياً كما يسبب إمتعاض الأميركيين. والصين هي البلد الوحيد في العالم, بعد روسيا, الذي يملك صواريخ بالستية قادرة على إصابة الأراضي الأميركية. وهي دولة يحكمها حزب شيوعي يناصب الليبرالية السياسية الأميركية العداء ولا يعترف بما تؤمن به من حريات وحقوق إنسان.
هذا الإنقسام لا علاقة له بالإنقسام الحزبي القائم في أميركا بين جمهوريين وديموقراطيين. فالرئيس بوش الإبن ينتمي الى ما يبدو الى التيار الثاني الذي ينظر الى الصين كتهديد محتمل, في وقت ينتمي فيه جمهوريون كثيرون الى التيار الأول, أبرزهم هنري كيسنجر الذي يعود إليه الفضل في كسر جليد القطيعة التي قامت بين الصين الشعبية, غداة ولادتها عام 1949, والغرب عموماً. ديبلوماسية كيسنجر السرية قادت الى زيارة نيكسون الشهيرة الى الصين وعودة العلاقات الغربية ­ الصينية الى طبيعتها في السبعينات, وهي عودة غيّرت المشهد الجيوستراتيجي الدولي برمته. ومنذ ذلك الوقت درجت العادة على أن يقوم كل رئيس أميركي بزيارة الى الصين خلال ولايته الأولى. فقط كلينتون شذ عن هذه القاعدة احتجاجاً على مجزرة ساحة “يتانان ­ مان” الشهيرة عام 1989, لكنه سرعان ما عاد للتقرب من الصين والعمل على حل معظم المسائل الشائكة وصولاً الى “شراكة استراتيجية” أو “التزام بناء” إصطدم بانتقادات الجمهوريين الحادة.
الجمهوريون المعارضون لكلينتون في الكونغرس راحوا ينددون بعدم احترام القيادة الصينية لحقوق الإنسان والحريات الفردية وخرقها لإتفاقات الملكية الفكرية, وتشجيعها للتجسس العلمي والصناعي على الولايات المتحدة وتهديدها لتايوان, مطالبين الرئيس كلينتون بالتشدد حيالها. هذه الإتهامات عادت للبروز مجدداً في الأسابيع الأولى لوصول جورج بوش الإبن الى البيت الأبيض, الأمر الذي بدا وكأنه إعادة نظر كاملة وجذرية بكل الإنجازات التي حققتها إدارة كلينتون في علاقاتها مع الصين.
وقد استفزت الإدارة الأميركية الحالية الصين عندما اتخذت قراراً يقضي ببيع تايوان أسلحة متطورة, الأمر الذي ردت عليه الخارجية الصينية بالقول أنه قرار يدس السم في العلاقات بين البلدين, ثم جاء قرار واشنطن باستقبال الرئيس التايواني في البيت الأبيض في ايار 2001 ليزيد الأمور تعقيداً, وبدت الأمور وكأن إدارة بوش تريد أن تقطع السياسة التي اتبعتها الإدارة الديموقراطية السابقة لصالح نهج جديد يسعى لتوكيد الهيمنة الأميركية على النظام الدولي, ولانتزاع اعتراف وقبول الدول الكبرى والصغرى على السواء بهذه الهيمنة والتعامل معها كأمر واقع يستحيل تغييره.

بعد 11 أيلول: النهاية “المؤقتة” للحرب الباردة الجديدة

ما كادت أخبار تفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001 تنتشر في العالم, وما كاد الرئيس بوش يعلن عن عزمه على شن “حرب من نمط جديد” على الإرهاب العالمي إنطلاقاً من أفغانستان, حتى راحت العواصم العالمية تتسابق على إعلان التأييد والتضامن. وكان بوش حاسماً عندما أعلن عن انقسام العالم الى “من معنا ومن مع الإرهاب”, وكأنه يعلن أن بلاده تقف على رأس نظام عالمي جديد ينبغي على الآخرين إما الإنخراط فيه أو البقاء في هامشه, مع ما يتطلب هذا الموقف من مجازفة بمصالحهم المستقبلية. وكان على القوتين العظميين, الصين وروسيا, تحديد موقفهما, أي إما الإلتحاق بصفوف الأعداء المعزولين الذين سوف يتم ضرب مصالحهم عاجلاً أم آجلاً, وإما الإنضمام الى النظام الجديد حتى ولو كان ذلك في المؤخرة. وقد فضلت موسكو وبكين الخيار الثاني الذي يضمن لهما مكاسب لا يستهان بها. وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يذكر بوتين في أول كلمة ألقاها فور وقوع التفجيرات ضد نيويورك وواشنطن تعبير”العالم المتحضر”, وأن موسكو تنضم في تعازيها للولايات المتحدة الى هذا العالم المتحضر. وبذلك فكأن بوتين يسلم بسلطة السادة الجدد وبموقع روسيا في الظل. كذلك كان رد فعل الصين التي نددت, على لسان وزير خارجيتها في لقائه مع كولن باول, بالعمل الإرهابي معلنة أنه “في الحرب ضد الإرهاب يقف الشعب

قررت اميركا بيع تايوان اسلحة متطورة فردت الصين بالقول: انه قرار يدسّ السم في العلاقات بين البلدين

الصيني الى جانب الشعب الأميركي”.
ويمكن التأكيد بأن حوادث 11 أيلول فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن من جهة وباقي القوى العظمى وخصوصاً موسكو وبكين من الجهة المقابلة, فابتعد بذلك شبح الحرب الباردة, لكن حتى هذه العلاقة الجديدة لم تكن بمنأى عن حسابات المصالح الإستراتيجية والإقتصادية والتي قد تعود الى التضارب بعد أن ينقشع الغبار الذي يغطي الوضع العالمي برمته خلال الحملة الأميركية على “الإرهاب العالمي”.

  •  روسيا وحساب الخسائر والمكاسب:

لقد وضعت تفجيرات 11 أيلول أصحاب القرار في الكرملين أمام مستجدات دولية وحقائق خطيرة ينبغي التعامل معها بدقة متناهية. فعلى مقربة من الحدود الروسية توجد أضخم قاعدة أميركية أطلسية (في البلقان تحديداً), وفي منطقة الخليج العربي ترابط قوات أميركية وأطلسية ضخمة. هذا بالإضافة الى القاعدة الجديدة التي من المحتمل أن تنتهي بها حرب أفغانستان على حدود آسيا الوسطى, المنطقة التي اعتبرتها روسيا عبر التاريخ حدوداً متقدمة لها, ولديها فيها قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية مثل, فرقة الحدود الروسية في طاجكستان والمطار الفضائي بايكونور في كازخستان والممر الجوي الحيوي في اوزبكستان الذي يربط بين روسيا وقواتها في طاجكستان وغيرها.
وقد اعتقدت المؤسسة العسكرية الروسية, في قسم من تحليلاتها, بأن محاولة تفجير البيت الأبيض الأميركي في 11 أيلول, قد تنطوي على احتمال استعداد واشنطن لشن حرب واسعة النطاق في العالم قد تصل الى حد اندلاع حرب عالمية ثالثة. وذكر عدد من الجنرالات الروس أن الحرب العالمية تبدأ دائماً بهكذا سيناريوهات مثل حريق الرايخ الألماني.
وقد اصدر الرئيس بوش تحذيراً واضحاً للعالم كله تحت عنوان: “من ليس معنا فهو مع الإرهاب” وقد كان ذلك بمثابة تحذير لكل الدول الكبرى مثل روسيا والصين وأوروبا الغربية, بحتمية التسليم بشروط أميركا والانضمام للمسيرة التي تقودها ضد الإرهاب. كما فُهم من تصريحات أطلقها مسؤولون أميركيون بعد التفجيرات بأن بن لادن اختفى في الشيشان, بأنها تهديد أميركي صريح لروسيا.
لقد اقتنع قادة الكرملين بعزم واشنطن على المضي في حربها سواءً رفضوا أم وافقوا, وبقي أمامهم خيار الإلتحاق أو البقاء على الحياد, لأن مواجهة أميركا قد تجرهم الى ما لا تحمد عقباه. وقد أجرى الرئيس بوتين حساباً دقيقاً للخسائر والأرباح المتوقعة, وأبدى في حديث على شاشة التلفزيون الروسي إستعداد بلاده للتعاون مع واشنطن في مجال الإستخبارات حول الإرهاب, ومنح المجال الجوي الروسي لتحليق طائرات المساعدة الإنسانية والمساهمة الروسية في عمليات الإنقاذ إذا طال الأمر. فقد وازن بوتين منذ البداية حسابات الربح والخسارة, وقرر الإنضمام الى الحملة الأميركية لأنه يريد أن يصفي حسابات روسيا الخاصة مع حركة طالبان, وفي الوقت نفسه يمكن له الإنتهاء من الكابوس الشيشاني. وعلى صعيد آخر فإن إعلان بوتين الموافقة على تعاون الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى ومنها ثلاثة محاذية لأفغانستان (أوزبكستان, طاجكستان وتركمنستان) إنما يؤكد نفوذ بلاده على تلك الجمهوريات التي كانت تود ولا زالت, الخروج على الوصاية الروسية.
تحققت حسابات بوتين الى حد كبير بالنسبة لطالبان والشيشان وآسيا الوسطى, لكنه كان يسعى الى تحقيق مغانم أخرى: إعادة جدولة ديون روسيا, والإنضمام الى المنظمة العالمية للتجارة, بمساعدة أميركا باعتبار أن روسيا حليف لا يمكن الإستغناء عنه في هذه المنطقة التي وجدت نفسها في الخط الأول في الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب.

  •  الصين: إمبراطورية الوسط بالفعل:

رد الفعل الصيني على أحداث 11 أيلول, فأجأ الأميركيين بسرعته وعمقه, حيث نددت الصين بالعمل الإجرامي الإرهابي وأعلنت تضامنها مع أميركا ولم يتراجع موقفها حتى خلال عمليات القصف الأميركي على أفغانستان. وقد تلقت أميركا مساعدات في مجالات الإستخبارات من الصين. وقد قام الصينيون على غرار الروس بعملية حساب دقيقة للخسائر والأرباح المحتملة قبل أن يقرروا الوقوف الى جانب الولايات المتحدة. فعلى المستوى الداخلي, أمل الصينيون في الحصول على شرعية دولية لسياساتهم القمعية ضد القوميين في مقاطعة “كنسجيانغ” الغربية وقد حصلوا عليها, إذ أن أميركا لم تندد بإعدام بعض القوميين ولم تتحدث ولو عرضياً عن توقيف 23 ألف “مشبوه” من القوميين والإسلاميين في أقل من شهر بعد 11 أيلول.
على المستوى الدولي, كان العام 2001 حسن الطالع بالنسبة للصين رغم تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب عودة “فرسان الحرب الباردة” الى البيت الأبيض. ففي هذا العام تمت الموافقة على قيام الألعاب الأولمبية للعام 2008 في بكين, ونجحت الصين بالدخول في منظمة التجارة العالمية.
بعد أحداث 11 أيلول 2001 صارت الصين لاعباً دولياً فاعلاً يحسب له حساب ليس فقط لحجمها الإقتصادي والعسكري, ولكن أيضاً لعلاقاتها السياسية المؤثرة مع دول أساسية في الأزمة مثل باكستان وإيران وروسيا وغيرها.
وهكذا كانت التطورات الدولية جاهزة لتظهير مشهد كان مستحيلاً لو عدنا بالتاريخ الى ما قبل 11 أيلول 2001:
­ الرئيس الأميركي يشكر الصين الشيوعية لتعاونها في مجال الإستخبارات, ورئيس صيني يؤكد عملاً عسكرياً تقوم به “الأمبريالية” على تخوم الصين. هذا ما حصل في قمة “الآبك” في شنغهاي في 20 و21 تشرين الأول 2001.
­ وجود القوات العسكرية الأميركية في آسيا الوسطى, منطقة النفوذ الروسي ثم الصيني الى حد كبير, رمى بثقله على الحركة الديبلوماسية الروسية والصينية في قمة منتدى التعاون الإقتصادي لآسيا ­ الباسفيك (الآبك).

بعد أحداث 11 أيلولصارت الصين لاعباً دولياً فاعلاً على جميع الصعد الاقتصادية والعسكرية والسياسية

­في شنغهاي قرر الزعماء الثلاثة بوش وبوتين وزيمين تخليص آسيا الوسطى من الإرهابيين, عبر التعاون في مجال تبادل المعلومات السرية والحساسة جداً, وهذا الأمر كان غير ممكن قبل 11 أيلول.
ورغم كل ذلك تبقى خلافات أميركا والصين كثيرة منذ أن وصف الرئيس بوش الإبن الصين بـ”الخصم الإستراتيجي”: مستقبل تايوان ومبيعات السلاح الأميركي الى هذه الجزيرة, إحترام حقوق الإنسان في الصين, مشروع الدروع الواقية من الصواريخ الذي تصر واشنطن على المضي فيه رغم كل شيء.
لكن تفجيرات 11 أيلول الماضي ازالت فكرة الحرب الباردة بين الدولتين الكبيرتين؛ فالديبلوماسية الصينية, بعد أن شاهدت هذا الحشد الدولي الواسع خلف الأميركيين, التحقت بالركب فأوقفت النقاش الدائر في أميركا حول “التهديد الصيني”. ولكن الديبلوماسية الصينية, المعروفة بصبرها وطول أناتها وخلفيتها الثقافية الكونفوشيوسية العميقة, تعتقد بأن هذا النزاع المفتوح منذ الحادي عشر من أيلول 2001 لا بد أن يضعف الولايات المتحدة على المدى الطويل.

التحالف الغريب

إن صورة المشهد الجيوستراتيجي الدولي من زاوية العلاقات بين الدول الكبرى المؤثرة, تبدو اليوم وكأن تحالفاً غريباً يجمع بين خصومها الكبار الأساسيين. فالتحالف الجديد ليس سوى طبعة جديدة عن ممارسة قديمة قدم التاريخ: الواقعية السياسية, وهو لا يخدم سوى أهداف على المدى القصير. أميركا تريد حياد الصين وروسيا ولكنها تعرف أنها لن تحصل عليه من دون مقابل. والمقابل هو سكوتها إزاء قضايا زيمين الداخلية, وقضايا تتعلق بتايوان ومشروع الدروع الواقية والإعتراف بنفوذ صيني واسع في آسيا, كذلك سكوت واشنطن تجاه قضايا بوتين في ما يتعلق بحربه الشيشانية ونفوذه في آسيا الوسطى وأفغانستان نفسها.
في هذه اللحظة بالذات, يمكن لهذه القوى العظمى أن تنتهز الفرصة لإحداث قطيعة نهائية مع الحرب الباردة, وصولاً الى تقارب قد يعود الى توزيع متفق عليه للحصص ومربعات النفوذ ويؤسس لمشهد جيوستراتيجي دولي جديد. لكن الإحتمال الأرجح هو إستغلال الولايات المتحدة لتفوقها الحاسم من أجل زيادة رصيدها من المناطق التي تسيطر عليها في العالم. وفي هذا الصدد فإن منطقة آسيا الوسطى المتاخمة لبحر قزوين هي منطقة واعدة من الناحيتين الجيوبوليتيكية والإقتصادية, فهي غنية بالمواد الأولية وبالنفط والغاز, وهي واقعة على نقطة تقاطع نفوذ دول كبرى ومهمة مثل روسيا والصين والهند وإيران وباكستان. وكلها تقريباً تملك السلاح النووي وتستعد لصياغة أحلاف جديدة مثلثة أو مربعة الأطراف تشكل تهديداً, على المدى المتوسط, للنفوذ الأميركي الساعي للإنتشار في العالم كله. وجود القوات الأميركية في هذه المنطقة تحت غطاء أطلسي أو أممي, يعيق قيام مثل هذه التحالفات ويزيد من فرص قيام تحالفات في اتجاه معاكس ويفتح السبل أمام دخول الشركات الأميركية العملاقة حاملة مشاعل العولمة وثقافة التجارة والإستهلاك.