رحلة في الإنسان

الى أيّ حدّ يسهم التواصل الاجتماعي في تطوير العقل البشري؟
إعداد: غريس فرح

 

الإنسان كائن إجتماعي بالفطرة، ما يعني أنه يدين بوجوده وتطوّره الى الحياة الجماعية التي عاشها منذ القدم، واستقى من تفاعله مع ضغوطاتها مقوّمات تطوّره عبر العصور. ومعروف إن القصاص الأكبر للإنسان هو الوحدة، فهي تمنعه من رؤية ذاته في أعين الغير، ومن التفاعل مع أحاسيسهم ونواياهم تجاهه، الأمر الذي يزجّه في حلقة معاناة مفرغة قد تتسبّب بتقهقره وضياعه، وأحياناً بفقدان هويته الشخصية. ومن هنا كان الحكم بالسجن الإفرادي أقسى أنواع العقوبات التي تُلحق بالمدانين، وحتى في غياب العذاب الجسدي. وبسبب حاجة الإنسان الى ترجمة ميله الملحّ الى التفاعل مع الغير، تطوّرت وظيفة التخاطب اللغوي في الدماغ البشري جنباً الى جنب مع وظيفة التفكير، وتطوّر معها الارتباط الوثيق بين الفكرة والكلمة من أجل إغناء هذا التطوّر بأساليب تخدم الحياة الاجتماعية.

 

غريزة التواصل اللغوي
في هذا السياق نشرت مجلات أميركية متخصصة منها مجلة «Nature» تقارير مستقاة من أبحاث علمية حديثة أجراها إختصاصيون في علم الأعصاب من بينهم الباحث الأميركي ستيڤن بينكر. وعرف أن آراء الباحث المذكور قد أحيطت باهتمام بالغ كونها تضمّنت نظرية لافتة تناولت ما سمّاه «غريزة اللغة»، وهي نظرية استقى مفاهيمها من مجموعة دراسات أجريت في جامعة هارڤرد الأميركية وتمحورت حول أهمية «غريزة النطق» ودورها في تطوّر الإنسان من دون سائر الكائنات الحيّة. وهو ما قاد الباحث المذكور الى الاستنتاج أن وظيفة النطق البشرية هي توجّه غريزي موجود في تكوين الدماغ البدائي، وليس كما يعتقد، مهارة مكتسبة كالكتابة وسواها من المهارات الناجمة عن التطوّر العقلاني الحضاري.
وكان الباحث اللغوي الأميركي نعوم تشومسكي قد أطلق على هذه القوى الفطرية إسم «القواعد الكونية العميقة» التي تميّز الإنسان عن سائر الكائنات. والدليل أن بوادر تكوين النطق الموجودة لدى فصائل بعض الحيوانات، لم تتطوّر عبر العصور، ولم تتمكّن من الاتحاد مع أشكال التواصل المعقّدة والتي ظلّت حكراً على البشر.
وعلى الرغم من الجدل الذي رافق نظرية نمو «غريزة اللغة» وتطوّرها لدى الإنسان، إلاّ أن الوقائع التي رافقت مراحل تطوّر الجنس البشري، أكّدت حقيقة وجودها. والدليل على ذلك، السرعة التي يتعلم خلالها الأطفال النطق، مقابل الصعوبة التي يواجهونها في تعلّم الكتابة.

 

منطقة «بروكا» الدماغية
إضافة الى ذلك، هنالك دليل علمي آخر على صحة هذه النظرية كان قد قدّمها عالم الأعصاب الفرنسي بول بروكا. وهو عالم عاش في أواسط القرن التاسع عشر، واكتشف علاقة فقدان المقدرة على النطق بوجود تلف في منطقة دماغية تعرف بـ«الفلقة الصدغية اليسرى»، وأصبحت تعرف لاحقاً بمنطقة «بروكا» تيمناً بالعالم المعروف.  
وهذه المنطقة المسؤولة عن تعلّم الإنسان النطق، أصبحت لاحقاً مدار اهتمام علماء كثر في مقدّمهم العالم البريطاني كارل ويرنيك الذي قدّم دلائل علمية ملموسة على تجذّر تكوينها في الخريطة الجينية البشرية بطريقة بالغة التعقيد، تتمثّل بتخصص كل من أجزاء الفلقة الدماغية المشار اليها بأحرف معيّنة. وهذا يعني أن الإنسان يملك غريزة لغوية متخصصة. والسؤال المطروح: لماذا؟

 

نظرية العقل الميكياڤيلّي
تتعلق هذه النظرية بمقدرتنا كبشر على بناء فرضيات تتعلق بتفكير الآخرين وبإمكان تعاطيهم مع تفكيرنا وتوجّهاتنا الباطنية. وتكمن قيمة هذا الوجود والتطوّر العقلاني بالمقدرة الشخصية على استباق تفكير الغير ونواياه وبالتالي أفعاله بأشكال تخدم مصالحنا الخاصة. ومن هنا دور اللغة البالغ الأهمية في إقامة التواصل البشري بالطرق السليمة.
من جهة ثانية، فإن التأكيد على نظرية الغريزة اللغوية البيولوجية المنشأ يظهر من خلال النظريات العلمية الحديثة المتعلّقة بمرض التوحّد (Autism)، والذي تتمثل عوارضه بإعاقة التعبير اللغوي والتواصل الاجتماعي. وهو مرض ينجم عن تلف في منطقة التواصل اللغوي الدماغي المشار اليها، علماً أنه لا يؤثر في مستوى الذكاء الفردي.

 

ارتباط اللغة بالتواصل الاجتماعي
من ناحية ثانية، يعتقد الباحث الأميركي سيمون كوهين الذي أجرى دراسات في هذا المجال أن مرض التوحد لا ينشأ نتيجة خلل في منطقة التواصل اللغوي فحسب، بل يتسبب به ايضاً النقص في تكوين الإدراك الفردي. وهو نقص ينجم عن خلل في ميكانيكية عمل «الخلايا العصبية العاكسة»، والتي تنشط لدى تلقي مشاعر منبثقة من شخص آخر وخصوصاً لدى قيامه بعمل ما. وهذا يعني أن الخلايا العصبية التي تعكس مؤثرات أنشطة الغير ومشاعرهم تتواصل آلياً مع المقدرة اللغوية على التعبير بهدف تعزيز التواصل الإجتماعي. ومن هنا نرى أن الخلل الذي يصيب الخلايا العصبية العاكسة لدى المصابين «بالتوحّد» يرافقه خلل مماثل في الأجزاء الدماغية المتعلقة بالنطق، الأمر الذي يمنع المصابين من التعرّف على أحاسيس الغير وتعابير وجوههم ومن التواصل معهم لغوياً في الوقت نفسه.
وفي أثناء البحث عن سبب هذا الترابط الوثيق بين الإدراك الفردي والتواصل اللغوي، إكتشف العالم الأميركي ماركو لاكوبوني من خلال التصوير بالرنين المغنطيسي لأدمغة المصابين بالتوحّد، أن الخلايا العصبية العاكسة، والمرتبطة بمعرفة نوايا الغير عبر تعابير وجوههم، موجودة في منطقة «بروكا»، أو الفلقة الصدغية اليسرى المرتبطة بالتعبير اللغوي.
الإنسان إذن ليس كسواه من الكائنات الحيّة. إنه إنعكاس لرؤية خفية جعلت وجوده ضرورة لوجود الآخرين. وعلى هذا الأساس، ارتبط تطوّره اللغوي منذ القدم بتطوّر إدراكه وكلاهما كما ثبت، شكّلا شراكة أساسية في تكوين غريزة التواصل الإجتماعي، والتي بفضلها نال الدماغ البشري القسط الوافي من الإرتقاء والتطوّر.