قضايا اقليمية

اليمين الإسرائيلي بين الايديولوجيا والاستراتيجيا
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

تطرح الأزمة الداخلية المستشرية بين رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون والعديد من قيادات حزبه، حزب الليكود، مجموعة كبيرة من الاشكالات وعلامات الاستفهام حول امكانية قدرته على المضي قدماً في تنفيذ خطته المسماة خطة الفصل من طرف واحد، ازاء الوضع المتفجر داخل الحزب وازاء المتربّصين به لدى ارتكابه اية هفوة أو خطوة غير مدروسة من أجل الانقضاض على خلافته.
ومن المفارقات الغريبة، أو لنقل من سخرية القدر، ان حزب الليكود هو الحزب اليميني المتطرف صاحب الايديولوجيا الشمولية المعروفة بشعار: «للاردن ضفتان، هذه لنا وتلك الأخرى لنا أيضاً»، والذي كان شارون نفسه بمثابة الأب المؤسس والمبادر إلى تشكيله عام 1973 من اتحاد حزبي حيروت (الحرية) والليبراليين (الأحرار) اللذين كانا يشكلان كتلة «غاحال» في الكنيست، بالإضافة إلى حزبين صغيرين هما حزب المركز وحزب القائمة الرسمية. ومعلوم أن شارون عندما استقال من الجيش في مطلع السبعينيات، انضم إلى حزب الأحرار في حين كان حزب حيروت، النواة الصلبة في «غاحال» تحت زعامة مناحيم بيغن، وعند تشكيل الليكود بمساهمة شارون بشكل أساسي، خضع هذا التكتل لزعامة مناحيم بيغن. وفي العام 1985 تخلّت الأحزاب الداخلية في التكتل عن اطرها التنظيمية المستقلة بالكامل واندمجت في حزب واحد شكل جبهة اليمين الإسرائيلي في أهم طروحاته وتجلياته الايديولوجية والاستراتيجية.
الجدير بالذكر أن الهدف الأساسي من تشكيل الليكود (التكتل) كان ينحصر أولاً وأخيراً في ازاحة حزب العمل (اليساري) عن السلطة والحلول محله من أجل تنفيذ برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخاصة. وعلى الرغم من تدهور شعبية حزب العمل في أعقاب «التقصير» عام 1973وما نجم عنها من تدمير لصورة الجيش الإسرائيلي الاسطورية، أو الجيش الذي لا يقهر، اثر سقوط خط بارليف الدفاعي في سيناء ومرصد جبل الشيخ في الجولان، فإنه كان على الليكود أن ينتظر أربع سنوات عجاف أخرى ليصل الى سدة الحكم في عام 1977، حين استطاع تشكيل أول حكومة اسرائيلية برئاسته بدعم من الحركة الديموقراطية للتغيير (داش) والتحالف مع الاحزاب الدينية. وقد استمر هذا الحزب وحيداً في السلطة حتى العام 1984في أعقاب بداية الفشل المدوي للعدوان الصهيوني على لبنان منذ العام 1982، وبداية الانسحابات التدريجية المذلة التي انتهت أخيراً بالتحرير شبه الكامل عام 2000.
وقد اضطر حزب الليكود عام 1984إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي سمّيت في حينه بحكومة «التناوب»، حين تناوب الحزبان الكبيران الليكود والعمل على رئاسة الحكومة لمدة عامين لكل منهما. وفي العام 1988، استعاد الليكود أنفاسه وشكّل اسحق شامير حكومة برئاسته لوحده وبالتحالف مع الاحزاب الدينية ومن دون حزب العمل. وفي العام 1992خسر الليكود السلطة مجدداً وفاز العمل بزعامة اسحق رابين الذي ما لبث أن اغتيل عام 1995وخلفه شمعون بريس لفترة انتقالية قصيرة انتهت بفوز نتنياهو مجدداً كرئيس يمثل اليمين الإسرائيلي. وبعد نتنياهو جاء ايهود باراك عن حزب العمل وانتهى هذا المسار الطويل أخيراً إلى ايدي مؤسس حزب الليكود آرييل شارون منذ عام 2000وحتى الآن. والملفت أن خدمات شارون ودوره الحيوي في الليكود لم يشفعا له، كما وان النظام الحزبي في اسرائيل لا يسمح لرئيس الحزب بأن يتفرّد في قراراته خلافاً لسياسة الحزب وقرارات لجنته المركزية والتنفيذية، لا سيما وان القاعدة الحزبية هي الاساس التمثيلي في الكنيست الإسرائيلي، وبالتالي فقائد الحزب يبقى أسير لعبة التجاذبات والصراعات الداخلية وافرازاتها ونتائجها، وإلا فعليه التنحّي والاستقالة.
في حسابات الايديولوجيا والاستراتيجيا، تنطلق المسوغات السياسية لنهج شارون في المرحلة الراهنة من فرضيات كانت قد انطلقت منذ العام 1982أثناء اجتياح لبنان واشتملت، في ما اشتملت عليه، على القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية الممثلة الكبرى للهوية الوطنية الفلسطينية وطرد الجيش السوري وابتلاع قسم من الأراضي والمياه اللبنانية وبسط النفوذ السياسي على القرار الوطني اللبناني. وما من شك في أن حسابات شارون لم تتغير كثيراً حتى اليوم، خصوصاً في ما يتعلق بما تسميه الأوساط العسكرية الإسرائيلية المختصة بالخطر، الواقع، في التصنيف الأمني الإسرائيلي، ضمن خانة الخطر الوجودي. وإذا كانت هذه الحسابات تتعامل بين حين وآخر مع الأوضاع الأمنية والسياسية الطارئة والضاغطة من منطلق خلفيات ذرائعية براغماتية، كما يحصل بين حين وآخر من طرح خطط للتسوية مقيدة بشروط غير قابلة للتنفيذ وتشكل تفخيخاً مسبقاً لهذه الخطط، إلا أنها لا تلبث أن تلجأ إلى اجترار الذرائع الواهية والمكشوفة بأثر رجعي، من خلال توليفة خصصت من الأساس لإخضاع جميع شرائح المجتمع الإسرائيلي لمتطلبات وموجبات الشعور بأعراض التلبس الهستيري الأمني، وبالتالي حشد الرأي العام في أوساط هذا الجمهور من أقصاه إلى أقصاه، لتقبل مواقف الرفض اليمينية، وذلك تحت عنوان أن الأطراف العربية وخصوصاً الفلسطينية، هي التي تأخذ مواقف التطرف والعدوان عندما تطالب بحقوقها المسلوبة، ولا سيما على صعيد إزالة الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير بحرية، وحل مشكلة اللاجئين المشردين منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن بصورة عادلة ومنسجمة مع ارادة المجتمع الدولي.
إن إسرائيل اليوم، في ظل الهيمنة اليمينية، تحاول التظاهر بمظهر الدولة التي تريد تصفية حساباتها التاريخية والجغرافية لجهة وضع المعالم النهائية لحدودها، آخذة بعين الاعتبار جميع الأخطار القائمة أو المحتملة على المديين القريب والبعيد، وهذا يعني الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تبرز في ظل التعقيدات الكثيرة التي تحول دون تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في المنطقة وفقاً لمنطق حقوق الإنسان والشرعية الدولية وحرية تقرير المصير. وعلى هذا الاساس، فإن إسرائيل اليوم ترفض قيام دولة فلسطينية ذات سيادة بكل ما للكلمة من معنى، بل إن كل ما تريده أو تقبل به مضطرة، هو قيام كيان فلسطيني يمتص روح الثورة ويقتل الانتفاضة وتتم مقاييسه ومعاييره وفقاً لموجبات ومقتضيات المصالح والرؤى الإسرائيلية بصورة حصرية، وللمرحلتين الأمنية والمستقبلية. وهذا كله يجب أن يتم وفقاً لمراعاة عناصر الاستراتيجية اليمينية المقدسة التي يرعاها شارون بحزم وبشكل شخصي وهي: الأخذ بعين الاعتبار حقيقة عدم امكانية انهاء الصراع أو حسمه، ثم المحافظة على المستوطنات في وجودها وأمنها، وثالثاً، رفع مستوى الجهوزية والوعي الصهيونيين من خلال بعث واحياء الثقافة الصهيونية باعتبارها ثورة الشعب اليهودي في اسرائيل والعالم من أجل السيادة والأمن والحرية، حتى لو كان ذلك على حساب حرمان شعب آخر كل هذه الخصوصيات والامتيازات.


حزب الليكود هو الحزب اليميني المتطرف صاحب الايديولوجيا الشمولية المعروفة بشعار: «للاردن ضفتان، هذه لنا وتلك الأخرى لنا أيضاً»

 

اسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية وتقبل مضطرة بقيام كيان فلسطيني يمتص روح الثورة ويقتل الانتفاضة