قضايا اقليمية

اليمين الصهيوني كـمأزق دولي وإقليمي
إعداد: احسان مرتضى

قرابة نهاية الصراع الفكري والسياسي والإيديولوجي الذي سبق إقامة ما يسمى “دولة إسرائيل”, بين مختلف المدارس الأيديولوجية الصهيونية, مثل المسيحانية والإشتراكية الديموقراطية والعلمانية, توصل المستوطنون اليهود جميعاً الى ترتيب عمل ما لبث أن تحول الى أساس النظام السياسي الإسرائيلي. وقد قام هذا الترتيب على إعتماد التمثيل النسبي في الكنيست (البرلمان) كأمر سياسي واقع وعلى استمرار نظام الشعائر الدينية اليهودية العامة, الذي كان قائماً في ظل الإنتداب البريطاني والذي تجسد في ما سمي “إتفاق الوضع القائم” الذي نص على أن تبقي الدولة, إثر قيامها, على أيام السبت باعتبارها أيام راحة وعبادة, وتراعي قوانين الغذاء الشرعي وفقاً للأصول اليهودية في مؤسسات الدولة, وتبقي على سيطرة الأورثوذكسية على القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية, وتؤكد على أن طابع الدولة وحتى حدودها ينبغي أن تبقى من دون تحديد.
ومع مرور الوقت, نشأ معسكران سياسيان متصارعان, أحدهما يصنف نفسه كمعسكر عمالي إشتراكي ديموقراطي, والثاني كمعسكر تصحيحي علماني شوفيني.
ومن سخرية القدر أن سياسات الحكومات العمالية الخاصة بجلب المهاجرين اليهود من الشرق الأوسط وأفريقيا الى إسرائيل, ما لبثت أن أنتجت متغيرات أثنية وسياسية دراماتيكية في المجتمع, من أبرزها أن إسرائيل تحولت من كونها مجتمعاً أوروبياً في أغلبيته, الى مجتمع تتفوق فيه الأغلبية الشرقية.
وكان اليهود الشرقيون الذين هاجروا الى إسرائيل محافظين متدينين في أغلبيتهم وغير متعلمين, ودخلوا الى “بلدهم” الجديد عند قاع السلم الإقتصادي والإجتماعي, وصوّتوا لصالح العماليين لمدة جيل كامل إعراباً عن الإمتنان, لكن العماليين خذلوهم, إذ عاملوهم كمواطنين من الدرجة الثانية خاصة في تحديد مجالات أعمالهم وسكنهم. وتأذى هؤلاء أيضاً, الى جانب هذه المعاملة السيئة, من العلمانية الحادة للعماليين. فانتقلوا أولاً الى حزب حيروت التصحيحي (أو تحالف ليكود بقيادة حيروت), وليس الى الأحزاب الدينية, لأن هذه الأخيرة كان يسيطر عليها الحاخامات الاشكنازيون الأوروبيون, ومن ثم ما لبثوا أن بدأوا يشكلون أحزابهم القطاعية الخاصة مثل حزب شاس وحزب غيشر منذ منتصف الثمانينات.
وقد توحد هؤلاء اليهود بصورة خاصة مع شخصية مناحيم بيغن القومية وأسلوبه الديماغوجي البسيط والجذاب.
وبحكم نمط التكاثر الطبيعي الأعلى في صفوف اليهود الشرقيين, فإن الوضع الديموغرافي اللامتوازن, لم يغير فقط التوازن السياسي بين أحزاب إسرائيل ومدارسها الأيديولوجية فقط, بل غيّر أيضاً, وهو الأمر الأكثر أهمية, الطابع السياسي للدولة. وهكذا فإن غالبية الشباب الإسرائيليين ما بين 18 و22 سنة لم يعودوا يساريين رواداً في آرائهم, بل أصبحوا على نحو متزايد في الجناح اليميني. وحسب رأي يورام بيري, عالم الإجتماع والمؤرخ العسكري الإسرائيلي البارز, فإن “كل جيل يهودي يولد في إسرائيل الكبرى, يصبح جيلاً جنوب أفريقي أكثر فأكثر” في مواقفه. ومنذ منتصف الثمانينات وحتى الآن, مروراً بإنتفاضتي عام 1987 و2000 ومع الأخذ بعين الإعتبار الأحداث الجسيمة التي واكبتها خلال هذه الحقبة, مثل إنسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان وأحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة, ومصرع اسحق رابين عام 1995 وتناوب قادة يمينيين متطرفين مثل نتنياهو وشارون على الحكم في إسرائيل, فإن آراء الشارع اليهودي في ما يتعلق بالسكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة خاصة والعرب عامة, “باتت تزعج كل إنسان بقيت لديه أي مشاعر إنسانية” حسب بيري نفسه.
وقد وصف الباحث الإسرائيلي المعروف ميرون بنفنستي, نائب عمدة القدس السابق, المعسكرين الصهيونيين القائمين في إسرائيل, بأنهما “حضارتان سياسيتان”: “إحداهما معتدلة وليبرالية وتدعو لحل وسط في ما يتعلق بالأرض المحتلة وتجميد الإستيطان في المناطق المحتلة, وتتحاشى الإدعاءات الدينية والتاريخية المتطرفة وتركز على الدمار المعنوي الطويل الأجل المحيط بإسرائيل, من جراء سيطرتها على 1.3 مليون فلسطيني, في الأراضي المحتلة عام 1967, و”الأخرى... متطرفة وأصولية, تدعو الى الضم الكامل للضفة الغربية وغزة, والى نشر المستوطنات في المناطق المكتظة بالسكان (العرب) في الأراضي المحتلة”. كذلك تتبنى هاتان “الحضارتان” رأيين مختلفين حول مستقبل النظام السياسي لاسرائيل, فيقول أنصار الحضارة الأولى أن الإحتفاظ بالأراضي المحتلة يعني أن إسرائيل يتعين عليها إما دمج الفلسطينيين الذين يعيشون فيها مما يضعف الطابع اليهودي للدولة, أو تسليمهم لنوع من العيش في المعازل, أو البانتستونات التي كان يفرضها البيض على السود في جنوب أفريقيا, مما ينفي بصورة فاضحة وساخرة ديموقراطية إسرائيل المزعومة. ويصر متشددو الحضارة الثانية, بقيادة شارون ونتنياهو حالياً, على أن وحدة ما يسمى “أرض إسرائيل” ينبغي أن تكون لها الأسبقية على كل شيء سواها, وأن الإحتفاظ بأرض أكثر وعرب أقل هو أمر له الأولوية على واجب الحفاظ على النظام السياسي الحالي لإسرائيل. وهؤلاء مستعدون لدفع الثمن السياسي والإجتماعي والإقتصادي والعسكري والديبلوماسي لاستمرار الإحتلال وقمع وإضطهاد الفلسطينيين, كما وأنهم مستعدون أيضاً لطرد الفلسطينيين إذا دعت الضرورة أو حانت الفرصة لتحقيق ذلك.
على أنه بالرغم مما يقال أن الحضارة السياسية الصهيونية الأولى يمثلها حزب العمل وأن الثانية يمثلها حزب ليكود, فإن بنفنستي يعترف بأن الفروقات الفعلية بين البرنامجين السياسيين للحزبين “ليست ذات شأن”. وهذا هو السبب الذي جعل بعض المعلقين السياسيين في إسرائيل يسمون حزب العمل بأنه حزب ليكود رقم اثنين وأن بنيامين بن اليعازر هو شارون حزب العمل, وهذا هو السبب أيضاً وراء قيام أكثر من حكومة وحدة وطنية تضم المعسكرين عام 1984 و1988 و2001.
مع ذلك وبالرغم من كل ما تقدم, فإن عمر حكومات الوحدة الوطنية في إسرائيل لم يكن قط طويلاً, وهناك من اعتبرها بأنها حكومات شلل وطني, وكذلك كان أيضاً مصير حكومة شارون الأخيرة, التي لم يكن إنفراطها على خلفية مطالبة حزب العمل بتخصيص مبلغ رمزي من الموازنة للتقديمات الإجتماعية بدلاً من تحويله الى المستوطنات, بل على خلفية العجز والتسلل الذي أصابها على صعيد تمديد أفق سياسي للصراع الدامي مع مجاهدي الإنتفاضة, بعد عجزها العسكري عن تصفيتها. هذا بالإضافة الى المهاترات والمزايدات من طرف الأحزاب اليمينية ومن داخل الليكود نفسه. وقد حاول قادة الإدارة الأميركية مرات عديدة إنقاذ إسرائيل من نفسها ومن ورطاتها التي لا تنتهي في مواجهة ما تستحدثه الإنتفاضة من وسائل المقاومة وخاصة العمليات الإستشهادية, ولم توفر من أجل ذلك أية وسيلة ضغط أو إحتيال عسكرية أو سياسية, مثل المهام التي قام بها تينيت وميتشل ومثل الجهود التي بذلها وزير الدفاع رامسفيلد ووزير الخارجية باول. وقد سقطت جميعاً وفشلت, أولاً بسبب إصرار الإنتفاضة على المقاومة حتى التحرير, وثانياً بسبب الصراعات الحزبية والشخصية والسياسية داخل إسرائيل, مما وضع قادة الإدارة الأميركية جميعاً في مأزق معنوي وسياسي لا يحسدون عليه, وجميعنا نتذكر على هذا الصعيد كيف كانت عبارات مثل “الإنسحاب من دون تأخير” على لسان الرئيس بوش و”الآن” على لسان الوزير باول و”الآن يعني الآن” على لسان مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس, كيف كانت تسقط وتتهاوى أمام مناورات شارون وعناده في مواصلة حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني, مخافة تراجع شعبيته أمام شعبية نتنياهو الرافض كلياً لقيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية, ولأي حد من الإستيطان في الأراضي المحتلة, ولأي بقاء لعرفات وأعوانه داخل هذه الأراضي.
هذا الأمر جعل إسحق بن أهرون, وهو واحد من البناة الأوائل للكيان الصهيوني يقول: “هذه الحكومة تضم هايدر الإسرائيلي (زعيم الحزب اليميني القريب من الفكر النازي في النمسا) وتضم أصحاب فكر الترانسفير (الترحيل الجماعي للفلسطينيين) الذين لا يؤمنون بالسلام وسيعملون على إجهاض أية مبادرة للسلام وسيمنعون الحكومة من التوقيع على أي اتفاق سلام, وسيعملون على ترحيل الفلسطينيين”. وانتقد بن أهرون كلاً من شمعون بيريس وبنيامين بن اليعزر ورعنان كوهين لقبولهم البقاء في الحكومة جنباً لجنب مع حزب المفدال (القومي الديني) بزعامة ايفي ايتام, المعروف بمواقفه العنصرية الفاشية المتطرفة. وأضاف بن أهرون يقول: “هذه هي المرة الأولى التي أشعر أننا نقوم بأيدينا بعملية تهديم الدولة عن طريق هدم القيم والأخلاقيات”. واعتبر رئيس الحكومة الأسبق, الجنرال في الإحتياط إيهود باراك, أن إسرائيل إزاء ما يجري, هي بحاجة ماسة للحصول على شرعية دولية, لأنها لا تستطيع إحراز أي إنتصار “إلا عندما تتمكن من التصرف بأخلاقية. وها نحن قد خسرنا في الآونة الأخيرة هذه الأخلاقية المطلوبة منا”.
وأضاف: “ليس مطلوباً إظهار أننا الأقوى, بل المطلوب إظهار أننا على حق”. وهذه هي نقطة الضعف الأساسية في سياسة حكومة شارون الذاهبة والتي تبين للجميع أنه من المستحيل عليها القبول بدولة فلسطينية الآن أو في المستقبل, حتى لو تخلى ياسر عرفات عن المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين من المنفى وعن المطالبة بعودة القدس الشرقية. وأمام ضغط الإنتفاضة وضغط المجتمع الدولي وأمام طول إنتظار المجتمع الإسرائيلي للأمن والسلام من دون جدوى, كان لا بد لاسرائيل من إستراتيجية جديدة وليس مجرد تجميع لخطوات تكتيكية, فاستراتيجية الليكود التي تبناها شارون على مدى عامين من حكمه تقريباً, هي نفسها التي كان يتبناها منذ منتصف السبعينات, وتقوم على تأسيس المزيد من المستوطنات في كل مكان, وليس فقط في الأماكن الضرورية لأمن إسرائيل حسب رأي الخبراء العسكريين, وذلك في محاولة لإسقاط الشعب الفلسطيني في فخ سياسي قوامه أنه كلما طال الإنتظار لتحقيق التسوية, ستكون التسوية المقبلة أشد سوءاً مما قد يحصل عليه الآن. الا أن هذه المكيدة لم تنجح من قبل وهي مع تصاعد الروح الجهادية والإستشهادية لا يمكن أن تنجح أبداً.
من هنا كان التحول في رأي شارون بالنسبة لجدار الفصل في الضفة الغربية والقدس, الذي كان يرفضه ثم ما لبث أن قبل به, ومن هنا كان تريثه ثم عجزه عن تصفية ياسر عرفات أوطرده من مقره في رام الله, خاصة إزاء ضغوط الأمر الواقع على الإقتصاد والأوضاع الإجتماعية الإسرائيلية التي لم تعد تتحمل, أكثر مما تحملت, ضغوطات متطلبات إسرائيل الأمنية, وضغوطات القوى اليمينية الشوفينية المتطرفة التي لم يعد تحكمها مقتصراً على سياسات إسرائيل الداخلية والخارجية, بل أنها استقوت أيضاً بمواقف وسياسات العديد من رجال الكونغرس الأميركي بمجلسيه, لتفرض آراءها وسياساتها على بقية أنحاء العالم, بما في ذلك تعطيل ورفض أية محاولة جادة وحقيقية لإيجاد مخرج سياسي لازمة الشرق الأوسط المزمنة, فمصالح هذا اليمين لا تكمن في إيجاد حلول لهذه الأزمة, بل في إدارتها وإطالة أمدها حتى تحقـيق مشـروع إسرائـيل الكبرى والعظمى معاً. وفي ظل مثل هذه الإستراتيجية “لن يتسنى ضمان أمن إسرائيل, كما لن يتمكن أي زعيم فلسطيني من إحتواء مشاعر شعبه المحبط, وستظل المنطقة برميل بارود, كما لن يستمر طويلاً أي تحالف ضد “الإرهاب”, وسيتسنى ­ إذا واصل محافظو إسرائيل وأنصار التيار اليميـني المتطـرف فرض سياستهم على بقية العالم ­ لجميع أولئك الذين يرغبون في صراع الحضارات ­ وقد باتوا ظاهرين الآن ­ إمتلاك زمام المستقبل الذي يريدونه” على حد قول وزير الخارجـية الفرنسي الـسابق هوبـير فيدرين في الواشنطن بوست.
أما بالنسبة لإدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش, فإن تغطيتها لمثل هذه السياسة, ستكون بمثابة مغالطة تاريخية كبرى, ومحاولة عبثية ومأساوية تضعها وجهاً لوجه, ليس فقط مع الدول العربية والإسلامية وحسب وإنما أيضاً مع كل الجهات الدولية الأخرى التي تنظر الى خيوط المشكلة وخطوطها بموضوعية أكبر مثل الدول الأوروبية والأمم المتحدة وروسيا والصين وسواها.