قضايا إقليمية

اليهود المتدينون بين الدين والدولة
إعداد: إحسان مرتضى
(باحث في الشؤون الإسرائيلية)

لقد بات من المؤكد لدى جميع الباحثين في الشؤون الاسرائيلية أن وزن المجتمع الحاريدي- الديني في إسرائيل آخذ بالازدياد. ويرافق ذلك ارتفاع في التأثير السياسي لهذا المجتمع، الأمر الذي يولّد حاجة ملحّة لفهم مواقف المتدينين المتشددين تجاه قضايا سياسية وجماهيريّة تُطرح على جدول الأعمال الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ في إسرائيل. فتأثير هذه المواقف يشمل الدولة برمّتها وليس فقط الجمهور الحاريدي. من هذا المنطلق يأتي هذا المقال للمساهمة في توضيح حقيقة اجتماعية اسرائيلية خطيرة سيكون لها انعكاسات وتداعيات ليس على اسرائيل وحدها بل على المنطقة برمتها.

 

الدين والدولة و«الخلاص»
يدور في اسرائيل منذ تأسيسها جدل يهودي داخلي حول أمرين رئيسين. الأول، علاقة الدين بالدولة، والثاني، علاقة الدولة بـ«عملية الخلاص» أو عودة المسيح. وعندما دعا هرتسل يهود العالم لعقد مؤتمر لمناقشة فكرته التي تقضي بإقامة دولة لليهود كحل لما عرف في حينه بالمشكلة اليهودية، عارضت هذه الفكرة الغالبية العظمى لليهود المتدينين في العالم. فقد رأى هؤلاء أن دعوة هرتسل تتعارض مع الدين اليهودي واعتبروها تحديًا لإرادة الله وتدخلًا في شؤونه، إذ أنهم يعتقدون أن وجود اليهود في المنفى هو عقاب من الله لهم، وأنه عندما يشاء فقط، يكون الخلاص ومن دون تدخل البشر. لكن ازدياد العداء لليهود في اوروبا في ظل نشوء القوميات في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والذي توج بالحرب العالمية الثانية، كان سببًا في تغيير بعض الحاخاميين لآرائهم وتخفيف حدة عدائهم لفكرة الدولة. فقد نشأ في ذلك الحين تيار يفصل بين فكرة الخلاص وفكرة الدولة، على اعتبار أن فكرة الخلاص هي اكبر من البشر وأكبر من الطبيعة، أما الدولة التي يدعو لها العلمانيون أمثال هرتسل ووايزمن فهي لإيجاد حلول مؤقتة لليهود. وهذا الطرح الذي يفصل بين إقامة الدولة وعملية الخلاص، قلص الفارق بين الدين والصهيونية العلمانية. وعندما جاء الحاخام ابراهام كوك, طور هذه الأفكار فقال بأن فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين، هي فكرة ربانية وإن الحركة الصهيونية ما هي إلا أداة في يد الله. أما ابنه اسحق كوك، الذي سار على هدى والده، فأضاف تفسيرًا أكثر تطرفًا حين أجاز استخدام العنف من اجل تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين كخطوة ضرورية للإسراع في عملية الخلاص. ويشكل خريجو المعهد التلمودي الذي اسسه الحاخام كوك الاب في القدس (1924) مرجعيات دينية في المدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية كما في فيالق الجيش الإسرائيلي. وقد تمكن كوك الابن في ما بعد من ترسيخ دور المعهد، ليصبح مرجعًا - يكاد يكون وحيدًا للصهيونية الدينية - على الصعيدين التعليمي والعملي، من خلال توليد منظمات استيطانية رائدة، كحركة «غوش امونيم»، أو «عطيريت كوهانيم». وكشف كوك الابن عن أفكار جانحة في تطرفها كدعوته لحرب دينية شاملة ضد العرب والمسلمين باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق عودة المسيح المنتظر.

 

نصيب القدس من الفكر المتطرف
للقدس نصيب الأسد في هذا الفكر المتطرف. ومعظم أعضاء حركة «عطيريت كوهانيم» المتخصصة في الاستيطان بالقدس العربية بشكل خاص، هم من خريجي هذه المدرسة، ويؤمنون أن المسيح المنتظر يعود عندما يتعزز الوجود اليهودي بالقرب من الحرم الشريف أي المسجد الاقصى. لهذا هم على استعداد لدفع أي مبلغ لشراء أرض أو مبنى قريب من سور الحرم، ويستخدمون كل الوسائل لتعزيز وجودهم هناك. باختصار ترى الصهيونية – الدينية أن تأييد «القومية اليهودية» وإقامة دولة لليهود ينبعان من التوراة. وخلافًا للحريديم، الذين يرون أن «خلاص الشعب والأرض» سيتم بعد مجيء المسيح المنتظر، فإن الصهيونية – الدينية تؤمن بالفعل البشري النشيط من أجل تحقيق سيادة يهودية، وذلك من خلال الدمج بين «توراة إسرائيل وشعب إسرائيل وأرض إسرائيل».
في هذا السياق يمكن تصنيف اليهود المتدينين في إسرائيل إلى صنفين: الارثوذكس المتزمتون والقوميون الصهاينة.

 

اليهود الأرثوذكس المتزمتون (الحريديم)
هؤلاء لا يعتبرون أنفسهم صهاينة، وقد عارضوا جهود الحركة الصهيونية لإعادة اليهود إلى أرض فلسطين على اعتبار أن هذه مهمة المسيح المخلص – الماشياح - الذي سيأتي آخر الزمان ليقود اليهود إلى أرض الميعاد، وبالتالي لا يجوز للناس العاديين التدخل من أجل تسريع هذه المهمة. وعلى الرغم من عدم اعترافهم بإسرائيل إلا كأمر واقع، فقد انخرطوا في حياتها السياسية، لكن معظمهم لا يخدم في الجيش. وهم ينقسمون إلى قسمين:
- أرثوذكس حريديم غربيون (اشكناز)، وهؤلاء يسمون «حسيديم» ويمثلهم حزبا «أغودات يسرائيل»، و«ديغل هتوراة». وقد توحد الحزبان في الآونة الاخيرة حيث شكلا حزب «يهدوت هتوراة» (يهودية التوراة).
- أرثوذكس شرقيون، تمثلهم حركة «شاس»، مع أنه حتى العام 1984 لم يكن هناك هيئة قيادية خاصة باليهود الأرثوذكس الشرقيين الذين كانوا يتبعون للمرجعيات الدينية الاشكنازية الخاصة بحزب «ديغل هتوراة» (علم التوراة).

 

المتدينون القوميون الصهاينة
انخرط هؤلاء في الكيان الصهيوني منذ البداية، عملاً بروحية أفكار الحاخام ابراهام كوك، وشكلوا جزءًا من المؤسسة الإسرائيلية وهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وهناك مؤشرات تدل إلى أن نسبة استحواذهم على المواقع القيادية في هذا الجيش تفوق نسبتهم في أوساط السكان بثلاثة أضعاف.
يعتبر الحاخام أبراهام كوك من أهم مفكري الصهيونية الدينية وأول حاخام أكبر لليهود الأشكناز في فلسطين، هاجر إليها في العام 1904 واستقر فيها. وتتلخص سيرة حياته ونشاطاته القومية الدينية في محاولة تقريب الصهيونية إلى المتدينين وهو قد ذهب بعيدا في هذه المصالحة، معتبرًا تأسيس دولة إسرائيل تلبية لنداء الرب. أما قادة الحركة الصهيونية، من اليهود العلمانيين، في رأيه، فينفذون وعد الرب، وبالتالي يسرّعون قدوم المسيح المنتظر، وموعد الخلاص. من هذا المنطلق سوّغ التعاون بين المتدينين والعلمانيين، ومدّ بينهما الجسور بطريقة لم يكن يستطيع أحد أن يفعلها بمثل هذا النجاح.

 

استيطان ارض فلسطين يعادل جميع فرائض التوراة
كان كوك يعتقد أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين هو الجيل الذي تتحدث عنه النبوءات في التوراة وأنه هو الذي ينتمي إلى عصر الماشياح، وأن الرواد رغم كونهم علمانيين إلا أنهم ينفذون تعاليم الدين باستيطانهم الأراضي المحتلة في فلسطين. ويعتبر هذا الحاخام من أهم الشخصيات التى صنعت الحدث اليهودي فى القرن العشرين. فكوك هو مؤسس تيار الصهيونية الدينية، الذى يؤدي دورًا مركزيًا فى السياسة والمجتمع الإسرائيليين. وتجدر الإشارة إلى أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر كان التيار الأرثوذكسي الاشكنازى يمثل المتدينين اليهود في شرق أوروبا وروسيا، وكان هذا التيار يرى أنه يتوجب عدم التدخل من أجل إقامة دولة اليهود التى تقوم بعد مجيء «المسيح المخلص». لكن جاء الحاخام كوك واصدر فتوى جسدت فى الحقيقة انقسام التيار الأرثوذكسي ومولد التيار الديني الصهيوني، حيث أفتى أنه من أجل عودة المسيح المخلص، يتوجب العمل على إقامة الدولة اليهودية. وتبنى كوك فتوى لأحد كبار الحاخامات اليهود في القرن الثاني عشر، ومفادها أن استيطان «أرض إسرائيل» يعادل جميع فرائض التوراة الثلاثمائة وستين.
إلى جانب هذا الحاخام برز حاخام آخر اسمه يهودا الكلعي الذي استطاع أن ينمي في أوساط الجماعات اليهودية، حلمًا دينيًا فرديًا بالذهاب إلى القدس والأرض المقدسة، وعملت أفكاره الصهيونية على تحويل هذا الحلم الفردي إلى مشروع سياسي استعماري، وثيق الارتباط بالمشروع الاستعماري الأوروبي في الوطن العربي. وكان الكلعي يستقطب الجماعات اليهودية بالقول إن الهدف الصهيوني هو احتلال القدس وجعلها عاصمة للدولة اليهودية. في العام 1834 أصدر الحاخام يهودا الكلعي كتابه «اسمعي يا إسرائيل» ودعا فيه للهجرة إلى فلسطين التي اسماها أرض الميعاد، من دون انتظار المسيح المخلص، حسبما تقول المعتقدات الدينية اليهودية المحافظة، وأنشأ جمعية للاستعمار في القدس داعيًا أغنياء اليهود إلى دعمها. وقد انطلقت البداية الحقيقية للصهيونية الدينية في العصر الحديث من أفكار هذا الحاخام.
كان الكلعي أول الداعين إلى إحياء اللغة العبرية، وإقامة المستعمرات اليهودية في فلسطين، وكان برنامجه يقوم على مقولة «الخلاص الذاتي» لتحقيق العودة الجماعية إلى فلسطين، فالنشاط الاستعماري علـى مستـوى البشـر سـوف يمهـد السبيـل إلـى مجيء المسيح المنتظر وفق رأيه.

 

حركة استيطانية
ارتفع شأن التيار الصهيوني – الديني في أعقاب حرب العام 1967، وبعد احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء. وعلى الاثر تأسست حركة «غوش إيمونيم» الاستيطانية في الأراضي المحتلة. ومن ثم تحول هذا التيار من حركة تسير في فلك حزب العمل إلى حركة تجر خلفها رؤساء حكومات من أجل تطبيق فكرة «الاستيطان في أرض إسرائيل الكاملة». وحاليًا يعتبر التيار الصهيوني – الديني أحد أكثر التيارات تأثيرًا في السياسة الإسرائيلية، فقد انتقل التيار الصهيوني – الديني من الهامش إلى مركز المؤسستين السياسية والعسكرية وصناعة القرار الإسرائيلي.
ويتبين من التدقيق في تركيبة الحكومة والكنيست حاليًا، أنه يوجد في الحكومة الاسرائيلية الآن على الأقل ستة وزراء ونواب وزراء من المستوطنين المتدينين، ويبلغ عدد النواب الحاليين في الكنيست الذين يسكنون في المستوطنات 16 نائبًا وهم ينتمون إلى أكثر من حزب، ويسكن رئيس الكنيست، يولي إدلشتاين، في مستوطنة «نافيه دانيئيل»، التي تعتبر مستوطنة «معزولة» كونها تقع خارج الكتل الاستيطانية الكبرى.