نظرة إلى الداخل

انفجار بيروت: صدمةٌ جماعية هل يستطيع اللبنانيون محو الألم؟
إعداد: روجينا خليل الشختورة
تصوير: أنور عمرو

يبدو الشعور بالصدمة والقلق كأنّه خيطٌ لا ينقطع لدى اللبنانيين، يصلُ جيلًا بجيلٍ، ومرحلة بمرحلة فيمتدّ إلى ما لا نهاية. وكلما حاول اللبنانيّ تخطّي أزمة، يُصدمُ بهولِ أخرى، ويزداد شعوره بعدم الأمان وبأنّ التخطيط للغد بات مستحيلًا، ولم يعُـد يعلـم مـا يخبئـه الغـد لـه مـن خيبـات. فهـل يتخطّـى كـلّ هـذه الصدمـات النفسيـة ويصـل إلـى بـرّ الأمـان؟

تُعرّف الاختصاصية في علم النفس السيدة جوليانا كنعان ديب الصدمة النفسية على أنّها التعرّض لحدثٍ مفاجئ غير متوقّع، يشكّل لدى الفرد حالة من الخوف والضياع والعجز والقلق، وصولًا إلى الاكتئاب. كارثة انفجار مرفأ بيروت لم تكُن أمرًا متوقّعًا حدوثه، وبالتالي هي لم تؤثّر فقط على من كان بالقرب من مكان الانفجار وشعر بقوّة عصفه، بل تخطّاه ليَصدم كلّ اللبنانيين في المناطق القريبة منها والبعيدة، حتى وصل صداه إلى بلدان العالم كافة...

 

قوة الصدمة النفسية

تختلف قوّة هذه الصدمة بين فردٍ وآخر، فمن تعرّض لخسارة مباشرة ليس كمن كان أبعد في المكان أو كمن شاهد الفاجعة على شاشات التلفزة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وتختلف قوة الصدمة أيضًا بين من خسر بشرًا ومن خسر حجرًا، بين من تأذى منزله ومن تأذى جسده بالجراح، بين من فقد معيلًا ومن فقد صديقًا، بينَ طفلٍ وبين شاب وعجوز...

 

ردود الفعل الأولية الطبيعية

بعد أيامٍ من التعرّض للصدمة، معظم هؤلاء يشعرون بالحزن والغضب والخوف والرغبة بالبكاء في كلّ ساعةٍ تمضي وباستعادة الحدث والأفكار السلبية بشكلٍ متكرّر ولا إرادي. منهم من يجد صعوبة في التركيز لإنجاز أي عمل، ومن يجد صعوبة في النوم، ويشعر بالقلق، وإن غفا يرى الكوابيس. آخرون ازدادت انفعاليّتهم وبعضهم من انفصل عن الواقع، وبات يشعر أنّ ما يعيشه ليس حقيقيًا. منهم من يشعر بالذنب لأنّه من الناجين، ومنهم من يعاني اضطرابًا في الإدراك ويرهبه أي صوتٍ قويّ مفاجئ أو ضوءٍ ساطع. إلى ذلك، قد يتعرّض البعض لعوارض نفس جسدية كألم في الرأس والأكتاف والبطن، يترافق مع إسهال أو غثيان...

لكلّ هؤلاء يجب إعطاء الوقت الكافي لاستيعاب ما حدث قبل تخطيه، إذ تؤكّد السيدة ديب أنّه لا يمكن التدخل للعلاج قبل أشهر (إلا في حالات متقدّمة جداً، مثلاً إن فقد الشخص القدرة على الكلام بالكامل، أو توقّف عن الحركة، أو تقوقع على نفسه لأيام من دون أكل أو نوم، أو لديه أفكار انتحارية...). فمن المهمّ أن يحظى الفرد بالوقت الكافي لإفراغ كلّ ما يختلجه من مشاعر وأحاسيس قبل اللجوء إلى المساعدة في العلاج النفسي. جلّ ما يمكن تقديمه في المرحلة الأولى هو الإرشاد والتدعيم النفسي.

 

مراحل الصدمة النفسية

صنّفت السيدة ديب مراحل الصدمة النفسية إلى خمس هي:

١- الإنكار: أي إنكار الشخص المصدوم للحدث ورفض تصديقه، فشعور الإنكار يكون وسيلة الدفاع التي يتبعها العقل حيال التغير الشديد الذي طرأ على حياته نتيجة فقدان شخص اعتاد وجوده دائمًا، فالعقل يساعد في إنكار الحدث حتى يستوعب الشخص الحدث مع الوقت استيعابًا صحيًا.

٢- الغضب: بعد أن يبدأ الشخص المصدوم باستيعاب الأمر الذي رفضه العقل وأنكره، تبدأ مرحلة إدراك الواقع مع ما يرافق ذلك من ألم وذكريات. يخرج هذا الألم على صورة غضب شديد، وقد يغضب الشخص المصدوم على أشخاص أغراب أو أشياء من حوله، أو أصدقائه وأهله، رغم إدراكه أنّ لا ذنب للآخرين بما حدث، وأنهم ربما يعانون الفاجعة نفسها، فيغضب أكثر تجاه تصرفه الذي صدر منه.

٣- المساومة: بعد أن يرضخ الشخص المصدوم للأمر الواقع، تتصارع المشاعر بداخله من ألم وفقدان أمل، وعدم القدرة على تغيير الواقع، فيبدأ العقل بالسيطرة على الشخص عن طريق التفكير في بدائل ربما كانت قد غيرت من النتيجة الحاصلة، أو على الأقل خففت من واقعها. على سبيل المثال يبدأ الشخص المصدوم بالتفكير في ما لو كان يعامل الشخص الذي فقده بطريقة أفضل، ويسيطر على عقله الكثير من الأفكار والأسئلة رغم علمه بأنّ هذا بلا فائدة، وأنّه لن يستطيع إعادة الماضي. وهكذا يكون عرضة للشعور بالندم، ويتمنى لو أنّه يستطيع تغيير النتيجة، وتعدّ هذه المرحلة من أقسى المراحل وأصعبها، بسبب ما تحمله من ألم نفسي.

٤- الاكتئاب: هناك نوعان من الاكتئاب يمر بهما الشخص بعد الصدمة، الاكتئاب الأول هو رد الفعل العملي، والثاني الاكتئاب الداخلي. يتلخص الأول بالمعاناة التي أصابت الشخص المصدوم والشعور بالألم والندم بسبب الصدمة النفسية التي تعرض لها. وهذه المرحلة تختبر قوة الدعم النفسي المحيط به، إذ يكون الشخص حزينًا وفاقدًا للشهية، وكارهًا لكل مظاهر الحياة ومتشائمًا من المستقبل، وفاقدًا للتركيز مع شعوره بالتعب. أمّا النوع الثاني من الاكتئاب فهو داخلي، وأثره أخفّ وألطف على نفسية المصدوم من النوع الأول. إذ تكون مراحل الصدمة فيها داخلية ومهيئة لما حدث أو سيحدث، وكل ما يحتاجه الشخص فيها إلى توديع الأشخاص الذين يحبهم، وربما الحصول على احتضان أخير قبل الوداع النهائي.

٥- القبول والتعافي: إنّ الوصول لهذه المرحلة إنجاز عظيم، فبعض الناس يتعرضون للموت المفاجئ؛ بسبب الأعراض والمراحل السابقة. في هذه المرحلة يبدأ الشخص المصدوم بتقبل واقع الصدمة وامتلاك الشجاعة لاستمرارية الحياة. وتتميز هذه المرحلة بالهدوء والانطواء، إذ تحمل في طياتها الحزن، ويبدأ الشخص بالتأقلم مع الفقدان أو مع المرض أو غيره من الأسباب. وتعتبر هذه تجربة فردية إذ لا يستطيع أحد مساعدته في تخطيها بسهولة، لكن إذا قاوم حزنه وهرب منه سيكون العلاج أطول وأصعب من الفترة اللازمة.

وتوضح السيدة ديب: في مرحلة التعافي يجب أن يتوصّل الشخص المصدوم إلى المسامحة؛ مسامحة الذات ومسامحة الآخرين، وإلّا فقد يعود إلى مرحلة الاكتئاب.

 

المضيّ قُدُمًا

لقد تعوّد اللبنانيون النهوض من كلّ الصدمات التي تعرّضوا لها تباعًا، ولكن هل تكون لديهم العزيمة نفسها هذه المرّة بعد التعرّض لهذا «الانفجار الكبير» الذي هزّ مناعتهم وزعزع مرونتهم النفسية؟ هل نسمع من جديد خطاب الأمل بالعودة إلى الحياة والبناء ؟ من أين قد يأتي الأمل واللبناني بات مفتقدًا أقلّ المقوّمات الحياتية وآلامه تزداد يومًا بعد يوم؟

ما يمكن أن يخلق الأمل الصغير بتخطّي السوء الذي نشعر به، تقول السيدة ديب، هو التضامن في ما بيننا حول المصاب الأليم الذي حلّ بنا، لا سيّما وأنّ العالم بأسره تضامن معنا. والأهم عدم التأقلم مع ما وصلنا إليه بل العمل على المواجهة نحو التغيير، والتركيز على العودة للانتماء للوطن وليس للأشخاص.

 

كيف نتعامل مع الأطفال؟

الطفل حتى عمر السنتين، الذي يستيقظ ليلًا صارخًا خائفًا يجهش في البكاء، يجب النظر في عينيه والابتسام، ومعانقته كي يشعر بالأمان بوجودنا قربه، والهمس في أذنيه بأغانٍ وصلوات.

الأطفال من عمر السنتين حتى الخامسة، هم أيضًا بحاجة للاحتضان والطمأنة، والتكلّم معهم بصوتٍ منخفض بعيدًا عن الانفعال. وهنا تشير السيدة ديب: صحيح أنّ الأهل في هذه المرحلة يتعرّضون لضغوطٍ كبيرة ويعانون مشاكل كثيرة، ولكن المطلوب منهم قدر الإمكان المحافظة على هدوئهم في التعامل مع أبنائهم، اللعب معهم والسماح لهم بالتعبير عمّا في داخلهم. فخلال اللعب مثلًا قد يبني الطفل مجسّمًا ما ثمّ يقوم بتدميره، يجب التنبّه هنا إلى أنّه يسقط ما رآه خلال الانفجار، وبالتالي علينا مساعدته على إعادة بناء مجسّم آخر أجمل، وتمرير فكرة إعادة الإعمار بعد الدمار.

أطفال الخامسة حتى الحادية عشرة من العمر، هم بدورهم بحاجة للدرع البشري الذي يشعرهم بالأمان، هم بحاجة للتعبير عمّا اختبروا خلال الفاجعة، والإجابة عن أسئلتهم بأسلوبٍ صادق وقريب من قدرة استيعابهم. فبإمكاننا أن نشرح لهم أنّ ما حدث هو انفجارٌ كبير خلّف دمارًا كبيرًا، ولكنه انتهى ولن يتكرّر، ومن سبّب ذلك سينال عقابه... وبالتالي يجب العودة تدريجًا إلى ممارسة النشاط والروتين اليومي الذي كان متّبعًا قبل الصدمة، والأهمّ الابتعاد عمّا قد يعيد الموضوع للذاكرة، كمشاهدة التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي.