قصة قصيرة

بالأمـس كـنّا هـنا
إعداد: العميد الركن إميل منذر

تلقّيتُ خلال الأسبوع المنصرم رسالة إلكترونية على هاتفي المحمول تنبئني بوفاة أحدهم في قريتي. هكذا أصبح يتمّ نعيُ الميت عندنا. إنه آخر ابتكار، وقُلْ آخر «موضة». فبينما كان الجرس بدقّاته الرتيبة الحزينة، أو مكبِّر الصوت، يتولّى هذه المهمّة، صرنا اليوم نوكلها إلى الهاتف النقّال.
لستُ أقصد، بهذا الكلام، أن أحطّ من قَدْر هذه الآلة العجيبة التي تحقّق في كلّ يوم «فتحًا» جديدًا. لكنني قصدتُ القول إن الظروف تفرض الوسيلة؛ فجرس ضيعتنا الكبير الذي كان يمتنع إلا على مَن اشتدّ ساعده وطالت دُرْبَتُه، لن يستطيع صوته مهما علا، أن يصل إلى بيروت حيث يقيم أهل ضيعتنا. أما مكبّر الصوت الذي لم يكن نداؤه ليبلغ أطراف القرية إلا إذا «اشتهت الرياح»، فلم يعُد له من عمل. لذلك أُحيل على التقاعد قبل بلوغه «السنّ القانونية».

 

لم يعُد له من عمل لأنه لم يبقَ في ضيعتنا إلا القليلون. هؤلاء عادوا بعد هجرة قسريّة فرضتها الحرب القذرة في الجبل لمدّة عشر سنوات، وأقاموا فوق ليعيشوا مثلما كانوا يعيشون من قبل، أما الأكثرون فكانت عودتهم خجولة.
ويا ليت أهل ضيعتنا يوم رحلوا، ألقوا عصا الترحال في بيروت ولم يتجاوزوها شمالًا وجنوبًا، وحتى إلى المَهاجِر غربًا، حيث «ضاعوا» في قرى ومدن لا عهد لهم بها، فحلّوا فيها بادئ الأمر «مهجَّرين»، وبعد مُضِيّ سنوات طويلة، ارتقوا إلى مرتبة «الغرباء». وهكذا سيبقون على مدى أجيال وأجيال.
هكذا سيبقون لأن عاداتهم وتقاليدهم لا تشبه تقاليد وعادات الناس الذين حلّوا بينهم. فالأعراس في بيروت ليست مثل أعراسهم. تلك «رسمية»، لا أحد يشارك فيها إلا إذا كان مدعوًّا إليها. أما أعراس الضيعة فالمحبّة تعمرها والبساطة تغلب عليها، والكلّ يشارك من غير دعوة فيها.
وكما الأعراس كذلك المآتم؛ فهي لا تتشابه. ففي المدينة تُنقَل النعوش بعربات سود طويلة. أما في قريتي فتُحمَل على الراحات والأكتاف، لأن الجمرة لم تكن تحرق مطرحها فحَسْب، لكنها كانت تلفح الجميع بلهيبها.
أهل قريتي سيبقون غرباء حيث حلّوا لأن البيوت التي سكنوها صغيرة كالعُلَب، مخنوقة من الجهات الأربع بكُتَل الإسمنت والهواء الملوّث بنِتاج الحضارة المزيَّفة. أما البيوت المتروكة فوق، فشبابيكها الخشبية مفتوحة للنسمات المضمَّخة بعطر القندول والصعتر والوزّال، وقرميدها الأحمر يصبح ويُمسي على «عجقة» الدوري وهديل اليمام.
سيبقون غرباء لأن المياه التي يشربونها من قناني البلاستيك، ليست نقيّة وصافية كمياه نبعَي الباروك والصفا، وعين «العشاير».
سيبقى أهلي غرباء حيث هم لأنهم عندما حاولوا العودة، أمسك بهم أخطبوط المدينة ولم يدعهم يفلتون؛ فظلّوا تحت يسعون وراء رزقهم، ويعلّمون أولادهم، و... يشتاقون إلى قراهم.
آه، ما لي أحدّثكم عن القرية وكنت قد بدأت الحديث عن الرسالة التي تَنْعى إليَّ وفاة أحد أبناء ضيعتي! لعلكم الآن تعرفون أن هذه الضيعة التي أبصرتُ فيها النور، وتعلّمتُ الحرف في تكميليّتها الرسمية، وجمعتُ أزهار «بخور مريم» و»دبّوس الراعي» و»شقائق النعمان» أيّام الجمعة العظيمة من براريها، باتت تعيش في دمي.

 

* * *

 

فتحتُ الرسالة، وقرأت الاسم، ورحت أحاول أن أتذكّر صاحبه. ولمّا لم أُوَفَّق إلى ذلك، اتّصلت بأخي؛ فقال إنه هو أيضًا لا يعرف. إذ ذاك سألتُ أمّي؛ فأجابت: «ربما كان سليمًا شقيق فؤاد توفيق جارنا... عليك أن تحضر الجنازة في الضيعة غدًا».
- أأحضر ولا أعرف أحدًا من أفراد العائلة يا أمّي! سأقوم بواجب التعزية في بيروت.
- هذا لا يكفي. عيب. سليم وفؤاد ما كانا ليقصّرا يومًا في واجب.
- أتصعدين برفقتي؟
- وهل هذا السؤال يحتاج إلى جواب! بالتأكيد أصعد.
وكان صباح اليوم التالي جميلًا بشمسه الربيعية التي أشرقت باكرًا، وأرسلت أشعّتها تدفئ دم الحياة في الطبيعة حيث الأُمّات من العصافير تزقّ فراخها في أعشاشها، والفراشات الملوّنة تسابق النحل إلى الزهور التي اشرأبّت رؤوسها في كلّ سفح ومنحدر.
ما بلغنا منتصف الطريق حتى أنزلتْ أمّي زجاج شبّاك السيّارة لتسمح للنسمة الآتية من أحراج الصنوبر والشربين بدغدغة وجناتنا، ولزقزقة العصافير وخرير الساقية ببلوغ مسامعنا. وعندما طوينا آخر منعطف من الطريق، بدَتْ قريتنا جميلة بحمرة قرميدها تتوسّط زرقة السماء وخضرة الوادي؛ لكنها كانت حزينة حزنَ صبيّة وعدها حبيبها الغائب أنه سيعود، ولمّا عاد بعد طويل انتظار، سلّمَ عليها وودّعها مثل صاحب المتنبّي الذي قال أبو الطيِّب فيه:
وافترقْنا دهرًا ولمّا التقينا
كانَ تسليمُهُ عليَّ وداعا.
أُقيم للفقيد مأتم حضره أقرباؤه وعارفوه من أهل القرية. وعندما ارْفَضّ جمهور المعزّين، قام شابّان يرتديان ثيابًا سودًا وجلسا عن يميني ويساري.
- نحن ولدا سليم، قال أحد الشابّين. من المؤكّد أنك لا تعرفنا... كنا صغارًا عندما تركنا الضيعة إلى بيروت.
- أنا أعرف المرحوم فؤادًا عمّكما. ألا يأتي أولاده إلى القرية؟
- إنهم يعيشون وأمّهم في فرنسا مذ مات عمّي.
- والبيت؟
- لا يسكنه أحد.
- هذه حال بيوت كثيرة في ضيعتنا، مع الأسف الشديد.

 

هكذا قلتُ، ثم كرّرتُ على مسامع الشابَّين دعائي بأن تستريح روح أبيهما في جوار ربّها. وخرجتُ وأمّي لتسألني إن كان بوسعنا أن نبتاع بعض المؤونة قبل المغادرة إلى بيروت.
- وهل حوانيت المدينة بعيدة عنّا لنحمل المؤونة من الضيعة يا أمّي!
- سَمِيد الضيعة أطيب، وصعترها له نكهة لا تجدها في مكان آخر.
- أوتعتقدين أنّ في ضيعتنا بعد مَن لا يزال يأتي بالقمح من البيدر، ويغسله، ويبسطه على السطح ليجفّ قبل حمله إلى المطحنة! أو مَن لا يزال يجمع الصعتر من البريّة ثم يدقّه بيده كما من قبل! ألا رحم الله تلك الأيّام يا أمّي.
- حسنًا. نشتري إذًا بعض الزيت من «كريم» صاحب المعصرة.
- ألم يخبركِ أحد أنّ الرجُل أقفل معصرته بعدما هجر الناس كرومهم!... إنتظري حتى يحلّ الخريف فنشتري الزيت في موسمه.
- زيت ضيعتنا يحافظ على جودته سنتَين وثلاثًا. وأجْوَدُه ما يدرّه كرم كريم في «الشِقْفان»، بعد كرْم «موسى» الذي كان لنا في جواره طبعًا.
- حسنًا يا أمّي. لكِ ما تريدين.
- ها هو كريم. نادِه قبل أن يغادر إلى بيته.
وناديتُ كريمًا؛ فتوقّف واستدار، فسلّمنا عليه، وسألته إن كان لديه زيت للبيع بعد؛ فابتسم وقال: «إتبعاني». فتبعناه إلى البيت حيث استضافنا وأكرمنا.
سألتُ الرجُل حاجتنا من جديد؛ فابتسم مرّة ثانية. قلت: «أراك تبتسم كلّما طرحتُ عليك السؤال. ما الأمر؟». قال، وقد تقطّب جبينه: «رُبَّ حزنٍ كامنٌ خلفَ ابتسام». وأضاف وهو ينهض: «هلاّ نزلتما معي إلى تحت من فضلكما». فقمنا ونزلنا خلفه إلى الطابق السفليّ حيث رأينا ستَّ قُلَل فخّارية كبيرة مرصوفة إلى جانب بعضها. وعندما نزع الغطاء عن إحداها، فاحت رائحة الزيت الطيّب الذي لا غشّ فيه.
- لتحلّ البرَكة يا عمّ كريم. قلت.
- والله لم أبِع نقطة زيت بعد. أعرفتما الآن سرّ ابتسامتي الحزينة؟
- ألله كريم، ألله كريم. عسى أن تبقى بصحّتك. هذا هو الأهمّ، قالت أمّي.
- لقد ولّت الصحّة يا أمّ إميل، ولم يعُد باستطاعتي الاعتناء بالكرْم كما في السابق.
- كرْم «الشقفان» هو زينة كروم تلك النواحي. ليردّ الله عنه «العين» والأذيّة.
- عمّا قريب سيصبح مِثل... وقطع كريم كلامه كأنه ندم على ما سبقَ لسانُه عقلَه به من كلام.
- مثل ماذا يا كريم؟
- مثل الكرْم الذي... كان لكم في جوار كرْمي. ماذا أقول لك؟ إنه بحال يُرثى لها. أشجاره التي كانت غَضّة ظليلة، بدأ اليباس يزحف إلى أغصانها، والشوك يلتفّ حول جذوعها.
- كم من مواسم خيّرة جنيناها من هذا الكرم! من حبّة الزيتون المباركة فيه أعْلَينا جدران بيتنا، وأكلنا خبزنا، وعلّمنا أولادنا.
- كلّ الكروم ستُهمَل، وستؤول إلى الخراب يومًا.
- لا أحبّ أن أسمع مثل هذا الكلام يا كريم، قالت أمّي.
- إسمعي حكايتي، فتعرفي أن ما أقوله حقيقة لا مبالغة فيها.

 

وقال كريم: «الموسم هذه السنة كان جيّدًا جدًّا، انقطع ظهري وظهر المسكينة زوجتي قبل أن نتمكّن من جمعه. إلا أن هَمّ نقله إلى طريق السيّارات كان يقضّ مضجعي ويؤرق عيني. قلت: لأدع الأمور حتى يحين حينها. وما مضى أسبوعان حتى كانت الأكياس مكدّسة في الجلول، ويجب نقلها إلى المعصرة بأسرع وقت حتى لا يتعفّن الزيتون ويفسد. فكّرت في وسيلة، وضربت أخماسًا بأسداس؛ فخطر لي خاطر. ليس مَن يُنجدني إلا صلاح من «كفَرْنَبْرَخ».
- صلاح الذي كان ينقل إنتاج كرْمنا بمقطورة جرّاره؟
- هو بعينه... سألتُ كثيرين عن رقم هاتفه، لكن من دون نتيجة. لا أحد في القرية يعرف الرقم. عندئذٍ ركبتُ سيّارتي وتوجّهت إلى بلدته. ولما اهتديتُ إلى منزله، قصدته؛ فقالت زوجته إنه في الكرم، ولن يعود حتى المساء. سجّلتُ رقم هاتفه الجوّال، وفي المساء طلبته.
- الشيخ صلاح؟
- أجل. مَن يتكلّم؟
- أنا كريم أبو عبدالله من «كفَرْقَطْرة». كيف الحال؟ عسى الجميع بخير.
- بخير، والحمد لله. فيمَ أخدمك؟
- ليس لي إلا الله وأنت يا شيخ. لديّ حِمْل مقطورتَين من أكياس الزيتون أودّ نقله إلى المعصرة في بلدتكم.
- حسنًا. دلّني على الكرْم. وغدًا باكرًا أكون عندك.
- أتعرف المحلّة التي يُقال لها «الشِقْفان» على كتف الوادي؟
- أعرفها.
- كرمي يقع عند منتهى الطريق الترابيّ.
- آه يا أخي كريمًا! كم كان بودّي أن أساعدك! لكن لا أستطيع.
- لماذا!!!
- أعرف كرْمك. ألا يقع بعد كرم أبي إميل بقليل لناحية الوادي؟
- بلى.
- لقد ابتُلِيْتُ مرّتَين في نقل موسمه- رحمه الله- من تحت. في المرّة الأولى تَلِفَتْ عجلات الجرّار وهي تدور في مكانها عبثًا على تلك الطريق الوعرة الزَلِقة. وفي المرّة الثانية، وبعد طويل شدّ وكثير نَتْع، انقطعت حلقة الوصل وأفلتت المقطورة. ولولا رحمة الله وجذع شجرة عظيمة علقت به، لاستقرّت وسط النهر في الوادي. فعذرًا يا أخي. لا أستطيع مدّ يد العون إليك؛ فلا تؤاخذني أرجوك.
شكرتُ الرجُل وأقفلت الخطّ، تابع كريم، ورحتُ أبحث عن وسيلة ثانية. قلت: أقصد «نزيهًا». إنّ له شاحنة صغيرة ربما كان باستطاعته أن ينزل بها؛ فقصدته وطلبت مساعدته لقاء الأجر الذي يريده. فقال: شاحنتي معطّلة وعجلاتها ملساء متآكلة. فشكرته وانصرفت. وفي الصباح الباكر كنت أمام باب «أسعد» يونس أطرقه؛ ففتحت زوجة أسعد.
- صباح الخير. أزوجك موجود يا «سِتّ»؟
- نائم. تفضّل. لقد وقع أوّل من أمس من الزيتونة وعطب قدمه.
- يا لهذا الخبر!
ودخلتُ على الرجُل في غرفة نومه، تابع كريم، فوجدته جالسًا في سريره، مادًّا رجْله والجفصين يغلّف كاحله.
- الحمد لله على السلامة.
- ساعة نحس. أنا في السرير والزيتون على الأرض، ولا مَن يلمّه.
- دعْ أحدًا يجمعه؛ فيأخذ حصّته ويعطيك حصّتك.
- أتعرف أحدًا يرضى بنصف الموسم له ونصفه لي؟ كرْمي على الطريق، ولم أجد مع ذلك مَن يرضى بهذا العرض. ماذا جرى للناس! لا أحد يريد أن يتعب ليعيش.
- لقد أفسدتهم بيروت وخرّبت عقولهم.
- أخبرْني عنك. عساك بخير.
- لا والله، لست بخير. جئتُ أرى إن كنتَ تستطيع نقل زيتوني من كرْم «الشقفان» على دابّتك حتى أوّل طريق السيّارات الترابيّ؛ فإذا بي أراك بهذه الحال.
- خذِ الدابّة، ومتى انتهيتَ، أعِدْها. ولكن انتبه، تابعَ ضاحكًا. أحسِن التصرّف معها واحترمْها، فهي الحمارة الوحيدة الباقية في القرية.
 وأخذتُ الدابّة، قال كريم، ورحت أبحث عمّن يسوقها إلى الكرْم حتى أنزل أنا بسيّارتي. بحثتُ كثيرًا، لكن لم أُوَفَّق، في بادئ الأمر، إلى أحد. لا عمّال في ضيعتنا. رحم الله تلك الأيّام التي كان فيها عدد العمّال الغرباء يفوق نصف عدد سكّان الضيعة.
- لماذا يبقون ههنا! قالت أمّي، وأضافت: فيمَ يعملون لو هم بقيوا! البساتين يبست، والكروم أقفرت.
- كيف لا تقفر الكروم وتيبس البساتين ما دامت الضيعة قد خلَت من سكّانها!
- كان الناس يملأون الدروب غادِين إلى كرومهم وعائدين منها في العشايا إلى بيوتهم فرحين قانعين. وكانت الحقول تطرب لغناء الفلاّحين يحرثونها في الخريف، ويزرعونها حنطةً وتعبًا وأملًا، حتى إذا ما أقبل الصيف، لمعتْ مناجلهم وقطرات عرق جباههم تحت أشعّة الشمس وهم يحصدون ثمار أتعابهم.
- آه! لقد جرفنا الحنين إلى الماضي الجميل، قال كريم. لقد تغيّر الناس، وتغيّرت القرية؛ فيا ليت كلّ ما كان يعود.
- ألا تريد أن تكمل سرد حكايتك؟ سألتُ.
- بلى. لا تؤاخذاني، أرجوكما. أرأيتما كيف يحيا الإنسان على ذكرى الماضي! وتابع: «خطر ببالي أن أسأل عن «عاطف»، العامل الذي استأجرته في العام المنصرم لمساعدتي في قطف الموسم لأنه شابّ نشيط، طيّب القلب، قليل الكلام. وإذا تكلّم، فلا تخرج كلمة نابية من فمه ولو ذُبح؛ فقصدته حيث يقيم في تلك الغرفة الضيّقة في المزرعة التي يعمل فيها؛ فوجدته هناك، ودعوته إلى مساعدتي. وفي اليوم التالي كان قبل الفجر عندي».
- فيمَ تريدني أن أساعدك يا عمّ؟ سأل عاطف.
- أريدك أن تقود هذه الدابّة، وأشرتُ إليها، حتى آخر طريق السيّارات حيث يقوم كرمي، بينما أنضمّ أنا إليك بسيّارتي.
- سأنزل بها على طريق «المعبور»، فهو أقصر بكثير.
- حسنًا. وسأكون أنا بانتظارك تحت.
ومضى عاطف بالدابّة. ومضيت أنا بالسيّارة من بعده بأقلّ من ساعة بقليل كي نلتقي تحت في الوقت عينه، فلا أضطرّ إلى انتظاره. لكنني وصلتُ ولم أجده. نظرت ناحية طريق «المعبور» وأصغيت؛ فما لمحتُ له خيالًا ولا سمعت صوتًا. وعدتُ أنظر إلى ساعتي وأنتظر حتى سمعتُ نهيقًا تبعه سِباب وشتائم. قلت: ها قد وصل. ولكن ما باله يسبّ ويشتم، وليس هذا من خِصاله وطباعه!
وأخيرًا وصل وهو يجرّ الدابّة برسنها، والدابّة تتقدّم خطوة وتَحْرُن.
- ما الأمر! لماذا تأخّرت يا رجُل!
- لعنها الله دابّةً. أما كان بإمكانك أن تأتي بغيرها!
- ما بها؟
- إنها حمارة يا شيخ.
- حمارة! كيف اكتشفتَ ذلك! قلتُ، ورحت أضحك حتى ما عاد باستطاعتي أن أقف على رجليّ؛ فجلستُ على الأرض في مكاني.
- لا تعرف أن تمشي مثل الناس... أقصد مثل الحمير. لقد تعثّرتْ ووقعتْ خمس مرّات يا رجُل. ما هذا! لكأنها ما وطئت مثل هذه الدروب في حياتها.
- لا عليك، قلتُ، وأخذتُ رسن الدابّة أسير بها الهُوَيْنى نزولًا، وأُخلي طريقها من كلّ حجر عثرة، حتى وصلنا وكانت الشمس قد ارتفعت في قُبّة السماء.
تفقّدتُ الجُلَّ، وثبّتتُ على ظهر الدابّة حِمْلًا خفيفًا أمتحنها به، وأعطيتُ عاطفًا الرسن، وسرتُ أنا في الخلف. وما قطعنا مسافة قصيرة، حتى تعثّرت الدابّة وترنّحت. ولولا مسارعتنا إليها، لوقعت أرضًا. ثم تابعنا سيرنا صعودًا وقلبي يهبط إلى قدميّ في كلّ مرّة تطأ فيها الدابّة حجرًا غير ثابت. عندئذٍ عرفت أنها «حمارة» حقًّا لا تُحسن انتقاء مَواضع حوافرها. وبعد بضعة عشر مترًا كَبَتْ تحت حِمْلها؛ فأسرعنا إلى رفعه عن ظهرها وإقالة عثرتها. ثم حمّلناها من جديد واتّكلنا على ربّنا، ومشينا. لكنها سرعان ما وقعت مرّة ثانية؛ ففعلنا ما فعلناه في المرّة الأولى. ولمّا تكرّرت عثراتها وتعدّدت وقعاتها، لعنتُ الساعة التي جئت فيها بها؛ فقال عاطف: «بالله عليك يا عمّ. لننقُل الأكياس على ظهورنا، ودعْنا من هذه الدابّة اللعينة».
- وماذا يقول الناس عنّا لو رأونا نفعل ذلك ومعنا دابّة بحجم البغلة!
- ليقولوا ما يقولون. أظنّك تعرف حكاية جحا وابنه والحمار. لا أحد يستطيع أن يرضي كلّ الناس.
وتابع كريم حكايته. قال: «نقلنا الأحمال على ظهورنا حتى تقطّعت من التعب، و«سِتّ الحسْن» ترعى العشب الأخضر في الظل. إلتقطتُ عصًا غليظة، واندفعتُ نحوها لأشجّ رأسها. لكنني عددتُ للعشرة، وقلت: ما ذنب هذه البهيمة المسكينة؟ لقد مضى زمن طويل وهي نزيلة قبو من «خمس نجوم»، تأكل وتشرب وتنام، ولا تخرج إلا «لشمّ الهوا» في المرعى القريب. أرأيتِ يا ستّ أمّ إميل! حتى الدوابّ نسيتْ كيف تمشي على هذه الدروب لأنه لم يعُد لها من شغل في هذه النواحي».
- إنها لحكاية مضحكة ومبكية في آن. قالت أمّي.
- وعند المساء رددتُ الدابّة إلى صاحبها مع الشكر. ثم أكملتُ وعاطفًا في اليوم الثاني ما بدأناه في اليوم الأوّل. واستقدمتُ شاحنة نقلت الأحمال، التي كدّسناها على طريق العربات، إلى «كفرنبرخ» حيث عصرتُ الزيتون، وعدتُ بغلّة وافرة من الزيت الذي يُعَدّ، بحقّ، من الصنف الأوّل. لكنني حتى الآن لم أبِع نقطة واحدة، كما أخبرتكما. أوتعجبان بعد إن قلتُ لكما إنّ كرمي سيصبح عمّا قريب خَرِبًا مثل كرمكم!
وكان أن اشترينا من كريم بعض الزيت، ونقدناه الثمن، وودّعناه، وانصرفنا على نلوي على شيء. وعندما بلغنا آخر البلدة، التفتتُ ناحية بيت فؤاد توفيق؛ فإذا هو محاصَر بغابة من الشوك يسدّ مدخله العريض، ويلتفّ على أعمدته الرخامية، ويتطاول على شبابيكه الحمر الخشبية. وإذا الشرفة الغربية الواسعة التي كانت تعمر كلّ مساء بأهل البيت والأقارب والأصدقاء، خالية، صامتة، و... حزينة.
ما زلتُ أذكر فؤادًا- رحمه الله- أيّام كان يعتمر قبّعة القشّ، ويقف مشرفًا على العمّال يصقلون الحجارة ويرصفونها مدماكًا فوق مدماك. لقد مات فؤاد، وهاجر أولاده وأمّهم، وبقي البيت يبكي مَن بناه.
كانت شفتا أمّي مقطّبتَين بالصمت الحزين، وعيناها غارقتين بالدموع التي ما عتّمَتْ أن سالت خرساء بين تجاعيد وجهها عندما رأت كثيرًا من البيوت مسكونة بالوحشة مثل بيت فؤاد. حتى النادي الذي كانت تُقام على ملاعبه في كلّ صيف مباريات رياضية وحفلات غنائية يحضرها كلّ أبناء القرية والجوار، هو اليوم وحيد، لا أنيس له ولا جليس فيه.
مررنا في طريقنا ببيت قديم نزع «فيليب» صاحبُه، قبل هجرة الجبل إلى بيروت بقليل، سقفَه الذي كان من جذوع صنوبر وتراب، واستبدله بآخر من الإسمنت. وأنزل المحدلة التي كانت، طيلة فصل الشتاء، تصول على السطح وتجول، وتركها ترتاح في ركن قصيّ من فناء البيت إلى جانب جرن الكبّة الحجريّ. أما الحيطان العتيقة فتركت عليها عناصر الطبيعة نُدوبًا وخربشات كثيرة.
فيليب كان أوّل من جاء إلى الضيعة بتلفزيون. وكان الناس يأتون إلى بيته في الليالي، ولو تحت المطر، ليتفرّجوا على «بو سليم»، ويحضروا «بو ملحم»، و«أخوت شانَيْه». ولمّا خلّفتْ أحذية الساهرين كثيرًا من الوحل على الحُصْر في إحدى الأمْسِيات، رفع في اليوم التالي فوق الباب من الخارج لوحة كتب عليها بالخطّ العريض:
يا قاصِدْ عا فِرْجة وبَسْطْ
وحسّاسْ ونفسكْ حرّهْ
لا إنـتْ  بْتبرُدْ عالبِسْطْ
وْلا الجزمةْ بتبرُدْ بَرّا.
فصار الناس يخلعون أحذيتهم خارجًا ويدخلون. وما زالوا يحفظون هذه «القِرّادِيّة» ويردّدونها إلى اليوم.
كان- رحمه الله- صاحب نكتة وروح مرحة. مات بعد مصرع ابنه الوحيد في طريقه إلى بيروت، بوقت قصير. وبعد انتهاء الحرب، لم تعُد زوجته وابنتاه إلى الضيعة مع العائدين؛ فبقين في بيروت. وبقي البيت خاويًا، والتلفزيون، الذي ما يزال على كرسيّه في الزاوية، صمت إلى الأبد.
ووصلنا إلى آخر البلدة حيث يقوم كرْم واسع من العنب والتين، أو بالأحرى ما بقي من ذلك الكرم الذي كان، لسنوات خَلَتْ، مضرب المثل في نضارة أشجاره وجودة ثماره. إنه الكرم الوحيد الذي سيّجه صاحبه؛ فأبناء الجبل لا يسيّجون كرومهم، حتى الواقعة على الدرب منها، لأنّ للرائح والغادي حصّة منها مشروعة.
عندما كان «سعيد» يمدّ الأسلاك الشائكة عند تخوم كرْمه، قال له أحد أبنائه: «يا أبي، أنت تنتحر. من بعدك- أطال الله بعمرك- سيؤول الكرم إلى اليباس؛ فأنا لن أسكن الضيعة لأعتني به». لكنّ سعيدًا لم يقنعه هذا الكلام ولم يثنه عن متابعة تسييج الكرم؛ فسيّجه، وبقي يبذل في سبيله المال والتعب إلى أن تقدّمت به السنّ. وفي أحد الأيّام انكسر به أحد أغصان التين؛ فوقع وكسر ساقه، وعجز الأطبّاء عن إصلاح ما أفسده العمر وشجرة التين؛ فأخذ الكرم يتراجع، واليباس يزحف ويتقدّم في عروق أشجاره.
- أليس هذا سعيدًا مَن يجلس في ظلّ الدالية هناك؟ سألتْ أمّي.
- إنه هو.
- ماذا يفعل!
- قيل لي إنه يأتي إلى الكرم في كلّ صباح جارًّا قدمَيه جرًّا لينظر إليه بحسرة و... يبكي.
والتفتتُ جانبًا؛ فإذا الجُلول التي كانت أمس بساتين وجنائن، قد غزاها الشوك وأشجار البطْم والملّول والسنديان، وسقطت أجزاء كبيرة من حيطانها. واحسرتاه على هذه الجِنان كيف بارت واضمحلّت! كم مرّة تشاجر الناطور والراعي «شكري»، ووصل الأمر إلى حدّ السِباب والعراك لأنه كان يغضّ الطَرْف عن عنزاته كلّما تعدّت التخوم، وأناخت بقوائمها غصن توت أو دالية. فيا ليتك تعود يا شكري لترى هذه الأرض ما حلّ بها! إنك لتستطيع اليوم أن تترك قطيعك يرعى أينما كان من دون شجار مع الناطور. فهذا الرجُل لم يعُد له من عمل ههنا.
أوقفتُ سيّارتي، وترجّلت، ومشيت باتّجاه العين التي كانت أمس تبرّد غليلنا وتروي عطش البساتين. لكنني لم أجدها. فأين اختفت، ولماذا انقطع خريرها! لا بدّ من أنها جفّت لأنّ الوفاء لها في صدور الناس قد جفّ.
حتى عصافير «الدوري» و«بو الحِنّ»، و«سنّ المنجل» رأيتها تفرّ من أمامي قبل أن أصل إليها بمسافة طويلة. بالأمس كانت رفيقة الإنسان تجاوره وتأنَس إليه. أما اليوم فأصبحت تخافه وتهرب منه لأنها ما عادت تعرفه.
يا ضيعتي التي رحلتُ عنها وبقي قلبي عالقًا فيها. كيف أحيا في بيروت من دونه ومن دونك! هذا المجنون بكِ رفض النزول معي، ليبقى فوق، يخرج كلّ صباح ليتدحرج على الدروب التي طالما وقعتُ عليها صغيرًا، وسلكتُها فتىً إلى كرْم الزيتون على كتف الوادي، وبستان الليمون على ضفّة مجرى نبع الباروك.
بقي قلبي فوق ليستيقظ كلّ فجر على صياح ديكنا الرصاصيّ في الخمّ القريب، وعلى تغريد البلابل والحساسين في السنديانة التي تخفر مدخل بيتنا، ويشاهد «نجمة الصبح» تلمع قنديلًا في السماء لناحية الشرق طيلة شهر أيلول.
رفض قلبي النزول معي ليتمكّن من أن يهيم كلّ يوم في البراري التي كنتُ أجمع منها لأمّي أغصان الوزّال لـ «تسطَح» عليها أكواز التين، ثم يعود تاركًا بعضًا من دمه على أغصان الشوك التي كنت في كلّ مرّة أترك عليها شيئًا من دمي.
يا ضيعتي التي كنتُ أسهر في ضوء قمرك لأحفظ دروسي، غدًا يحتجب هذا القمر خلف غيوم الخريف. ثم يأتي الشتاء ليكدّس ثلوجه على قرميد بيوتك، ويسدّ طرقاتك، ويكلّل هامات أشجارك. وعندما يطلّ الربيع، تتفتّح الأزهار في أغصان الشوك والقندول، أما هذه الشجرات، التي ما زالت تغالب العطش والموت الموجع، فإنها لن تزهر أبدًا.