الجيش والمجتمع

بالقانون نحمي ثروتنا الثقافية
إعداد: ندين البلعة خيرالله

حين يلتزم الجيش مهمةً، يتابع فيها حتى النهاية، ينفّذها بإتقان ولا يرضى الحلول الناقصة. هذا هو المبدأ الذي انتهجه تحديدًا فوج الأشغال المستقل في المهمة الجديدة نسبيًّا التي أخذ على عاتقه تنفيذها منذ انفجار مرفأ بيروت ٢٠٢٠، مهمة حماية الإرث الثقافي. وانطلاقًا من سعيه إلى تطوير قدراته، ومهارات ضباطه وعسكرييه في هذا المجال، يستمرّ تعاون الفوج مع جهات كثيرة معنية محلية ودولية.

 

التعاون الجديد الذي حصل أخيرًا وللمرة الأولى، كان مع جهاز أمني يُعنى بهذه المهمة، وحدة الكارابينييري Carabinieri الإيطالية (قوات الشرطة الوطنية والأجنبية المعنية بالتراث الثقافي) ذات الخبرة العالمية الطويلة والعميقة في هذا الموضوع، ضمن البعثة العسكرية الإيطالية الثنائية في لبنان MIBIL. جاء هذا التعاون ليكمّل جهود الفوج التدريبية في المجالَين النظري والعملي في حماية الممتلكات الثقافية، ويمتدّ ليطال الجانب القانوني الدولي لهذه المهمة.

قائد الفوج العقيد الركن يوسف حيدر شدّد على أهمية تبادل الخبرات المستمر مع المنظمات المدنية المعنية بحماية الإرث الثقافي، وتحدّث عن هذه الدورة التي ترتكز إلى خبرات عسكرية عالمية تشكّل قيمة مُضافة للجهود التي يبذلها الفوج بهدف تطوير هذه القدرة الحديثة نسبيًّا لديه، أي قدرة حماية الممتلكات الثقافية CPP. أمّا القيمة المُكتسبة من الكارابينييري فهي البُعد القانوني الذي يشكّل أساسًا وإطارًا للمهمات المرتقبة.

شمل برنامج التعاون مع الكارابينييري عدّة زيارات إلى مواقع أثرية مختلفة، من بينها: المتحف الوطني حيث كان في استقبالهم المدير العام للآثار، والمكتبة الوطنية، وموقع بعلبك الأثري، ومتحف قاعدة رياق الجوية وموقع جبيل الأثري. وقد هدفت هذه الزيارات إلى تعريف الفريق الإيطالي على ثروتنا الثقافية، الإطار الذي يتدرّب ويعمل عليه الفوج في هذه المهمة.

في موازاة زيارة الكارابينييري إلى الفوج، كان عسكريوه يتابعون تدريب المستوى الثاني المتقدّم (لمدة ثلاثة أشهر) من برنامج «جهوزية» بالتعاون مع جمعية «بلادي». وقد شارك أعضاء الفريق الإيطالي في هذه الدورة التي اكتشفوا من خلالها المستوى المتقدّم الذي بلغه الضباط والعسكريون، ومهاراتهم المميزة والتزامهم الاستثنائي. كما شاركوا في تمرين مُشترك أُجري في فوج الأشغال المستقل مع «جهوزية» ضمن سيناريو حدوث فيضان وكيفية التعامل مع هذه الكارثة من ناحية حماية الممتلكات الثقافية.

ها هي دائرة التعاون بين فوج الأشغال المستقل والجهات المختلفة المعنية بحماية الإرث الثقافي في العالم تتّسع، لتزيد عناصره خبرةً ومهارات وقدرات تجعل جيشنا من الجيوش القليلة والمميزة في العالم في ما خص العمل على حماية الممتلكات الثقافية خلال الأزمات والمحافظة عليها.

 

ضباط الفوج: دورة هي الأولى من نوعها

يتفق الضباط الذين تابعوا هذه الدورة مع الكارابينييري على أن أهمية هذا النشاط التدريبي الأول من نوعه تكمن في كونه أول تبادل للخبرات مع مؤسسة عسكرية محترفة ومنظمة تعنى بحماية الممتلكات الثقافية، إضافة إلى التعرف على القوانين والمعاهدات الدولية التي تتم من خلالها استعادة الممتلكات الثقافية المسروقة والمنقولة من دولة إلى أخرى، والإجراءات المتخذة للحد من الجرائم المستهدفة للإرث الثقافي والإتجار غير المشروع بالقطع الأثرية. وقد تضمّنت هذه الدورة معلومات ثمينة حول برامج متخصصة في هذا المجال، وخصوصًا قاعدة بيانات «ليوناردو» للتراث الثقافي لتعقب القطع الأثرية ومعرفة مكان وجودها وملكيتها مع مراعاة كل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة لحماية الملكية الثقافية، وتطبيقات جديدة (I.D.ART) وكيفية استخدامها لتحديد ومعرفة المقتنيات الأثرية في حال كانت مفقودة أو مسروقة.

إلى ذلك، اطّلع ضباط الفوج على كيفية استقصاء المعلومات، وتخزينها بشكل مركزي ومقارنتها، والمتابعة القانونية للقطع، وطرق التدخل وتنظيم الفرق في حالات الطوارئ. وتعرّفوا على أساليب تبادل المعلومات بين الشرطة الإيطالية والإنتربول والأوروبول واليونيسكو ودول أخرى تُعنى بحماية الممتلكات الثقافية، وكيفية تعامل السلطات الإيطالية مع حماية وصون الآثار من الناحية القانونية مع أشكال المخالفات وانتهاك المعالم الأثرية.

 

الفريق الإيطالي: خبرة انطبعت في ذاكرتنا!

لقد كانت زيارة الفريق الإيطالي إلى فوج الأشغال المستقل مميزة ومثمرة بحسب ما عبّر عنه أعضاء الفريق. فالكارابينييري معتادون على التدريب والتعاون مع القوات المسلحة في مختلف الدول نظرًا لتشابه المهمات كشرطة قضائية، أما المهمة في لبنان إلى جانب الجيش اللبناني فتُعتبر مميزة واستثنائية وتحدّيًا جديدًا بالنسبة إليهم.

قائد الفريق Warrant Officer Luigi Portacci يلفت إلى أن زيارة فريقه المؤلف من ٣ كارابينييري والمتخصص في حماية التراث التاريخي والأثري والثقافي، هي ثمرة تعاون مكثف بين لبنان وإيطاليا في مهمة التدريب الثنائي. ويقول: «نظرًا إلى خبرتنا الكبيرة في هذا المجال، منذ العام ١٩٦٩ (حتى قبل عام واحد من الاتفاقية مع اليونسكو ١٩٧٠)، ومهنيتنا المُعترف بها عالميًّا، يسعدنا أن نكون هنا لتبادل المعارف مع الجيش اللبناني». 

المدرّب Warrant Officer Mirko Marchitto تحدّث عن أهمية الإرث الثقافي وحمايته، وقال: الثقافة تعني الهوية، ولا ينبغي أن يكون لأحد الحق في تدميرها أو بيعها بعيدًا. وبما أن لبنان أرض غنية بالمكتشفات والهياكل ذات الأهمية الثقافية، فهناك حاجة ماسة إلى حمايتها والحفاظ عليها. كذلك، من الضروري رفع مستوى المعرفة والجهوزية لاحتمال حدوث كوارث قد تضرّ بالتراث اللبناني، وحول التهديدات من المنظمات الإرهابية.

لاحظ الفريق الإيطالي، بعد الاطلاع على المهمة التي نفّذها الفوج عقب انفجار مرفأ بيروت، تشابهًا في الإجراءات المُتخذة والتنفيذ العملي للمهمة بين الجيش اللبناني و«الخوذات الزرقاء» الإيطالية للدفاع عن الهوية الوطنية. ويقول قائد الفريق: «دُهشنا بالقوة والفاعلية اللتَين أظهرهما الجيش اللبناني وخصوصًا فوج الأشغال المستقل عقب انفجار المرفأ. سمحت سرعتهم واحترافهم – بالتعاون مع خبراء من وزارة الثقافة اللبنانية - بإنقاذ وتأمين الكثير من القطع الثقافية المنقولة وغير المنقولة. وقد لمسنا هذه المهارات خلال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها هنا، فهذا الفوج قادر على التدخل السريع على الأرض ويملك كل المواد والمعدات التي يحتاجها لتأمين المباني الأثرية، وإنقاذ القطع الثقافية والأثرية من بين الأنقاض. من الصعب جدًّا إيجاد مثل هذه المهارات في هذا القسم من العالم الذي وللأسف تعصف به الكثير من الأزمات والصراعات. عليهم أن يفخروا بهذا الأمر». 

وبعد أن زار الفريق الإيطالي الكثير من المواقع الأثرية، يغادر حاملًا معه ذكرى مشاهد رائعة من عظمة قلعة بعلبك الأثرية، إلى روعة سوق جبيل القديم والبقايا الأثرية فيها، وبالطبع بيروت نفسها بمتحفها الغني بالإرث الثقافي ومكتبتها الوطنية. ونظرًا إلى الحالة الرائعة التي تتميز بها المواقع الأثرية اللبنانية، يثني أعضاء الفريق على الجهود المبذولة للاعتناء بتراث لبنان وحمايته، على الرغم من الوضع الاقتصادي الصعب. ويضيفون: «نحمل معنا علاقة التعاون المميزة مع عناصر الفوج، ونحن ممتنون لحسن ضيافتهم وتعاونهم غير المشروط». 

وختم قائد الفريق قائلًا: «لقد أثبتم كفاءتكم خلال المأساة الأخيرة التي ضربت بيروت، وقد يكون من الرائع أن نتصافح كزملاء في «الخوذات الزرقاء» لحماية الإرث الثقافي. يستطيع لبنان الاعتماد دائمًا على الدعم الإيطالي»!

 

الكارابينييري

الكارابينييري هي الشرطة الإيطالية، وهي تضمّ وحدة متخصصة - TPC (قوات الشرطة الوطنية والأجنبية المعنية بحماية التراث الثقافي) تدعم تعاون الشرطة الدولي عبر الإنتربول واليونيسكو لوقف الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. وقد قامت هذه الوحدة بأنشطة دعم في أثناء عمليات حفظ السلام (كما حدث في العراق بين عامَي ٢٠٠٣ و ٢٠٠٦). وتعمل هذه الوحدة بالتعاون الوثيق مع اليونيسكو وتمثّل مرجعًا دوليًّا للكثير من البلدان التي تسعى إلى تحسين سياساتها وتعزيز إجراءاتها لمكافحة الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، وقد استفادت ٢٦ دولة في كل أنحاء العالم من دورات تدريبية لقوات الشرطة وموظفي الجمارك.

 

«جهوزية»

تبادل المتدربون من فوج الأشغال المستقل خبرتهم السابقة من تدريباتهم مع جمعيات ومؤسسات مدنية دولية ضمن برنامج «جهوزية» ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ لحماية الممتلكات الثقافية والاستجابة للطوارئ، والذي تنظّمه جمعية بلادي بالتعاون مع فوج الأشغال المستقل، وبمشاركة متدرّبين من الجيش، والجامعات (العربية، الأميركية والروح القدس-الكسليك)، والدفاع المدني، والصليب الأحمر، والمديرية العامة للآثار، وقوى الأمن الداخلي- مكتب مكافحة السرقات الدولية. وقد احتلّ برنامج «جهوزية» المركز الأول من بين ٦٠ حلًا للسلام في إطار منتدى باريس للسلام – Paris Peace Forum، وقد وصفه قائد الفوج العقيد الركن حيدر كـ«بارقة أمل لتاريخ أمتنا في وجه الأزمات وحالات الطوارئ، فحين ننقذ تراثنا ننجح في الحدّ من تأثير الأزمة».