رحلة في الانسان

بالممارسة والتدريب تتفتق المواهب وتنمو المقدرة على الإبداع
إعداد: غريس فرح

المقدرة على الإبداع أو الإبتكار، صفة بشرية مميزة، رافقت الإنسان منذ وجوده وكانت أحد مفاتيح تقدمه واستمراره.

فلولا هذه المقدرة الفطرية الخارقة، لما تمكن أجدادنا من مواجهة المصاعب بالحلول المبتكرة، ولما تمكنوا من اختراع وسائل مكنت ذريتهم من البقاء.

وهذه المقدرة كما هو معروف، موجودة في أعماق كل منا، علماً أنها تطورت تدريجاً بتطور الدماغ وتعقيدات الحياة الحضارية. إلا أن نموها السريع واللافت خلال العقود الخمسة الماضية لم يحصل تلقائياً، إنما جاء كنتيجة حتمية لممارسات مدروسة، الهدف منها تفعيل طاقات الأدمغة الكامنة، والسعي لاستغلالها لمصلحة التطور العلمي بأساليب موجهة. من هنا التركيز الحالي على العنصر البشري، أو ما أصبح يعرف بالموارد البشرية، باعتباره منبع الطاقات الكامنة ومحرك التطوّر في المجالات كافة.

فكيف يتم استغلال القدرات البشرية الابداعية في المؤسسات العصرية، وما هي أحدث التقنيات المستخدمة لتحفيز هذه المقدرة وبلورة معطياتها؟

 

 تحفيز القدرات

 المقدرة على الابتكار كما تؤكد الدراسات، ليست حكراً على الأذكياء دون سواهم، بل صفة تميّز البشر بشكل عام. وهي لكي تتبلور وتنمو بالسرعة التي يتطلبها العصر، تحتاج الى مناخات عمل ملائمة والى عوامل محفزة مختلفة كانت محور دراسات أصحاب الاختصاص، وفي مقدمتهم نخبة من علماء النفس والاجتماع، ومدراء المؤسسات العامة والخاصة.

ونتيجة لمراقبة قطاعات عمل الموظفين، وخصوصاً في المؤسسات التي تعنى بالاختراعات العصرية، ثبت أن الميل الى الابتكار هو ميل فطري يقود المعنيين في معظم الأحيان الى تحقيق الإنجازات اللافتة بأشكال تختلف باختلاف الأفراد. وهو عموماً يحصل كنتيجة لتفاعل النزعات الفردية مع مناخ العمل. إلا أن هذا الميل قد لا ينمو عند الأكثرية الساحقة إلا عن طريق التدريب المتواصل والمدروس، والذي من شأنه تحريك كوامن النفس وتحفيز قدراتها بالطرق العلمية. ولإثبات ذلك، عمل العديد من اختصاصيي علم النفس خلال العقود الأخيرة على مراقبة مئات المؤسسات التي يعتمد نجاحها على فعالية مواردها البشرية، وكانت النتيجة مذهلة للغاية.

لقد ثبت بدون ريب، أن المؤسسات الناجعة والمتمكنة من تحفيز أدمغة أفرادها باتجاه الابداع، هي تلك التي تؤمن المناخات المنوّعة، وتفسح بالمجال أمام المغامرات الفردية والجماعية، بالإضافة الى اعتماد أسلوب ديناميكية الفوضى الإيجابية المتمثلة باقتحام دوامات الأهداف المستقبلية المعقدة، وتيارات الفكر المتعددة المنشأ.

لا بد من الاشارة هنا الى أن الفوضى الإيجابية بالمفهوم العلمي، هي عدم حصر الفكر الإبداعي في خط تصاعدي موحّد، إنما العمل على نشر معطياته في كافة الإتجاهات، الأمر الذي يؤمن للعاملين في المؤسسات فرصة المشاركة بالإبداع وبالتالي تحقيق الانجازات المطلوب تحقيقها على المستويات كافة. بهذا يتأمن استمرار العمل المبدع، ويتحصن الفكر في وجه أمراض الركود وسمومه، ليتغذى من منابع الحركة والتجديد.

 

تفاعل الدماغ مع المناخات الضاغطة

 لإلقاء المزيد من الضوء على هذه الناحية البالغة الأهمية، شملت الدراسات طرق تأقلم الأدمغة مع مناخات العمل الضاغطة وكيفية تفاعلها وصولاً الى تحقيق الأهداف المرسومة. وكانت النتيجة بالطبع لصالح ديناميكية العمل.

فالدماغ البشري السليم مبرمج بالفطرة للتأقلم مع مستجدات البيئة الطارئة والتفاعل تدريجاً مع معطياتها، وصولاً الى مرحلة اكتساب المناعة الشاملة. وهذا بالطبع يؤمن لمن قدر له مواجهة المصاعب والتحديات، وخصوصاً في أجواء العمل، سرعة التحرك لايجاد الحلول المبتكرة والمناسبة. لذا فإن المؤسسات العصرية التي تمنح أفرادها فرص اقتحام المجهول وخوض المغامرات عن طريق تنفيذ مشاريع مستقبلية معقدة، تقودهم بطريقة لا  إرادية الى اكتشاف قدراتهم الابداعية الكامنة، وتزوّدهم بالتالي بمفاتيح أسرار النجاح والشهرة.


 التدريب والرؤية الدائرية

الاختصاصيون الذين راقبوا عن كثب طرق التواصل البشري المؤدية الى تفعيل الإبداع، لاحظوا اختلافاً لافتاً بين الحقيقة والنظرة التقليدية الشائعة. فهذه الأخيرة توحي عموماً برسم الأهداف المستقبلية من خلال التطلّع الى الأعلى، وهي طريقة تحول دون حرية التحرك الدائري لاقتناص الفرص السانحة.

فالتطلّع الى الأمام لا يستوجب تحديداً التركيز على استغلال الأدمغة المتفوّقة في المراكز العليا، لأن الفرص المستهدفة قد تكون بمتناول الفرق العاملة في المستويات كافة. بمعنى أن تقنية تطوير للأدمغة يجب الا تقتصر على فئة البارزين من الموظفين، لأن الأفراد في كافة المناصب مؤهلون بالفطرة للعمل في الاتجاهات كافة، وذلك في حال الخضوع للتدريب المهني والتأهيل النفسي المناسبين. من هنا ضرورة وضع الأدمغة العاملة كافة في مناخ ديناميكية العمل الذي يؤمن التأهب الفكري العام، ويوقظ منابع الإبداع الفردي والجماعي.

 

دور العمل الجماعي

تعتمد المؤسسات الناجعة كافة الخطط الطويلة المدى من أجل تحقيق أهدافها، وذلك بالاعتماد على خبرة مواردها البشرية، ومن خلال إعطاء أهمية بالغة للعمل الجماعي، أو فرق العمل التي تصهر الأفراد في بوتقة التفاعل المهني.

هذا النمط العصري الذي يميز العمل في المؤسسات عموماً، لم ينشأ عشوائياً، بل تحقق نتيجة دراسات اشترك فيها خبراء في المجالات العلمية والتقنية والنفسية، وهذه الدراسات أكدت أن العقل البشري يعمل بطواعية أكبر عندما يخضع لضغوطات المنافسة الإيجابية في المجال الجماعي. لذا فإن فرق العمل التي تنصهر عبرها أفكار العاملين في أجواء المنافسة، تشحن أدمغة هؤلاء بايقاعات متناغمة توحد اتجاهاتهم وتحفّز قدراتهم الكامنة.

على كل، فإن الحوافز الفردية لا تنمو، كما ثبت، في إطار المجموعات العاملة، الا إذا سنحت لكل من أفرادها فرصة إثبات الذات، والاستمتاع بلذة الإبداع في مجال اختصاصه. من هنا يوصي المدراء والقيمون في المؤسسات عامة بالتركيز على قدرات الأفراد الشخصية وإخضاعها للتدريب والتطوير تمهيداً لبلورة الكفاءات والمهارات الفردية. وهذا بالطبع لا يتحقق إلا من خلال تطوير قدرات فطرية، أهمها ما يلي:

 

*  الميل الى التقاط الأفكار الجديدة:

إن الميل الى التقاط كل ما هو جديد والاحتفاظ به لاستخدامه لاحقاً لصالح العمل، هو صفة مميزة تسعى المؤسسات المعاصرة الى تنميتها على مستوى الأفراد، وذلك عن طريق وضع برامج التأهيل والتدريب المهني.

وتجدر الإشارة هنا الى أن هذا الميل يميز عموماً الفنانين والمخترعين الذين يجمعون أشياء قد يحتاجونها لإنجاز أعمالهم القيمة.

 

 *  المقدرة على مواجهة التحدي:

من المعروف أن المشاكل العالقة تخيف البعض، إلا أنها تشكل بالنسبة للبعض الآخر فرصة لمواجهة التحدي وإثبات الذات. من هنا ضرورة تدريب الأفراد على المواجهة وعدم الاستسلام للظروف تمهيداً لاكتشاف القدرات الشخصية واستخدامها لمصلحة الإنتاج.

 

 *  الاهتمام بتوسيع آفاق الفكر والمعرفة:

هذه المقدرة لا تنمو الا بالتدريب والممارسة والانكباب على تعلم مهارات جديدة. والمؤسسات المعاصرة قد تنبهت لهذه الناحية البالغة الأهمية وفتحت بالتالي أبواب العلم والمعرفة والاختصاص أمام أفرادها، من أجل تشجيعهم على التنافس ومن ثم التفاعل المجدي في مناخات عملها.

 

 *  كسر رتابة العمل:

إن رتابة العمل، أو اضطرار الأفراد الى تكرار العمل اليومي ذاته، يشل الفكر الإبداعي، ويقود الى العزوف اللاإرادي عن كل ما هو جديد. من هنا اهتمام القيمين في المؤسسات بضرورة كسر هذه الرتابة المدمرة عن طريق تغيير مناخات العمل، ونقل الموظفين من حين الى آخر الى مراكز جديدة، ومن ثم تدريبهم على القيام بمهام تحرك حماسهم وبالتالي تحفز مقدرتهم على الابتكار والتجديد.

هذه وسواها من الخطوات التي تأخذ بالاعتبار المشاعر البشرية في بيئات العمل، أصبحت اليوم جزءاً من مسؤولية القادة والتي منها اكتشاف مواهب الأفراد. هذه المواهب التي لا تنضج الا بالمنافسة، ولا تظهر للعيان الا من خلال اثبات الذات في أجواء لا وجود فيها لمستنقعات الكسل والخمول.