سياحة في الوطن

بتخنَيه البلدة المدلَّلة في قضاء بعبدا
إعداد: جان دارك أبي ياغي

على ربوةٍ خضراء تتعانق فيها ظلال أشجار الصنوبر مع نسمات المتن الأعلى، تتربّع ”بتخنَيه“ بزهو عروسٍ جبلية ينسج الهدوء من حولها هالةً من الفتنة والجمال. هي من القرى اللبنانية الآسرة، التي تتناغم فيها روعة الطبيعة مع صفاء الأرياف. ومن عُليّها، تُشرف على مشهدٍ بانوراميّ للبحر، يأسر البصر وينعش الروح. في ربوعها، حيث هَمْس النسيم ونقاوة السكون، يجد الهاربون من صخب المدينة ملاذهم الآمن في حضن السكينة والحنين.

 

تحتضن بتخنَيه جمالًا طبيعيًّا وتنوّعًا في تضاريسها ومعالمها. فالبلدة محاطة بغابات السنديان والصنوبر، وتنتشر فيها الينابيع الصغيرة والمساحات الخضراء التي تشكّل دعوة مفتوحة لعشاق المشي والتنزّه في الطبيعة. في فصل الربيع، تكتسي أراضيها بحلّةٍ من الأزهار البرّية، فيما تتحوّل البلدة، في أجواء الصيف السّاحر، إلى مصيفٍ هادئ يقصده الزوّار للاستمتاع بالمناخ المعتدل والمناظر الخلابة.

 

سياحة بيئية وريفية

تُعد البلدة وجهةً مثاليّةً لمحبّي السياحة البيئية والريفية، إذ تتيح للزائر اختبار نمط العيش البسيط، والمشاركة في مواسم قطاف الزيتون والكروم، وتذوّق المنتجات المحليّة من دبسٍ ومربّيات بلدية وأعشابٍ جبلية. كما تنظَّم في محيطها، من حينٍ إلى آخر، نشاطات بيئية وثقافية، بالتعاون مع بلدات الجوار كرأس المتن وعين تراز.

ترتفع بتخنيه عن سطح البحر 1100 مترٍ، وتبعد عن العاصمة بيروت 33 كلم عن طريق عاليه – حمانا. يشتق اسمها من السريانية وهو «بيت خني» ويعني: بيت الخصب، ومصغرها بيت خُني، أي: بيت القناطر، أو «بيت هُني» أي: بيت الهناء والراحة والسعادة.

 

بلدة العلم والضيافة

عُرفت بتخنيه تاريخيًا ببلدة العائلة الواحدة، «آل أبو الحِسن»، وهي العائلة التي انطلقت منها فروع عديدة استقرّت لاحقًا في قرى القلعة وقبّيع والشبانية، وفي مدينتَيْ عاليه وبيروت. ومع مرور السنوات سكن في بتخنيه عددٌ من العائلات الأخرى من مناطق الجبل، ما أضفى على البلدة تنوّعًا اجتماعيًا متماسكًا.

يراوح عدد سكّانها المقيمين بين 1700 و2000 شخص، ويُشهد لهم بحسن الضيافة والودّ، ما يترك في نفوس زوّارها شعورًا دافئًا بالانتماء والطمأنينة، ويجعل من زيارتها تجربة لا تُنسى.

اشتهر تاريخ أهل البلدة بالزراعة وتربية المواشي وتربية دود القز لإنتاج الحرير، بالإضافة إلى صناعة الموارج والمحاريث. كما عُرفوا بشغفهم بالعلم والمعرفة، إذ تضم نسبة كبيرة من المتعلِّمين وحمَلَة الإجازات الجامعية بين قرى الجبل، وفيها الشعراء والكتّاب والدبلوماسيون وغيرهم من أصحاب الكفاءات.

شكّلت الهجرة ظاهرة بارزة في تاريخ البلدة، إذ انطلقت موجاتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، وشملت فنزويلا والبرازيل والولايات المتحدة وكندا. ويُقدّر عدد أبنائها المنتشرين في العالمين العربي والغربي بحوالى ثمانية آلاف نسمة.

معالمها التراثية

على الرغم من غياب المواقع الأثرية البارزة، إلّا أن بتخنيه تجذب زوّارها بطابعها القروي الأصيل، الذي يتجلّى في منازلها الحجرية القديمة ذات سقوف القرميد المعقودة، وكنيستها الصغيرة التي تجسّد ارتباط البلدة بالتراث الديني اللبناني، فضلًا عن الينابيع والعيون الأثرية، وبرج الساعة الذي يزيّن أحد أطرافها.

من معالمها أيضًا، «قلعة أديب» وهي قصر يعود لرجل الأعمال أنور أبو الحسن، يشبه في طرازه المعماري قلاع القرون الوسطى، ما جعله محطّ أنظار صنّاع الدراما والفن، فاستُخدم كموقع تصوير لعددٍ من الأغاني والمسلسلات التلفزيونية وأشهرها «مسلسل ياسمينا».

يضفي الطابع العمراني للبلدة مزيدًا من الخصوصية على هويّتها القروية، إذ تضم نحو 150 منزلًا تغطّيها سطوح القرميد ذات الطابع الإيطالي، إلى جانب مبانٍ حديثة تخدم مختلف مجالات الحياة، ومن أبرزها: المدرسة الرسمية، المركز الاجتماعي لرابطة آل أبو الحسن، نادي بتخنيه، الجمعية النسائية الخيرية، المستوصف، مركز طب الأسنان الوقائي، المكتبة العامة، صالة للاحتفالات، المجلس الروحي للطائفة الدرزية، والخلوة الخاصة بالعبادة، وغيرها من المرافق الاجتماعية والثقافية.

 

خطة إنماء وتطوير

في لقاءٍ معه، يوضح رئيس البلدية الدكتور عصام أبو الحسن أنّ مبنى البلدية المميز بطابعه القروي كان في الأصل ناديًا رياضيًا يعود لوقف البلدة، وقد تمّ تحويله إلى مبنى بلدي في العام 2021 بدعم ٍمن البلدية السابقة، مع إجراء بعض التعديلات والتجهيزات اللازمة ليتلاءم مع متطلبات العمل البلدي.

وضع المجلس البلدي خطة عمل بهدف إنماء بتخنيه وتطوير مرافقها. تتضمّن الخطة حفر بئر إرتوازي يغذي البلدة التي تعاني شحًّا في المياه، وإنشاء ملعبٍ رياضي في المدرسة الرسمية، بالإضافة إلى تركيب كاميرات مراقبة، وتعبيد الطرق، مع فتح طرقٍ زراعية للحد من انتشار الحرائق، وإنشاء برك مياه اصطناعية داخل الأحراج تسهم في إطفائها.

ويشدّد رئيس البلدية على أهمية الحفاظ على الطابع القروي للبلدة، مشيرًا إلى أنّ النمط المعتمد يقضي بأن تكون 60% من الأبنية حجرية وسقوفها من القرميد. كما أكّد اهتمام المجلس البلدي بالحدائق العامة  والمستديرات المزروعة بالأزهار والمنحوتات الفنية.

على صعيد الأنشطة الاجتماعية، تنظم البلدية سنويًا، في شهر آب، مهرجان المنتوجات البلدية، وسهرة قروية يجتمع فيها الأهالي في ساحة البلدة، وسط أجواء غنائية وموسيقية، إلى جانب نشاطات فنية وثقافية متنوّعة، ولقاء خاص للمغتربين للتداول في شؤون البلدة وحاجاتها.

وفي السياق، أشار أبو الحسن إلى أنّ غابات الصنوبر، التي تُعد أهم مصدرٍ للمنتوجات، لم تعد تنتج كما في السابق، وهو بصدد إعداد دراسة بالتعاون مع وزارة الزراعة لتحديد الأسباب ووضع الحلول المناسبة. وأوضح أنّه يعوّل على مساهمة أبناء البلدة، من مقيمين ومغتربين، في دعم هذه المشاريع وتمويلها.

وختم بالتأكيد على التزامه تعزيز الريادة في الحوكمة البيئية المحلية، مشددًا على تمسّك بتخنيه بإرثها الطبيعي وهويتها القروية ودورها في الحماية المجتمعية.

 

بتخنَيه... البلدة التي أنجبت ”أخوت شانَيه“

ليست بتخنيه بلدة تضجّ بالمرافق السياحية، لكنها تحمل في وجدانها إرثًا ثقافيًّا مميزًا، يكفي أنّها أنجبت أحد أبرز وجوه الكوميديا اللبنانية، الفنان والممثل والمخرج المبدع الراحل نبيه أبو الحسن (1934-1993) المعروف بلقب «أخوت شانَيه» الذي ترك بصمة لا تُمحى في المسرح والتلفزيون اللبناني.

 

من هو ”أخوت شانَيه“؟

في أثناء حكم الأمير بشير الشهابي للبنان أيام العثمانيين، كان هنالك شخص يُدعى حسن حمزة من شانيه – قضاء عاليه، عُرف بذكائه الطريف وميله إلى الخفة والأقوال المستغربة أحيانًا، وقد اشتهر باسم «أخوت شانيه». وكان الأمير الشهابي يحبه كثيرًا ويستقبله في قصره (بيت الدين) في أي وقت يزوره. وكان حمزة مقرّبًا أيضًا من زوجة المير بشير الأولى الست شمس، ويُنسب إليه اقتراح حل جذري لأزمة المياه في قصر بيت الدين عبر جلب المياه من نبع الصفا، في واقعة طريفة تحولت إلى أسطورة محليّة.

عند تشييد القصر الذي شارك في بنائه أشهر البنّائين اللبنانيين، وقد استغرق عشر سنوات لإنجازه بتكلفة باهظة جدًا، واجه مشكلة نقص في عين الماء التي كانت تروي بيت الدين ولم تَعُد كافية للموظفين والجند المقيمين في القصر الجديد، فشكّل هذا الأمر كارثة على الناس وبدأوا يتذمرون من هذه المشكلة. وعندما وصل الخبر إلى أخوت شانيه، قال: «لمَ لا يُحضرون مياه النبع إلى القصر؟» فسخر منه الناس!! ولكنّ القصة بلغت مسامع الأمير بشير والمهندسين، فأخبروه أنها فكرة ممكنة.

اقترح «أخوت شانيه» على المير بشير أن يدعو شعبه لاجتماع طارئ يعلن فيه أنّ الضيعة وسكَّانها والساكنين في القصر سوف يموتون عطشًا إن لم تُجرّ المياه إليها. وطلب أن يصطف السكّان في خط طويل من القصر حتى النبع، فيحفر كل شخص قبره بنفسه حتى يُدفن فيه إذا مات من العطش. وبالفعل هذا ما حصل، وحُفر خندق طويل وجُرَّت المياه إلى القصر. فكافأه الأمير بشير بحسب الرواية وأعفى بلدة شانيه من الرسوم الضريبية على المياه. وعندما أدى الممثل الكبير نبيه أبو الحسن دور «أخوت شانيه»، في مسلسل الكاتب أنطوان غندور بحِرفية عالية، بات هذا اللقب لصيقًا به.

 

ذاكرة محفورة في الحجر

تبقى بتخنَيه في القلب لفرادة جوّها الريفي، ولأنها احتضنت موهبة فنيّة استثنائية أعادت للحكاية الشعبية مجدها، وكتبت فصولًا من الكوميديا الراقية في تاريخ الفن اللبناني. زيارتها ليست مجرد رحلة إلى بلدة جبلية، بل عبور إلى زمنٍ جميل ما زال حيًّا في وجدان الناس.