من الأرض

بدلاً من إعلان”لبنان أخضر خالٍ من مخلفات الحرب“ الجيش أمام تحدٍّ جديد
إعداد: د. تراز منصور

أعادت الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ملف مخلّفات الحروب إلى نقطة البداية، إذ أسفرت عن تلوّث مساحات كبيرة من الأراضي بالفوسفور الأبيض، بالإضافة إلى صواريخ الطائرات والقنابل غير المنفجرة والألغام. وبعد أن كان المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام في الجيش اللبناني، على وشك الإعلان عن خريطة لبنان أخضر نظيف من مخلّفات الحروب بعد أن بلغت نسبة التنظيف نحو 82% من مجمل الأراضي الملوثة بمخلفات الحروب نهاية العام 2024، بات المركز وفوج الهندسة اليوم أمام تحدٍّ جديد يتمثل بمخلفات الحرب الجديدة على أنواعها، وأمام عملية مسح أوّلية شاملة للأراضي التي شهدت أعمالًا حربية.
منذ 8 تشرين الأول 2023، حرص المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام على متابعة التطورات بالتنسيق مع قيادة الجيش وفوج الهندسة ووزارة الصحة والسلطات المحلية (بلديات ومخاتير)، والقيام بحملات توعية من مخاطر الأجسام المتفجرة، لا سيّما إثر بروز خطر التلوث الناتج عن الفوسفور الأبيض. ويوضح رئيس المركز العميد الركن جهاد بشعلاني أنّ الأعمال المذكورة تندرج ضمن الركائز الخمس الأساسية للأعمال المتعلقة بالألغام، والتي تشمل: التوعية، مساعدة الضحايا، تنظيف الأراضي، تدمير المخزون، والمناصرة عبر المشاركة في المؤتمرات وتنظيمها.
 

حملات توعية
في إطار التوعية، أطلق المركز حملة واسعة متعددة المراحل، شملت في مرحلتها الأولى تشكيل مجموعة عمل تقنية ضمّت كافة المنظمات الدولية والوطنية العاملة في مجال التوعية في لبنان ليتم تنسيق العمل على كافة المستويات. في هذه المرحلة من العمل تمّ الاعتماد على التوعية في القرى التي نزح إليها المواطنون إضافة الى إطلاق حملة إعلانية توعوية تحت عنوان #الخطر_مزروع_بأرضنا شملت تركيب لوحات إعلانية Billboards، ونشر فيديو توعوي عبر محطات التلفزة المحلية، ومواقع التواصل الاجتماعي مثل Facebook, Instagram ومنصة X. كما تم تنسيق جلسات توعية عن بعد Online، مستهدفة المواطنين الذين يتعذّر الوصول إليهم ميدانيًا.
أمّا المرحلة الثانية، فقد نُفّذت إثر عملية النزوح الكبيرة التي تمّت في أيلول الفائت، تمّ توزيع مراكز الإيواء على كافة المنظمات ليتم توزيع منشوات تحذيرية وبخاصة من خطر الذخائر غير المنفجرة الي يحتمل وجودها تحت الركام. وبالتوازي مع ذلك، تم توزيع تلك المنشورات على الوحدات العسكرية تحضيرًا لتوزيعها على الحواجز للنازحين العائدين إلى قراهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية بعد وقف إطلاق النار. كما تواصل العمل على تفعيل التوعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالمركز، مع الإشارة إلى أنّها مستمرة إلى ما بعد الإنتهاء من التنظيف وتسليم الأراضي لأصحابها.
وفي المرحلة الثالثة، تم تحقيق 200 ألف منشور توعوي والبدء بتوزيعها على المدارس كافة في لبنان، وبالأخص في المناطق التي تعرضت للقصف والمناطق القريبة منها لتوعية الطلاب حول مخاطر الذخائر غير المنفجرة.

 

مسح أوّلي
بدأ المركز في 13 كانون الأول الفائت، عملية المسح الأولي للمناطق التي تعرّضت للقصف والتي يمكن الوصول إليها، بغية بناء قاعدة البيانات الضرورية، وذلك ضمن إطار عملية تحرير الأراضي من مخلفات الحروب. شاركت في هذه العملية منظمات دولية مثل: MAG DCA – NPA – HI، إلى جانب منظمات وطنية كجمعيتَي «بيئتنا» و«Shield».
وبحسب العميد بشعلاني، فإنّ نتيجة المسح ستوضح واقع المشكلة وحجم التلوّث من كافة أنواع الذخائر منها الفوسفور الأبيض، ما ساعد المركز في تحديد المناطق الأكثر تلوّثًا وتصنيفها، ومن ثم وضع الأولويات وفق درجة خطورتها (المدارس، خزانات المياه والمباني التي تشكل خطرًا على المواطنين...).

 

خطة استباقية
إلى ذلك، وُضِعت «خطة استباقية» وفق تعليمات قيادة الجيش، تم خلالها التنسيق مع المنظمات الدولية العاملة تحت إشراف المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام، إضافة إلى المنظمات التابعة للأمم المتحدة UNDP - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لتلبية متطلبات التطورات الميدانية. وفي هذا السياق، عقد المركز ورشة عمل في منطقة حمانا، جمعت ضباط من قطاع جنوب الليطاني وفوج الهندسة إضافة إلى ممثلين عن منظمات تابعة للأمم المتحدة وعدد من المنظمات العالمية والوطنية، بغية مناقشة الخطة والتطورات الحاصلة.
ويوضح العميد الركن بشعلاني أبرز عناوين الخطة، ومن ضمنها التوعية، توزيع الفرق المدرّبة من قِبل المنظمات، والإضاءة على الإمكانات المتوافرة لدى المنظمات وكذلك على الحاجات وكيفية تأمينها، إضافةً إلى مناقشة العمليات التي تشمل تدريب الفرق وتزويدها المعلومات الضرورية للبدء في العمل الميداني إثر إعلان وقف إطلاق النار. والجدير بالذكر أنّه خلال مناقشة الخطّة تمّ تحديد نوعية الذخائر غير المنفجرة التي خلّفها العدوان الإسرائيلي الأخير، ما ساعد في عملية تدريب العناصر على كيفية التعامل معها، ولهذه الغاية افتتحت دورات تدريبية متتالية شملت عناصر من الجيش اللبناني والمنظمات العاملة في هذا المجال.

 

عتاد هندسي تقني
حول مدى توافر المعدات اللازمة والمتطورة لتنفيذ المهمات، يؤكّد العميد الركن بشعلاني أنّ الـ UNDP قد أمّنت الجرافات وبعض العتاد الهندسي اللازم لمعالجة وإزالة الذخائر غير المنفجرة، ولا سيّما الذخائر كبيرة الحجم، وذلك من ضمن الإجراءات العملية التشغيلية ٍSOP وفق درجة خطورتها. كما تمّ تحديث «برنامج إدارة المعلومات» الخاص بالمركز بهدف إنشاء قاعدة بيانات متكاملة، ليُصار من بعدها إلى إطلاق ورشة معالجة أو إزالة الذخائر الخطرة وفقًا لتصنيف الردميات، بالتنسيق مع فوج الهندسة.
ويشير إلى أنّ العتاد المُستخدم اليوم في تنفيذ المهمات يشمل المتحسّسات القادرة على كشف الألغام والمعادن، إضافة إلى الآليات الهندسية التي تٌسهم في تسريع عملية تحرير الأراضي.

 

تحدٍّ جديد
يؤكّد العميد الركن بشعلاني أنّه بفضل جهود الجيش اللبناني (المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام وفوج الهندسة) كان قد تمّ تنظيف 92% من مجمل الأراضي اللبنانية الملوّثة بالقنابل العنقودية، وكذلك المناطق الملوثة بالذخائر غير المنفجرة، و70% من الأراضي الملوّثة بالألغام. وكنسبة إجمالية تمّ تنظيف نحو 84% من الأراضي الملوّثة بمخلفات الحروب، وكان من المفترض أن يُعلن المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام خريطة لبنان الخضراء الخالية من الألغام والآمنة لجميع اللبنانيين في السنوات القليلة القادمة، لكنه يجد نفسه اليوم أمام تحدٍّ كبير عنوانه «مخلفات العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان».
للأسف، يجد المركز نفسه مجدّدًا أمام أراضٍ ملوّثة بمخلفات العدوان في الجنوب والبقاعين الغربي والشمالي وضاحية بيروت الجنوبية، في ظل نقص كبير في العناصر البشرية والإمكانات المادية. وفي السياق يعلن العميد الركن بشعلاني عن إمكان عقد منتدى في شهر نيسان المقبل، يشارك فيه سفراء الدول المانحة، بهدف تأمين التمويل اللازم لتنظيف ما خلّفة العدوان الإسرائيلي الأخير.

 

فوج الهندسة
يشكّل فوج الهندسة في الجيش اللبناني ركيزة أساسية في التعامل مع التحديات الناجمة عن مخلفات العدوان الإسرائيلي من ألغام وذخائر غير منفجرة. وهو يضم إحدى عشرة سريّة تعكس اختصاصاتها نوعية المهمات التي يتولاها، خصوصًا عندما نكون أمام واقع كالذي نعيشه بسبب تعرّض لبنان للعدوان. فبالإضافة إلى أربع سرايا قتال هندسة، ثمة سرية مهمتها الوقاية من أسلحة الدمار الشامل كـ (الذخائر البيولوجية الكيميائية...)، وأخرى تتولى التفتيش أو البحث والإنقاذ، فضلًا عن سرية الإنقاذ التي تتحرك إثر الكوارث، وتلك التي تقوم  بتركيب الجسور الحديدية العسكرية، يُضاف إليها سرية الآليات الهندسية العسكرية (الجرافات، الحفارات...)، التي تضطلع بدورٍ أساسي حاليًا، وصولًا إلى سرية خبراء الذخائر والمتفجرات التي تعالج الذخائر النظامية وغير النظامية، وسرية الغطس التي تعالج الذخائر تحت المياه، بالإضافة إلى سرية القيادة والخدمة (إنشاء سواتر وخنادق).

 

سرعة فائقة في العمل
باشر عناصر فوج الهندسة عملية التنظيف منذ الثامن من تشرين الأول 2023، وبحسب قائد فوج الهندسة العميد روجيه الخوري فإنّ العمل يتمّ بسرعة فائقة، إذ تُنجز أعمال التخلّص من الذخائر غير المنفجرة وإزالة الخطر منذ الزيارة الأولى للموقع الملوّث.
لكن هل بات ممكنًا تقدير حجم الألغام والقنابل غير المنفجرة التي خلّفها العدوان الإسرائيلي؟ يؤكّد قائد الفوج استحالة معرفة واقع الحال، لعدة أسباب أبرزها عدم انسحاب العدو الإسرائيلي من القرى الحدودية، وعدم البدء بعملية مسح الأراضي الوعرة كالوديان والأحراج، إذ يتم التركيز على المناطق المأهولة التي عاد إليها السكّان، إضافة إلى الطرقات الفرعية داخل القرى.

 

مبادرة وتنسيق
يشير العميد الخوري إلى أنّ الجيش يتلقى بلاغات عن أجسام مشبوهة في المناطق، فيتم إبلاغ الفوج عنها، فيتحرّك بسرعة لمعالجة الموضوع وإزالة الخطر. ويوضح أنّ فوج الهندسة يمتلك صلاحية التدخل وفق تقدير الوضع العملاني ويبادر في تنفيذ المهمة ومعالجة الأخطار، من دون أن تتسبّب الإجراءات الإدارية في تأخير العمل، ويتمّ إفادة القيادة خطيًّا بصورةٍ يومية عن المهمات المنفّذة، وحجمها، وكيفية معالجتها.
في ما خص الصعوبات التي يواجهها فوج الهندسة في أثناء تأدية مهماته، تبرز صعوبة العثور على أماكن لتفجير قنابل الطيران الثقيلة والصواريخ، نظرًا إلى اتساع رقعة التشظّي خلال عملية التفجير بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى قنابل الطيران التي تخرق سطح الأرض على عمق يصل إلى أربعة أمتار، ولا سيّما في منطقة البقاع. إضافةً إلى ذلك، يستحيل نقل الذخائر والقذائف من أماكن وجودها في المنازل أو بالقرب منها، فضلًا عن خطورة تفجيرها، وذلك بسبب الأذى الذي قد تحدثه أو الأصوات المرعبة التي تصدر عنها خلال عملية التفجير، وهناك أيضًا صعوبة في إخراج القنابل من تحت الركام. ويلفت في هذا الإطار إلى التعليمات التي صدرت عن قيادة الجيش منذ بدء العمليات العسكرية، والداعية إلى ضرورة تأمين المعدات اللازمة لفوج الهندسة، لإزالة خطر الذخائر والصواريخ، ولا سيّما أنّ البعض منها يزن أكثر من 1000 كلغ ويحتاج إلى آليات ضخمة لنقلها.
في السياق نفسه، يعاني الفوج صعوبات من جرّاء النقص في الموارد البشرية لا سيّما على صعيد خبراء المتفجرات. ويوضح العميد الخوري أنّه لمعالجة المشكلة، تمّت الاستعانة بخبراء متفجرات من المستوى الثاني، وجرى تدريبهم حول معالجة ذخائر الطيران المستعملة في العدوان الأخير.
في المقابل، يشير العميد الخوري إلى التقنيات الحديثة التي تم تأمينها للفوج، بفضل جهود أركان الجيش للتجهيز واللواء اللوجستي، ومن بينها آليات وشاحنات تحتوي على رافعات وحفارات للوصول إلى القنابل الموجودة تحت الأرض وفوقها، بالإضافة إلى المقصّات الكهربائية والحبال المخصّصة لرفع قنابل الطائرات وقذائف المدفعية وصواريخ أرض أرض، ومفاتيح لإزالة شهابات القنابل Fuse.
ويشير إلى أنّ هذه الآليات الحديثة ومن بينها شاحنات (Ochkoch) لم تكن متوافرة في حرب تموز 2006، وهي شاحنات ضخمة تحتوي على رافعات متحرّكة يمكنها تحميل القنابل التي تزن ألف كلغ من مكان سقوطها، ووضعها في صندوق الشاحنة، من دون الحاجة إلى تدخّل بشري، وهي تسهم في توفير الوقت وتقليص عديد العناصر في المهمات. كما يضيء على تقنيات التفجير اللاسلكي، وكذلك على تدخّل الروبوت في عمليات تفجير العبوات غير النظامية، إضافة إلى استخدام الطائرات المسيّرة «الدرون» بهدف استطلاع وتحديد أماكن وجود العبوات من بُعد.
ويؤكد العميد الخوري إسهام المعدات الحديثة في تحقيق نقلة نوعية في إنجاز مهمات فوج الهندسة بالسرعة الفائقة والنجاح المرتقب. كذلك يُعرب عن فخره بالجهد الجبّار الذي يقوم به عناصر فوج الهندسة في مختلف المناطق اللبنانية، مشيرًا إلى أنّهم في صراعٍ مع الوقت لتنفيذ المهمات وتنظيف الأراضي الملوّثة.