غياب

برج فازليان
إعداد: تريز منصور

عميد المسرح اللبناني

ساحر المسرح المسكون بالشغف


عميد المسرح اللبناني، وأحد أبرز روّاد خشبته لأكثر من نصف قرن. واحد ممن ساهموا في رفع مستوى التمثيل والإخراج المسرحي والسينمائي اللبناني منذ ستينيات القرن الماضي. برج فازليان الذي كان شريكًا أساسيًّا في صنع حداثة بيروت الستينيات، وما اصطلح على تسميته بـ«العصر الذهبي» للمسرح اللبناني والعربي، توفيّ في شباط المنصرم عن مسيرة حافلة بالعطاء.

 

شغف الطفولة
 ولد برج فازليان في العام 1926 في اسطنبول، وترعرع على حبّ المسرح الذي كان موضع اهتمام والده. في طفولته، بنى مسرحًا صغيرًا من الخشب في منزله، وأسّس فرقة مسرحية، أعضاؤها رفاقه في الصف.
من الشغف بالمسرح إلى الدراسة الأكاديمية، فقد تابع برج علومه المسرحية في «أكاديمية المسرح الخاصة» في اسطنبول، حيث تلقّى دروسه على يد الأستاذ الألماني كارل إيبرت، الهارب من استبداد النازية.
بعد مضي أربع سنوات في الأكاديمية، تخرّج بصفة مخرج مسرحي، ثم اتّجه إلى مؤسّـس المسرح التركي الحديث محسن آرطغول تلميذ ستانسلافسكي، لصقل خبرته ومعارفه. آرطغول ترك أثرًا كبيرًا في حياة برج، الذي كانت «البخيل» لموليير، باكورة مسرحياته التي قدّمها على المسارح التركيّة.

 

البحث عن فضاءات الحرية في بيروت
بين العامين 1940 و1945 ضاقت سبل العيش في وجه الأرمن في تركيا، ووسط هذه الأجواء أدّى برج الخدمة العسكرية الإجبارية التي اتسمّت بالصعوبة والمرارة، فكان ذلك على الأرجح سببًا إضافيًا لمغادرته تركيا، ممتثلاً لطلب من والده ومن آرطغول.
إتجه الشاب إلى لبنان باحثًا عن مساحة من الحرية، تاركًا لأبيه ولأستاذه وعدًا بعدم التخلّي عن المسرح أبدًا.
عن تلك الفترة يروي فازليان، أنه «ترك في تركيا عباءة المسرح وثيابه الفاخرة وسافر على حمار عبر به الجبال والأودية وصولاً إلى سوريا». في رحلته أكل فاكهة الهواء، و«شعب الطرقات» وفق ما يقول. ويضيف «وإذ وصلت إلى الحدود اللبنانية، وجدت نفسي في مدينة من الشعر».
 في بيروت، قدّم «البخيل» لموليير مجدّدًا في العام 1953، ومعها كانت انطلاقة شهرته في الأوساط الثقافية والفنية. لمع إسمه في الصحف الأرمنية، فدعاه أرمن سوريا لتقديم المسرحية نفسها مرة ثالثة في سوريا.
شكّلت هذه المسرحية بابًا لإنطلاقه في عالم الإبداع، فأسّس نواة المسرح اللبناني مع أندريه جدعون وشريف خزاندار، ثم تعرّف إلى ممثلين ومخرجين لبنانيين أمثال جلال خوري، ريمون جبارة ولطيفة وأنطوان ملتقى. وقد اقترح عليه الأخير تقديم أحد أعمال شكسبير في مهرجان راشانا (1963)، فاختار كوميديا «الأغلاط».

 

مع الأخوين رحباني وفيروز
بعد نجاح العمل، بدأ مشواره الطويل مع الأخوين الرحباني. فقد اتصل به الشاعر أنسي الحاج وأبلغه أن الأخوين رحباني يبحثان عن مخرج لمسرحية «بيّاع الخواتم» التــي عرضــت في مهرجانــات الأرز (1964).
أخرج فازليان «بيّاع الخواتم» ويروي في حديث صحفي، أنه ذاهب يومها إلى الأرز مع صبري الشريف ليعاين المكان (عرضت المسرحية في الهواء الطلق). هناك سأل: في أي ساعة تغرب الشمس هنا؟ فقيل له: في السادسة. فقال: إذًا في هذا الوقت تبدأ فيروز الغناء ليظهر قرص الشمس خلفها. وهذا ما حصل، فكانت لوحة رائعة صفّق لها الجمهور طويلاً. بعد هذه المسرحية، أصبح برج فازليان مخرجًا لمعظم أعمال الأخوين رحباني وفيروز (هالة والملك، الشخص، يعيش يعيش، فخر الدين، لولو وميس الريم).  

 

إخراج وتمثيل
إلى عمله مع الأخوين رحباني وقّع أعمال عدد من كبار الفنّانين اللبنانيين. وبالتوازي مع تجربته بالمسرح الغنائي الفولكلوري، رافق فازليان الفترة الذهبية للمسرح اللبناني الحديث، فأخرج أعمالاً مهمّة أبرزها، «الزنزلخت» (1969) لعصام محفوظ، والتي أدى بطولتها نبيه أبو الحسن وريمون جبارة وفيليب عقيقي، و«اللعب عالحبلين» من اقتباس ريمون جبارة وبطولة شوشو (حسن علاء الدين).
خلال تجربته التي استمرّت لأكثر من نصف قرن، قدّم حوالى 160 مسرحية باللغات الثلاث، العربية، الفرنسية والأرمنية، أبرزها، «الأب» (1960)، «الوريث» (1961)، «فاسكو» (1964)، «الموسم» (1969)، «طرطوف» (1970)، «اثني عشر رجل غضبان» (1971)، «أخوت شاناي»، «نابليون» (1973)، «الشاطر حسن» و«أبو علي الأسمراني» (1974) وغيرها من الأعمال.
إضافة إلى الإخراج، مثّل في عدد من الأفلام، من بينها، «سفر برلك» و«بنت الحارس» للأخوين رحباني وفيروز.
اندلاع الحرب في لبنان (1975)، أنهى علاقة برج الاستثنائية ببيروت وبمحترفها المسرحي الحديث، فترك مسكنه في منطقة الظريف، وهاجر إلى كندا حيث بقي فيها زهاء عشرين عامًا.

 

العودة إلى مدينة الشعر
مع عودته إلى بيروت، عاد فازليان إلى الخشبة، وأنجز عدة مسرحيّات منها: «جبران خليل جبران» (1996) عن نص لغبريال بستاني، و«حبل المشنوق» (1999) للكاتب الكندي روبير غوريك، أما آخر إطلالة له على الخشبة، فكانت من خلال دور أداه في مسرحية «أوبرا الضيعة» لفرقة «كركلا» (2012).
وبالنسبة الى حياة برج الشخصية، فقد تزوّج الفنانة التشكيلية وعازفة البيانو سيرفارت كريكوريان وأورثا الفن لابنهما المايسترو الموهوب هاروت فازليان والقائد المشهور لـ«الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية».
توفيّ برج فازليان في 22 شباط 2016، عن عمر يُناهز التسعين عامًا، تاركًا وراءه مسيرة حافلة بأرقى الأعمال الخالدة.

 

هامش:
ستانسلافسكي ممثل ومخرج مسرحي روسي وضع مبادىء للعمل المسرحي أصبحت بمنزلة قانون عام لفن المسرح والتمثيل في القرن العشرين.