أفاق الغد

برنامج بيغ براذر يحلّق من جديد مع خطر الارهاب
إعداد: رويدا الاسمر

التكنولوجيا تراقب الكوكب برمته

 

أحداث الحادي عشر من أيلول فتحت الأبواب واسعة أمام الولايات المتحدة، على كل المشاريع الممكنة وغير الممكنة، من أجل مراقبة الأشخاص والتجسس عليهم. ومن بين هذه المشاريع برنامج "NIMD" الأكثر طموحاً والهادف الى قلب المقاييس في عالم الإستخبار.

 

برنامج المعلوماتية

إنها الحرب القادمة عبر الأطلسي. فالإدارة الأميركية تنوي من الآن وحتى العام القادم، فرض مشروع ضمن إطار مكافحة الإرهاب، هو أقرب الى الخيال، يتعلّق بتسجيل المعلومات عن المسافرين جواً الذين يقصدون مطارات الولايات المتحدة. ويهدف البرنامج الإلكتروني التحضيري للوائح المسافرين، الذي وضعته إدارة أمن النقل والمواصلات ووزارة الأمن الداخلي، الى الحصول على معلومات عن المسافرين. وخلافاً للأنظمة الأوروبية التي تؤكد الحرص على مراعاة حياة الفرد الشخصية، فإن شركات الطيران تجد نفسها مضطرة لتسليم لائحة، تنظّم إلكترونياً قبل الإقلاع، وتحتوي بالإضافة الى أسماء المسافرين كافة، على كامل المعلومات التي يتضمنها برنامج ˜"السجل الإسمي للمسافر"، أي: إسمه، عنوانه، رقم هاتفه، إسم الفندق الذي ينوي النزول فيه، مكتب تأجير السيارات الذي يتعامل معه وأيضاً كل تحركاته وتنقلاته الداخلية... وكانت الشركات الأوروبية قد باشرت بإعطاء هذه المعلومات لتتجنب دفع غرامة مالية تتعدى الخمسة آلاف يورو عن كل مسافر وتصل حتى، الى خسارة حق الهبوط في المطار. ومع أن ذلك يشكل خرقاً فاضحاً للقانون الأوروبي، إلا أنه ما باليد حيلة... فقد رفضت المفوضية الأوروبية أي اقتراح للرد على هذا التدبير، حتى لا تضطر الى مواجهة الشريك الأميركي في هذا المجال. وكان هناك تدخل للبرلمان الأوروبي، لم ينتج عنه سوى تخفيض لمدة تخزين المعلومات، من خمسين سنة، الى سبع سنوات. ولكن من الذي سيدقق أو يحاسب؟ وما الضمانة بألا يشكل هذا البرنامج رقابة على كل فرد بحجة مكافحة الإرهاب؟

 

نظام متلمّس أو استشعاري

هل هناك ما يدعو الى القلق؟ نعم، إذ أن ما يخطط له ليس سوى القمة في جبل الجليد الذي بدأ يبرز عبر الأطلسي. وهو يشبه كثيراً برنامج المراقبة (Big Brother) . والواضح أن هاجس التجسس بدأ يأخذ، بُعداً مذهلاً في الولايات المتحدة خلال مدة لا تتعدى بضع شهور، ولا سيما منذ الثاني من آب سنة2002. فالأميرال المتقاعد جون بويندكستر المعروف بدوره في فضيحة ˜ايران غيتŒ، والذي عيّنه جورج بوش الإبن في شباط 2002 على رأس مكتب التنبه الإستخباراتي (Information Awareness) ، وهو جهاز تابع لوكالة البحث "DARPA" في البنتاغون، كشف في ذلك اليوم عن إطلاق لمشروع نظام متلمس، يهدف الى مراقبة الكوكب بأكملـه. أما الإسـم الذي حمله النظـام فهو "TIA" (Total Information Awareness) أو "˜التنبه الاستخباراتي العام"، وما لبث أن تغيّر الى "˜التنبه الإستخباراتي لمكافحة الإرهابŒ" (Terrorism Information Awareness) . والواقع أن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 قد فتحت المجال واسعاً أمام كل من كان يخطط منذ سنوات لوضع مشاريع مراقبة شاملة على مستوى السكان. أما الحجة لذلك فهي أن الإرهابيين يتحركون على عادتهم، ضمن مجموعات غير معروفة، وبالتالي فإن تحديد أي سلوك مشبوه لا بد أن يتم داخل هذه المجموعات بالذات. ويعني برنامج "TIA" الذي رُصد له مبلغ عشرون مليون دولار سنوياً، أن البنتاغون يتهيأ ليصبح قادراً ذات يوم، على الدخول الى أي أساس للمعطيات على الكوكب بكامله، مهما اختلفت أنواع هذه المعطيات، من معلوماتية الى مصرفية وطبية، الى أوضاع اجتماعية واتصالات الخ...، ومن ثم، معالجة كل معلومة متوفرة عن أي شخص كان انطلاقاً من هذه المعطيات. أما حجة بويندكستر، فهي غير قابلة للجدل: ˜إذا أرادت منظمة إرهابية شن هجومات ضد الولايات المتحدة، فلا بد أن يعقد رجال هذه المنظمة، صفقات تترك وراءها بصمات في حقل المعلومات. والمطلوب إذن، هو البحث في ˜مجال التعامل والمصافقة، للكشف عن الإرهابيين. ولكن ما ينوي عليه بويندكستر من أجل تحقيق هذا الهدف، هو الحصول على كل المعلومات الإلكترونية في العالم! وهو يريد كذلك أن يجد منفذاً الى كل شيء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن أحد برامجه يهدف الى مراقبة الشخصية الإجمالية للفرد (تحليل المظهر الخارجي، شكل الوجه الخ...)

والتحقق من التجمعات السكنية في المدن! وبقي الأميرال لمدة سنة كاملة يجدّف على هواه، الى أن وضع الكونغرس الأميركي في آب 2003 حداً لتجاربه. لا سيما وأنه ذهب بعيداً في الدعاية لبرنامجه عندما أعلن عن بورصة للأخطار الإرهابية، كان باستطاعة كل مواطن أميركي الإشتراك بها عبر شاشة الإنترنيت في منزله، فيزايد على محاولات الإغتيال أو حتى، على موت رئيس البلاد. لكن مشروع البورصة هذا، الذي كان يعتمد على الأخطار السياسية، حُرم من الدولارات، كما حُرم صاحبه من منصبه. والواضح أن البنتاغون كان مستعداً لتبني برنامج بويندكستر (TIA) ، من دون تلك البورصة المجنونة.

 

 نظام الاستخبارات الجديد

في كل الأحوال، لم يكن مشروع بويندكستر لينجح. فالإدعاء بأنه يمكن التوصل الى أي معلومة على الكوكب، هو في النهاية قول بعيد عن الواقع.

ليس فقط لأن قوانين الدول الأخرى كانت لتقف في وجه المشروع بعد أن يتنبه للأمر، حكّامها غير المبالين حالياً، بل أيضاً لأن الأدوات التقنية الضرورية لتنفيذ مثل هذه الخطة، لا وجود لها أصلاً. وهكذا دفع الأميرال المتقاعد غالياً ثمن غلطته، عندما وضع العربة أمام الحصان وأيضاً عندما جعل من برنامجه موضوعاً شعبياً، يمكن لأي مواطن أميركي أن يتناوله عبر شاشته على الإنترنت. ولكن وفي الوقت الذي كان فيه البرنامج "TIA" يغرق مع أميراله، كان آخرون يخططون بصمت، لوضع برنامج مراقبـة جديد مثل البرنامجز"NIMD" (Novel Intelligence from Massive Data)

أو نظام الاستخبارات الجديد عبر معطيات ضخمة! بماذا يتعلق الأمر هذه المرة؟ إنها مبادرة جديدة بإدارة أشخاص على دراية تامة بكيفية تسيير برامجهم بتكتم شديد: موظفون في وكالة الأمن القومي (NSA) المسؤولة عن عمليات التنصت الإلكتروني التي تمارسها الولايات المتحدة على مستوى الكوكب، وأفراد من وكالة رسم الخرائط (NIMA) التي تصنع الخرائط للعسكريين وعملاء الجاسوسية. والوكالة الأخيرة مسؤولة أيضاً عن إدارة النظام الجديد والواعد" ˜للاستخبار على مستوى الأرض بكاملها"Œ، والذي يعني تحسين مستوى الإخبار، بفضل تقنيات تحديد الموقع بواسطة الأقمار الإصطناعية: فهل تحب أن يكون جهاز GPS* على لوحة القيادة في سيارتك؟ إن ما يفعله اليوم عملاء التجسس بهذا الجهاز، أو ما قد يتوصلون الى فعله غداً، أمر لا يمكن تصوّره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن تحديد مصدر أي مخابرة هاتفية، في أي موقع على الأرض بفارق متر واحد، أو التعرّف على مكان التقاط صورة فوتوغرافية، بواسطة تقاطع المعلومات المتوفرة فيها (مناظر طبيعية، معالم مدنية...) مع معطيات جهاز GPS.

 

بعيداً عن أي دعاية

جرى التحضير للبرنامج "NIMD" بتكتم شديد، حتى أن أحداً في الولايات المتحدة لم يكن يعلم بوجوده قبل ظهوره في أيلول الماضي خلال مناقشة الموازنة في الكونغرس الأميركي. ويعمل بهذا البرنامج فريق عمل متخصص بآخر ما توصلت إليه المعلوماتية وأيضاً بعلم الإدراك، الذي يُطبق في حقل الإستخبار. وفي أيلول سنة 2002 كان قد تم إنفاق أربعة وستين مليون دولار، في مختلف مجالات المعلوماتية بالعمل مع محترفين في دفق المعطيات، واختصاصيين محنكين بعلم الرياضيات ضالعين في الحساب الخوارزمي، واختصاصيين في إدارة المدونات النصية الكبيرة وترجمتها وعرضها، وحتى مع اختصاصيين بلوحات العرض، مؤهلين لتقديم عشرات المعلومات الديناميكية بشكل آني وواضح. والنتيجة؟ مجموعة حلول تهدف الى خلق ثورة مع الوقت، في عالم الاستخبارات. فالبرنامج "NIMD" يهدف الى توسيع عمل المحللين، المسؤولين عن كشف الإرهابيين، بوضع نماذج لطريق هؤلاء في التحليل. كما يهدف الى الإعداد لمركز معارف، يُطلق عليه اسم ˜"الصندوق الزجاجيŒ" (Glass Box) ، وهو يحتوي على كل ما سبق لمحلل أن عرفه، حتى لا تضيع أية معلومة. ويهدف جانب آخر من البرنامج الى تحضير عدة سيناريوهات، توضع بتصرف سياسيين عبر حبكات إعلامية وتلعب دور المساعد الذكي. وتساهم السيناريوهات هذه، في تنمية قدرة الفرد على التحليل المنطقي السليم، بالإستناد الى معلومات، كان يتعذر عليه الوصول اليها في السابق. وأخيراً وليس آخراً، لم يغفل البرنامج طموحات بويندكستر في ˜جمع معطيات ضخمة، أو معرفة كل ما يدور في عالم التحكّم، من نصوص وأفلام فيديو ورسوم ولوحات بيانية ومعادلات وخرائط وأحداث وأمكنة الخ... ولا يخفى على العاملين بالبرنامج الخيالي، أن ذلك سوف يستغرق وقتاً طويلاً، لكنهم يبدأون بالتركيز تحذيراً على الحلول السابقة الذكر. ذلك أن الحلم الأكبر الذي يراود عملاء التجسس، يبقى في التوصل الى تنظيم مدوّنة التحكيم الهائلة تلك، والمؤلفة من عشرات ملايين مليارات الثُمانيّات ** من المعلومات (نتحدث هنا عن تيرابايت أو مليون مليون بايت وعن بيتابايت أو مليون مليار بايت) ، بهدف الوصول الى الجوهر، والرّبط بين الأحداث المتباعدة ومن ثم الكشف عن عمليات التواطؤ السرية...

وأخـيراً، يعلن البرنامج "NIMD" عن هدفه بوضوح: يريد أن يكون الحدود الجديدة لعالم الاستخبارات. لكن واضعي هذا البرنامج يحرصون على عدم الوقوع في خطأ بويندسكتر لذلك فهم يتواصلون فقط عبر موقع بسيط على الإنترنت ولا يتحدثون عن أسس أو مصادر المعطيات التي يبحثون فيها. أما الدعاية فهي لا تهمهم بقدر طريقة العمل التي يحرصون على تطبيقها، والتي تستدعي من دون شك تجنيد القسم الأكبر من نشاطات البحث والتطور في أجهزة الاستخبارات الأميركية خلال العقود القادمة، وصولاً الى" ˜كوكب تحت المراقبة".

عن مجلة: Science Et Vie

December 2003  

* GPS أو (Ground Positionning System)

أي جهاز تحديد الموقع على الأرض.

** الثُمانية: مجموعة أساسية مؤلفة من ثمانية أحرف ثنائية، شائعة الاستعمال في معظم المصطلحات المعلوماتية.

تسلسل الأحداث

* آب 1988: صحافي بريطاني يكشف عن جهاز التنصت الشامل ˜ايشلونŒ (Echelon)

الذي تعود فكرته الى العام 1948.

* حزيران 1998: الصحف تكشف النقاب عن نظام ˜فرانشلون (Frenchelon)

المعادل الفرنسي لجهاز التنصت "˜ايشلون".

* آب 2002: البنتاغون يعلن عن البدء ببرنامج "TIA" الذي يهدف الى البحث داخل أسس المعطيات في العالم بكامله.

*أيلول 2003: الإعلان عن البرنامج "NIMD".

لمعرفة المزيد

*”Guerre dans le cyberspace. Services secrets et internet ».par J. Guisnel. La Découvert, 1995

* http://www.epic.org/privacy/profiling/tia/

le site du « Terrorism information Awareness ».

*http:// ic-arda.org/novel intelligence/

le site du « Novel intelligence from Massive Data ».