بطاقة ملونة

بطاقة ملونة
إعداد: محمد سلمان

في طفولتي كنت ورفاقي نتحلّق في ظل سنديانة عتيقة تجاور عين الضيعة، ونحن نتبادل الحديث حول ثياب العيد والهدايا التي يحملها إلينا أهلنا الفلاحون والحصادون الذين رسموا لنا دروب الطموح بالمعاناة وحب الأرض.
ونحن على هذا الحال من براءة الطفولة وطراوة عودها وعذوبة أحلامها في ضيعتنا «شمسطار»، كانت أغصان السنديانة تستضيف الطيور وهي جذلى بحباب القمح التي تطعمها إلى صغارها من العصافير الملونة بالندى وأشعة الشمس.
وفي طريق العودة من البرية إلى بيوتنا العتيقة والمشيّدة من الطين العنيد والمسكونة بتعب الأهل وحبهم لنا، كنا نردّد ما كتبه معلّمنا «الضيعوي» على اللوح الأسود تحت عنوان: لبنان سنديانة تلوي الرياح ولا تلويها الرياح.
وفي اليوم التالي، كنا نذهب إلى مدرسة الضيعة ونحن نتأبط كتبنا ودفاترنا وأقلامنا «المشلوحة» في محفظة من القماش الرقيق والملوّن كقوس قزح، وما أن ندلف إلى قاعة الدرس الضيقة بمساحتها و «المحشورة» بعددنا، كنا نتقاسم المقاعد القليلة أو نتسابق على «احتلالها» لأن من لا يسبق يظل واقفًا طيلة «الحصة»، لعدم تمكّنه من احتلال مقعد له.
وما هي إلا لحظات، حتى نفاجأ بدخول المدرّس متأبطًا عبوسه وعصاه غير الناعمة ويبادرنا بالقول: «من لم يكن منكم متمّمًا كتابة الفروض وحفظ الدروس، سيكون ضيفًا غير مكرّم لهذه العصا المنحوتة من أغصان السنديانة»، وهنا يتسلّل الخوف إلى أعصاب التلامذة وأنفاسهم، حيث يبدأ كل واحد منهم يتفقّد «جلده» قبل أن تعانقه العصا غير المحبوبة، حتى ولو كان كلّ منا متمّمًا واجباته المدرسية في كتابة الفروض واستظهار الدروس.
وبعد هذا التهديد الشفوي، يبدأ مدرّسنا «المحبوب» طبعًا، بجولة تفقدية بل بحملة تفتيش صارمة للإطلاع على الدفاتر والكتب، والتأكد من إتمام الواجبات المدرسية، والإطلاع أيضًا على نظافة أظافرنا وثيابنا المتواضعة جدًا من القماش القروي بأسعاره الزهيدة.
وفي أثناء هذه الحملة أو «المداهمة»، كان يزداد عدد ضربات قلب كل منّا، مخافة أن تستضيفه عصا المدرّس، أو أن ينال توبيخًا من الدرجة الأولى: قيامًا وقعودًا.
غير أن الحملة كانت تنتهي بالأمن والأمان، عندما يقول لنا المدرّس: «عفاكم الله، أنتم تلامذة «شاطرين» فإلى الأمام يا أولادي».
هذه المحطة من حياتي الدراسية شكّلت المرحلة التأسيسية الأولى في رحلة العمر نحو آفاق أوسع من التزوّد بواقعية الطموح وثبات الموقف على إيقاع ريفيّ، تعزفه ضيعتي التي علّمتنا أبجدية الحب للأرض والإنسان، وأرضعت أقلامنا حبر الأبجدية، وأضاءت دروبنا بمصابيح لا تنطفئ، وهي تقول لنا بلغة الأرض والكتاب: «إن السنابل هي أقلام الفلاحين وإن الأقلام هي سنابل العلماء».