اقتصاد ومال

بعد البنزين... هل يمكن كسر الاحتكار في سوقَي القمح والأدوية؟
إعداد: تريز منصور

يتّسم ثلثا الأسواق اللبنانية بطابع احتكاري واضح، تستحوذ المؤسسات التي تمارس نوعًا من أنواع الاحتكار على أكثر من نصف المبيعات المحقّقة في لبنان عمومًا، ما يعني أنّ أي كلام عن وجود منافسة، هو كلام لا يمتّ إلى الواقع بصلة، والهدف منه تحريف الحقائق لتغطية التشويه الحاصل في بنية النظام الاقتصادي الحرّ، كما تمارسه قوى السوق المحلية، وهي نفسها القوى المتحكّمة بالقرار السياسي والمهيمنة على موارد الدولة ومقدّراتها.
بعد أن وجّهت وزارة الطاقة ضربة لكارتيل النفط، هل يمكن أن نتوقع خطوة مماثلة في ما يخصّ القمح والأدوية؟


«الجيش» وجّهت السؤال إلى وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال منصور بطيش الذي يوضح أنّه «أودع الأمانة العامة لمجلس الوزراء مشروع قانون يرمي إلى تنظيم المنافسة، لكن القانون ما زال في الأدراج».

 

القانون موجود ولكن...
يهدف مشروع القانون الجديد، الذي يندرج في إطار الإصلاحات المالية والاقتصادية التي التزمتها الحكومة في ورقتها الإصلاحية، إلى وضع قواعد تعزّز المنافسة في الأسواق اللبنانية وتحدّ من الممارسات الاحتكارية، وتلك المخلّة بالمنافسة. كما يعطي هذا القانون دفعًا للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والمشاريع الريادية القائمة على الابتكار والتجدّد، بما يُسهم في رفع مستوى إنتاجية الاقتصاد الوطني ويضمن رفاه المستهلك.
وقد ورد في الأسباب الموجبة لمشروع قانون المنافسة أنّ «تصنيف لبنان في المرتبة ١٢٠ من أصل ١٣٧ دولة في مؤشر سياسة مكافحة ﺍلاحتكاﺭ، ﻭفي المرتبة ٦٣ من أصل ١٣٧ دولة، في مؤشر مدى الهيمنة على السوق (وذلك عن الفترة ٢٠١٧ – ٢٠١٨) الأمر الذي يدلّ على تدنّي مستوى المنافسة في السوق اللبناني». كما أنّ «السوق اللبناني يعاني ضعفًا في تركيبته الاقتصادية نظرًا لصغر حجمه من جهة، وبسبب كثرة الامتيازات والاحتكارات الممنوحة لأشخاص الحقّ العام والخاص في معظم القطاعات الاقتصادية والخدماتية من جهة أُخرى».
وأكّد الوزير بطيش على أنّ مشروع قانون المنافسة يُسهم في تحقيق نموّ في الاقتصاد الوطني، علمًا أنّ تحقيق هذا النمو يستوجب إطلاق عملية ترشيد للنفقات العامة غير المُجدية، والتركيز على الإنفاق الاستثماري والتصدّي لمختلف عمليات التواطؤ وعروض المُجاملة التي تحصل في المشتريات العمومية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال أحكام قانون المنافسة. وقد أخذ مشروع القانون المطروح بعين الاعتبار حاجات الاقتصاد الوطني وخصوصياته، إذ تهدف أحكامه إلى ضمان التوازن العام للأسواق وتكريس حرية المنافسة فيها، من خلال حظر السلوكيّات التجارية المناهضة للمنافسة، وخصوصًا الاتفاقيّات وعمليات التواطؤ وإساءة استغلال وضعيات الهيمنة بالسوق، هذا إلى جانب ممارسة رقابة مسبقة واحتياطية على عمليات التركيز الاقتصادي في مختلف الأسواق (عمليات الدمج والتملُّك).

 

الاعتماد على القرارات والمراسيم الاشتراعية
في ظلّ غياب قانون المنافسة، تعتمد الوزارة على المادة الثانية من القرار الصادر في العام ٢٠٠٨، والمعدّل بقرار صادر في العام ٢٠١٠، فقد عيّنت هذه المادة الحدود القصوى لنسب الأرباح في تجارة الجملة ونصف الجملة والمفرق، والتي تمنع بيع السلعة بأكثر من ضعف سعر الكلفة، وتراوح هذه النسب بين ٥ و١٥٪ لفئات مختلفة فهي تتفاوت وفق فئات السلع (مواد غذائية، حبوب، ألبان، أجبان، زيوت...).
كما تعتمد وزارة الاقتصاد على المادة ١٦ من المرسوم الاشتراعي الصادر في العام ١٩٨٣ التي تتناول الاحتكار وخطورته على النظام الرأسمالي.
وفي محاولة للحدّ من تداعيات الأزمة التي تشهدها البلاد حاليًا، أصدرت الوزارة قرارًا يقضي بضرورة التزام جميع التجار ومزوّدي الخدمات على الأراضي اللبنانية باعتماد الليرة اللبنانية حصرًا في عمليـات تسعير السلع وبدل الخدمات استنادًا إلى قانون النقد والتسليف رقم ١٣٥١٣/١٩٦٣، وفي استيفاء الثمن أو البدل وفق أحكام قانون حماية المستهلك رقم ٦٥٩/٢٠٠٥، وذلك تحت طائلة اتخاذ التدابير القانونية بحق المخالفين.
وتجوب فرق المراقبة التابعة لمديرية حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد والتجارة المناطق اللبنانية يعاونها طلاب الجامعات، للتحقّق من عدم التلاعب بالأسعار ومخالفة التعليمات الخاصة باعتماد الليرة اللبنانية في التسعير. كما تشمل مراقبة الفرق التابعة للوزارة التأكد من تطابق السعر الموجود على السلعة مع ذلك المعتمد على الصندوق بعد أن وردت شكاوى من المواطنين حول هذا الموضوع. وقد سُجّل تنظيم محاضر ضبط بحق المخالفين في مناطق مختلفة.
في ما يتعلّق بسعر ربطة الخبز تصرّ الوزارة على ضرورة عدم رفعه وعدم إنقاص وزن الربطة، وذلك بالاستناد إلى الدراسة التي أعدّتها الوزارة بالتعاون مع مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، والتي بيّنت أنّ كلفة إنتاج ربطة الخبز اللبناني زنة ١٠٠٠ غرام المحدّد سعرها بـ ١٥٠٠ ليرة لبنانية تراوح بين ١١١٣ و١١٨٨ ليرة لبنانية.
ويذكّر الوزير بطيش بأنّ مصرف لبنان كان قد أصدر تعميمًا رقمه ٥٣٠ يحدّد فيه آلية شراء القمح المستورَد والأدوية والمشتقات النفطية وأنّه بعد التشاور والتفاهم مع تجمّع أصحاب المطاحن، أصدرت الوزارة القرار رقم ٣٦/ح.ش (في الثاني من كانون الأول ٢٠١٩)، الذي يقضي بتحديد سعر مبيع طن الطحيـن المُعَـدّ لإنتـاج الخبـز اللبناني بـ٥٦٥ ألف ليرة لبنانية كحدٍّ أقصى، على أن يتمّ التسليم في أرض المطحنة وتسدَّد الفاتـورة بالليرة اللبنانيـة ويُعـاد درس السعـر شهريًا.
وهو يضيـف: أعدّت المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري دراسة مقارنة لتأثيرات الأسعار، ولا سيّمـا سعر صرف الدولار الأميـركي، على كلفة إنتاج ربطة الخبز زنة ١٠٠٠ غرام مع الأخذ بعيـن الاعتبار الحدود القصوى لأسعار مكونات الإنتاج من طحيـن ونقـل وسكر وملح ومازوت، فتبيّـن أنّ تأثيـرات التغييـرات في أسعار الدولار النقدي على هذه الكلفة تراوح بين ٧٦ و١٠٨ ليرات لبنانية. وبالتالي فإنّ هامش الربح ما زال مقبولًا.
ودعا أخيرًا الوزير بطيش الجميع إلى تحمّل المسؤولية الاجتماعية في هذه الظروف الدقيقة والصعبة من حياة الوطن، مذكّرًا المستهلكين بـضرورة الإبلاغ عن أي مخالفة على الخط الساخن ١٧٣٩ لتسجيل الشكاوى وملاحقتها.

 

الاحتكار في لبنان تحت مظلّة القانون
أعدّ الخبير الاقتصادي توفيق كسبار في العام ٢٠٠٨ دراسة حملت عنوان «المنافسة في السوق اللبنانية»، وذلك بالتعاون مع مؤسسة البحوث والاستشارات. وهذه الدراسة التي أُجريت لمصلحة وزارة الاقتصاد بتمويل من الاتحاد الأوروبي، جاءت في إطار الشروط اللازمة للانضمام إلى اتفاقيات الشراكة الأوروبية المتوسطية. وكان من المفترض أن تشكّل الإطار الذي يظلّل مشروع قانون المنافسة العتيد، إلا أنّها بقيت في الأدراج، ولم تُستخدم في وضع المشروع الذي حافظ على الحماية القانونية للوكالات الحصرية التجارية، ولم يضع الضوابط المعروفة لتفكيك الاحتكارات ومقاومة نشوئها.
خلُصت هذه الدراسة إلى أنّ ثلثي الأسواق اللبنانية تتّسم بطابع احتكاري واضح، وتستحوذ المؤسسات التي تمارس نوعًا من أنواع الاحتكار على أكثر من نصف المبيعات المحققة في لبنان عمومًا... وقد تناولت ٢٨٨ سوقًا محلية مختلفة، وغطّت ٧٤٠٢ مؤسسة، منها ١٢٣ مؤسسة ذات نشاط اقتصادي غير محدد. وبيّنت أنّ نصف المبيعات في هذه الأسواق تعاني «احتكار القلة»، وأنّ شركة واحدة تحتكر ٩٥٪ من سوق استيراد الغاز المنزلي، فيما شركة واحدة تحتكر ٤٥٪ من سوق المشروبات الغازية، وترتفع حصة ٣ شركات إلى ٦٩٪ من هذه السوق، كذلك تحتكر شركة واحدة ٥٢٪ من سوق المياه المعدنية، وترتفع حصة ٣ شركات إلى ٨٢٪ من السوق!
وترى الدراسة أنّ حجم السوق يؤدي دورًا في نسبة نموّ الاحتكارات، إذ توجد احتكارات طبيعية تنشأ عن عدم قدرة السوق على تحمُّل أكثر من شركة أو شركتين في قطاعات معينة، منها الطيران مثلًا، إلا أنّ هذا الواقع لا يجب أن يكون عشوائيًّا، ومن المفترض أن تكون هناك أجهزة ناظمة للمؤسسات الاحتكارية الطبيعية، إذ توجد أسواق فيها درجات تَرَكُّز عالية وغير طبيعية وغير مبرّرة، وبالتالي يجب على الدولة التدخل لوقف هذه السمة الاحتكارية السائدة بسبب تأثيرها الكبير على الاقتصاد الوطني.
ولحظت الدراسة أنّ ٥٠٪ من المزارعين اللبنانيين يملكون حوالى ٨ في المئة من الأراضي الزراعية، فيما ٥ في المئة منهم يحتكرون ٤٧ في المئة من الأراضي الزراعية... ما يعني أنّ السّمة الاحتكارية عامة، ولا تنحصر في القطاعات الصناعية والخدماتية والتجارية!

 

الدولة تخرق كارتيل النفط
نتيجة الظروف المالية الصعبة التي يمرّ بها لبنان، وبسبب انعدام الدولار الأميركي في المصارف، وصرفه في السوق الموازي (السوداء) بما يفوق الألفي ليرة، حقّقت وزارة الطاقة والمياه قفزة نوعية في مجال كسر الكارتيل النفطي، من خلال إجراء مناقصة استيراد مادة البنزين في التاسع من كانون الأول ٢٠١٩، والتي فازت بموجبها شركة Z R Energy.
وبموجب المناقصة التي أُعلنت نتيجتها مباشرةً من إدارة منشآت النفط، أصبحت الدولة اللبنانية تستورد قسمًا من مادة البنزين (١٠٪) للسوق المحلّي أسوةً بباقي الشركات الخاصة العاملة في هذا المجال.
هدفت هذه الخطوة إلى ضمان توافر مادة البنزين في السوق المحلي، التسليم بالليرة اللبنانية، وعدم تحميل المواطن أي أعباء إضافية.
ووفق الوزارة فإنّ قطاع استيراد المحروقات كان وسيبقى سوقًا مفتوحًا Open Market لكل شركةٍ راغبة بالعمل في هذا المجال وتتوافر لديها الشروط المطلوبة التي تخوّلها التقدم من وزارة الطاقة والمياه للحصول على رخصة الاستيراد.
كما أنّ قرار وزارة الطاقة والمياه الذي قضى بإجراء مناقصة شراء مادة البنزين لحساب الدولة جاء نتيجة التعميم الذي أصدره مصرف لبنان والذي حدّد بموجبه آلية فتح الاعتمادات لاستيراد المحروقات من جهة رفضًا لتحميل المواطن عبء النفقات الإضافية الناتجة عن هذه الآلية من جهة أخرى.
وقد حرصت وزارة الطاقة والمياه، ومنذ الإعلان عن المناقصة، على اعتماد أقصى معايير الشفافية عن طريق نشر دفاتر الشروط ولائحة الشركات التي استحصلت على هذه الدفاتر على موقع المنشآت الإلكتروني وإجراء عملية فض العروض وإعلان الأسعار والشركة الفائزة مباشرةً عبر وسائل الإعلام وذلك بعد أن تمّ تأجيل المناقصة أسبوعًا إفساحًا في المجال للمزيد من التنافس.