من الداخل الاسرائيلي

بعد حربها على لبنان اسرائيل مفجوعة باكتشاف هشاشتها
إعداد: يونس عودة

عندما اطلق احد الزعماء التاريخيين لاسرائيل (وهو الوحيد المتبقي على قيد الحياة من الرعيل الأول الذي واكب نشوء اسرائيل في المنطقة) شيمون بيريز مقولته الشهيرة، في الأيام الأولى للعدوان الاسرائيلي على لبنان، ان هذه الحرب هي معركة «وجود اسرائيل»، كان يعني بالضبط هاتين الكلمتين، ولم يكن هدفه شدّ أزر الجنود الذين كانوا يتهربون من الانخراط في الحرب، او دفع القيادات العسكرية لاتخاذ اقسى المواقف وترجمتها بالقتل والتدمير فحسب، بل قال ذلك لأنه ادرك ان هذه الحرب مرتبطة فعلاً بمصير اسرائيل بعد ان تحول المجتمع الاسرائيلي من مجتمع ايديولوجي يرتكز على القوة العسكرية والأمنية، بتعبئة «تحشيدية» مستعدة دائماً للحرب، الى مجتمع منقسم الى طبقات وافراد، وتعمق الهوة واتساعها على مستوى الحياة ومستوى التعليم وضرب الفساد جذوره في اعماق اجهزة الدولة. وبالطبع فإن بيريز كان اكثر المتلمسين في اسرائيل ان الانقسام حول الحرب سيؤدي بالطبع الى ضرب وانهيار احد الاعمدة التي قامت عليها اسرائيل تاريخياً، اي الانتصار السريع في اي حرب تخوضها، وهذا الامر بحد ذاته كان احد اهداف المقاومة لهزّ الكيان، من خلال منعه من تحقيق اهدافه العسكرية والأمنية وبالتالي السياسية، بالاضافة الى تعميق الشرخ بين القيادات الاسرائيلية، والوصول الى ترجمة مقولة بيريز. وهذا كان دافعاً قوياً لصمود المقاتلين على الارض، وعدم الانخراط في اي سجال داخلي في إبان العمليات مهما كان الامر، فضلاً عن إفشال الأهداف الإسرائيلية المعلنة والمتوخاة من الحرب.

 

فشل استخباراتي وفشل عسكري

كانت اسرائيل تخطط لعملية واسعة النطاق ضدّ «حزب الله» تحت اسم «أمطار الصيف» منذ ما قبل أسر الجنديين وقد اعلنت انها تريد:
1- تغيير قواعد اللعبة في لبنان القائمة على «توازن الرعب»، وخلق توازنات جديدة في لبنان والمنطقة تؤدي الى حالة سلم على حدودها الشمالية.
2- تحرير الجنديين الأسيرين من دون شروط.
3- تنفيذ ما تبقى من القرار الدولي 1559 القاضي بنزع سلاح الميليشيات واعتبار المقاومة من ضمن هذه الميليشيات.
4- القضاء على «حزب الله»، وتصفية قياداته جسدياً وإنهاء قدراته العسكرية - الصاروخية والاجهاز على بنيانه الاجتماعي والخدماتي - اي تفكيكه كاملاً.

الا ان مسار الحرب دلّ بداية على فشل استخباراتي اسرائيلي فاضح قياساً الى الميزانيات الموضوعة في خدمة الأجهزة الأمنية الاسرائيلية والقدرات التي طالما تباهت بها القيادات الاسرائيلية، وذلك عبر عدم توقع جهوزية المقاومة في تحضيراتها لمواجهة اي عدوان، واستخدام القدرات الصاروخية الموجودة لديها والتي طاولت العمق الاسرائيلي على الرغم من القصف التدميري الجوي والبحري والبري. كما فشلت اسرائيل عسكرياً في رد الاعتبار لجيشها ميدانياً عبر تقدم بري يعتد به على اي من محاور القتال. فقد الحقت بها هزيمة نكراء على مثلث مارون الراس - عيترون - بنت جبيل، وكذلك على محوري العديسة - الطيبة - وسهل مرجعيون - الخيام، حيث كانت دبابات الميركافا تشتعل (وادي السلوقي وسهل مرجعيون) كأنها دبابات كرتونية. وما زاد الطين الاسرائيلي بلة، تدمير البارجة «حانيت» التي تعتبر «درة تاج» سفن الصواريخ الاسرائيلية قبالة سواحل بيروت، وهو ما شكل مفاجأة مزعجة بقوة للقيادة الاسرائيلية الأمنية والعسكرية، فالاولى انها لم تعلم بأن لدى «حزب الله» صواريخ قادرة على الوصول الى البارجة وتدميرها، والثانية قدرة الصاروخ على تجاوز الدفاعات السلبية والايجابية في البارجة نفسها، وهي المعدة للتعامل مع اية مخاطر، ما صنفها الأولى في حداثتها على الصعيد الاسرائيلي ومن احدث السفن في العالم.

مقابل ذلك، فقد اكتشفت اسرائيل ان شبكة الاتصالات ذات السرية البالغة التي تربط الأجهزة العسكرية والأمنية تم اختراقها من «حزب الله، وتمكن المقاتلون من تسجيل عشرات المفاجآت في الحرب براً وبحراً وجواً، ما انتج الخلل الكبير الذي ادى الى سجال قوي بين القيادات العسكرية التي اتهمت الاستخبارات بعدم توفير المعلومات الكافية، فيما ردت الاجهزة بأنها وفرت كل ذلك، إلاّ أن استعدادات الجيش لم تكن على مستوى الحرب.
 
 

تحقيق يكشف خللاً شاملاً في اجهزة الجيش

افاد تحقيق إسرائيلي حول الإخفاق العسكري خلال الحرب على لبنان، عن خلل شامل في أجهزة الجيش «من دون استثناء». واتهم تقرير أولي حول أداء الفرقة 91 في سلاح المشاة الاسرائيلي خلال العدوان، قيادة الجيش الاسرائيلي بالتقصير «الخطير» في إعداد القوات للحرب. وذكر التقرير أن الفرقة 91 «لم تدرك حقيقة كونها تخوض حرباً» في لبنان، «ولم تنفذ المهام التي وضعتها لنفسها، خصوصاً في كل ما يتعلق بالجدول الزمني». ونقلت صحيفة «يديعوت احرونوت» عن اللواء في الاحتياط يورام يائير أن الإخفاقات تشير الى خلل شامل في أجهزة الجيش «من دون استثناء». ووجه يائير اصبع الاتهام الى هيئة أركان الجيش الاسرائيلي بما في ذلك رئيسها دان حالوتس، مشيراً الى حالات تميّزت بإخفاق 4 ضباط برتب متدنية نسبياً. وجاء في التقرير أنه «طوال شهر  من القتال لم تكن هناك إدارة لحملة عسكرية تشمل هدفاً وغايات محدّدة وتسعى بإصرار لتحقيق الهدف بشكل سريع وواضح». ولفت الى أن القوات لم تتدرّب بالشكل الكافي ولم تكن مستعدة لتنفيذ مهامها. واشار الى أنه كان هناك فشل في الانتقال من نشاط اعتيادي الى نشاط في حالة حرب، إضافة الى تغيير المهام في أوقات متسارعة وتغيير حجم القوات وانتشارها، واستخدام قادة الفرقة والكتائب والألوية التابعة لها مصطلحات ليست عسكرية ولم تشملها نظريات الحرب في الجيش الاسرائيلي.

واعتبر التقرير أن أخطر ما حدث، كان وجود جميع قادة الألوية والكتائب باستثناء قائد لواء المظليين العقيد حغاي مردخاي، في «غرفة القيادة الأمامية» الموجودة داخل الأراضي الاسرائيلية وليس مع الجنود في عمق الأراضي اللبنانية، كما اشار الى إخفاق في المجال اللوجستي. والاخفاقات الاسرائيلية في الحرب انعكست ليس في المؤسسة العسكرية التي تقوم اسرائيل عليها عملياً فحسب، بل على كامل النظام السياسي. الا ان الصراع الذي ادى الى تشكيل لجنتي تحقيق لم يتوقف واستمر رغم عدم بت اللجنتين المسؤولية، ما دفع رئيس الاركان دان حالوتس الى منح قادة الفرق الأربع التي قاتلت في لبنان ترقيات بزعم انهم قادرون على ترميم الجيش، وهو الامر الذي يرفضه وزير الدفاع تحت شعار ان من يفشل في الحرب لا يمكنه اصلاح الخلل، متهماً حالوتس بأنه لم يأخذ في الاعتبار نتائج التحقيقات العسكرية التي اظهرت اخفاق هؤلاء الضباط. لقد أربك الصمود اللبناني - جيشاً ومقاومة وشعباً، اسرائيل سياسياً وعسكرياً، فللمرة الاولى في تاريخها يتراشق قادتها العسكريون والسياسيون التهم حول فشل حربهم على لبنان، ويتهم الجنود قادتهم بأنهم دفعوا بهم الى حرب خاسرة، وهذا ادى الى تعاظم التوتر بين وزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الأركان دان حالوتس ودعوة مناصري كل منهما الآخر الى الاستقالة بسبب اخفاقات الحرب، ولا سيما من جانب وزير الدفاع السابق بنيامين بن اليعازر الذي دعا حالوتس الى الاستقالة لأنه لم يتخذ الاجراءات الضرورية بحق قادة الفرق الذين فشلوا في قيادة قواتهم في الحرب وعجزوا عن تحقيق المهام الموكولة اليهم. كما ان المقربين من بيرتس يقولون إن حالوتس يتصرف كأنه ليس هناك فوقه وزير للدفاع، إذ أنه لم يتشاور معه في التعيينات، فيما يشير مقربون من حالوتس، في المقابل، الى أن التعيينات الجديدة تمت بالتشاور مع وزير الدفاع. إلا أن الكثير من المعلقين العسكريين يعتقدون أن الصراع بين الرجلين قائم منذ بداية الحرب، وأنه فقط كان يتعاظم مع مرور الوقت.
وعلى الرغم من اجتماع بيرتس وحالوتس، للبحث في التعيينات الجديدة، أرجأ وزير الدفاع قراره النهائي. وأشاع مقربون من بيرتس أنه غير راض عن قرار حالوتس عدم إطاحة أي من قادة الفرق الأربع التي شاركت في حرب لبنان.

ومعروف أن التعيينات الجديدة شملت تعيين هيرش رئيساً للدائرة الاستراتيجية في شعبة التخطيط، والعميد غاي تسور قائداً لأكبر قاعدة عسكرية «تساليم»، وإبقاء العميدين إيرز تسوكرمان وايال آيزنبرغ في منصبيهما كقائدي فرق للعام الثالث على التوالي. وأبدت مصادر عسكرية إسرائيلية تقديرها بأنه إذا لم يصادق وزير الدفاع على التعيينات كما أقرها حالوتس، فإن القادة العسكريين المعنيين سوف ينسحبون من الجيش. وبحسب هذه المصادر فإن هؤلاء الضباط حصلوا على تأييد رئيس الأركان والجنرالات الأعضاء في هيئة الأركان، ولا يمكنهم البقاء في الجيش إذا قرر وزير الدفاع خلاف ذلك، إلا أن الأهم من ذلك هو أن مكانة رئيس الأركان سوف تتضعضع من جراء قرار مماثل يتخذه وزير الدفاع، وهو ما سيكون بالغ الضرر على الجيش. وتشدد مصادر في الجيش الإسرائيلي، وفق صحيفة «معاريف»، على أن الاعتبارات المركزية التي دفعت رئيس الأركان الى عدم إطاحة أي من قادة الفرق التي شاركت في الحرب، تمثلت في عدم السماح بحدوث هزة في الجيش، وإضعاف الثقة بالقيادة. ولهذا السبب قرر حالوتس ترقية هيرش وتسور، اللذين قادا على التوالي الفرقتين 91 و162، على الرغم من أن التحقيقات اظهرت إخفاقات جوهرية في أدائهما، وأداء القوات تحت إمرتيهما.

ويرى معلقون اسرائيليون أن الانتقادات التي وجهت لرئيس الأركان بسبب ترقية هذين الضابطين، أشعلت الأضواء الحمراء لدى وزير الدفاع. ومع ذلك فإن جهات عسكرية عديدة أعربت عن عدم ارتياحها لقرار ترقية هؤلاء الضباط، أو الإبقاء عليهم في مناصبهم فقط من أجل عدم إحداث هزة في المؤسسة العسكرية. وقال بعضهم انه «يبدو أن استقرار المؤسسة صار أكثر أهمية من إصلاح العيوب، ومن ترسيخ مبدأ أن من يفشل عليه أن يدفع الثمن». وقال ضابط في القوات البرية إن «كل الضباط الذين شاركوا في الحرب يواصلون العمل، كما لو ان شيئاً لم يحدث، وذات يوم سيعينون جنرالات أعضاء في هيئة الأركان. إذاً، أين هو إصلاح العيوب؟ في النهاية سيطيحون قائد كتيبة أو نائب قائد اللواء، وهذه ستكون استنتاجات التحقيق». واعتبر معلقون عسكريون أن التفسير الوحيد لتعليق المصادقة على قرار التعيينات الجديدة في الجيش، وتوجيه صفعة مدوية لرئيس الأركان، هو خوف وزير الدفاع من ردود الفعل العامة على ذلك. وقال أحد المعلقين انه ينبغي على الرجلين أن يعلما أنه لا يحق لهما التنافس على إنزال الأذرع، واعتبار ظهر الجمهور الإسرائيلي طاولة المنافسة. عموماً، ليس من المستبعد أن يتطور هذا الخلاف ويترك أثره، ليس على العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري فحسب، وإنما قد يحمل آثاراً على الحكومة الإسرائيلية ذاتها.

 

الانعكاسات الاقتصادية والسياسية

لا يبدو ان اسرائيل ستكون قادرة بسرعة على هضم نتائج عدوانها على لبنان واستيعابها، فالانعكاسات الأولية الى جانب الخلافات السياسية - الأمنية - العسكرية ليست بسيطة على الاقتصاد الاسرائيلي. فالكلفة الشاملة لحرب الايام الثلاثة والثلاثين بلغت 23 مليار موزعة على الشكل الآتي وفق المصادر الرسمية الاسرائيلية:
- مصروفات الاجهزة الأمنية، 7 مليارات.
- الأضرار المباشرة اقتصادياً (خصوصاً في الشمال)، 5 مليارات.
- خسارة 1,5 في المئة من المنتوج، 9 مليارات.
- هبوط في الدخل من الضرائب لصندوق الدولة، 2 مليار.

وهذه الأضرار سوف تتفاقم مع مرور الزمن ومع اكتشاف الاثر البعيد المدى على الاقتصاد. واذا كانت هذه هي الاضرار الاقتصادية، فإن الضرر الأكبر لحق في بنية الدولة، وربما للمرة الاولى منذ نشوئها تظهر في اسرائيل خلافات سياسية - امنية بالحدة التي انعكست خلال الحرب وبعدها، لا سيما بين جهازي الموساد والمخابرات العسكرية، ولعل شرارتها التي انطلقت اواسط ايام الحرب خلال جلسة مجلس الوزراء يوم 27 تموز حول ماهية الضربة التي تلقاها «حزب الله»، حيث اعتبر الاثنان ان «حزب الله» قد ضعف نتيجة العمليات، الا ان الموساد اعتبر ان «حزب الله» يمكنه الاستمرار بالحرب حتى وقت طويل بالوتيرة والقدرات نفسها التي اظهرها خلال الايام الخمسة عشر، في حين رأت الاستخبارات العسكرية ان الحزب «تلقى ضربة قاسية اكثر بكثير مما لدى الموساد من معلومات». إلا ان مجريات اليوم التالي للحرب فاجأت الجميع، لا سيما أن رئيس الأركان دان حالوتس ابلغ رئيس الوزراء ايهود اولمرت ان اسرائيل انتصرت عملياً في الحرب، ممرراً خبراً مفاده انه تمّ تدمير نحو ثمانين بالمئة من صواريخ المقاومة الطويلة الامد. لكن المقاومة كثفت الرد الصاروخي في ذاك اليوم، ما ادى الى تعزيز صدقيتها حتى بنظر الاسرائيليين، مراقبين وعسكريين ومدنيين، مقابل سقوط «مملكة الصدقية الاسرائيلية» التي كان العالم ينظر اليها على انها ناصعة.

وهذا الأمر بحدّ ذاته شكل وللمرة الأولى انعدام ثقة لدى المستوطنين بقيادتهم العسكرية والامنية والسياسية، مقابل ارتفاع منسوب الثقة لدى الشارع العربي، والتخلي عن الافكار المسبقة على الذات بأن «العرب دائماً يكذبون في حين أن الاسرائيليين صادقون». حتى ان المراقبين الغربيين ومراسلي الاعلام الدولي والعربي، رددوا مراراً: نعم الاسرائيليون يكذبون على شعبهم وعلى انفسهم، اكثر بكثير مما كانت عليه القيادات العربية في الحروب السابقة.. وهذا مؤشر كبير على ضعف متعدد الجوانب في بناء الكيان بحدّ ذاته.

 

مبادئ سقطت

لا شك ان اسرائيل مفجوعة باكتشاف ذاتها، فالأزمة الاخلاقية والحضارية التي تعيشها منذ انشائها في المنطقة تزداد، خصوصاً بعد الفراغ الايديولوجي المتأتي عن انهيار الاحزاب الأساسية وتشرذمها وغياب القيادات التاريخية وانتشار الفساد، وهذه العوامل لا يمكن ان تغطي فراغاتها ايديولوجيات استهلاكية فردية الطابع. ترى اسرائيل في وجود قوة صاروخية عند حزب عقائدي (وليس عند دولة) خطراً كبيراً، فهي تخاف على مستقبلها ووجودها بالطبع اذا امتلكت دولة ما قدرات عسكرية اقلّ بكثير مما تكتنزه مخازنها وترساناتها من اسلحة. ومصدر الخوف هو تحول النموذج اللبناني الى نموذج يستوحى عربياً، على مستوى الشارع العربي المحبط من انظمته، وعلى مستوى الأنظمة التي ما زالت تعيش حالة مواجهة مع اسرائيل، فكيف اذا كانت هناك ردود فعل من انظمة تملك قدرات، وقد جذبها وهج الانتصار الذي تحقق في لبنان على يد بضع مئات من المقاتلين؟

وفي هذا المجال قال الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست يوفال ستانتيز بعد الانتهاء من سماع شهادات 54 ضابطاً وجندياً شاركوا في الحرب، إن «الصورة التي اوجدتها هذه الشهادات سيئة للغاية». وقال إن عدداً كبيراً من الجنود الذي شهدوا (خصوصاً الضباط) عبروا عن قلقهم من قدرة الجيش الاسرائيلي على مواجهة اي هجوم عسكري من قبل دولة قوية، تملك جيشاً قوياً، مثل مصر وسوريا». لقد سقط مبدآن في الحروب الاسرائيلية، بعد الحرب على لبنان:
الاول: «تصدير الحرب الى اراضي العدو وعدم السماح بحصولها على ارض اسرائيلية»، وقد افشل ذلك تساقط الصواريخ بكثافة على المدن والمواقع الاسرائيلية، ولا سيما في العمق من دون ان يتمكن الطيران من حل المعضلة التي بقيت حتى اليوم الاخير للحرب، ما أدى الى التدخل البري، لا بل ان امين عام «حزب الله» اعلن بعد الحرب في مهرجان «يوم النصر» انه ما زال لدى الحزب اكثر من 30 الف صاروخ.
الثاني: مبدأ «الحرب الخاطفة» الذي كانت اسرائيل عبره تحسم الحرب ببضعة ايام بقصف استراتيجي يكسر القوى المقابلة ويشل قيادتها وسيطرتها، مع احتلال سريع يجنّبها التورط في حرب استنزاف. الا ان سلاح الطيران لاقى الفشل الذريع مقابل الوظيفة الاستراتيجية التي باتت لسلاح الصواريخ، وهو الذي اجبر اسرائيل على خوض معركة برية خاسرة ايضاً. يضاف الى ذلك سقوط اسطورة خوض اسرائيل حروب من دون ضحايا اسرائيليين. كما ان ما يعرف بتيار «المتنورين» العلمانيين قد بدأ يفقد موقعه كنخبة قتالية. وما كان يعتد بها كنخبة قتالية مثل «لواء غولاني» لم تعد وحدات نخبة بل اصبحت مجرد الوية.

 

الفشل وصف ملطّف للهزيمة

لا يوجد في اسرائيل اليوم اي شعور بالنصر، بل هناك شعور بالفشل كوصف ملطف للهزيمة، وهذا وحده كفيل بشحذ السكاكين للصراع السياسي، بين القوى المؤتلفة في ما بينها وبين القوى المعارضة، وبينهم جميعاً، وبين الجيش. ولذلك تحاول القوى الاسرائيلية الموجودة في السلطة الآن تأخير الانفجار السياسي والاجتماعي عبر شن عدوان على غزة. بالمعنى العلمي اضاعت اسرائيل فرصة تاريخية لن تتوافر لها مرة اخرى، فهي لأول مرة تشن حرباً لم تتعرض خلالها الى اي ضغط دولي لإنهائها، لا بل كانت دول كبرى تريد اطالة عمر الحرب حتى تحقق الاهداف. فحتى الدول الصناعية الثمانية خلال الايام الأولى للحرب تبنت الموقف الاسرائيلي، تحت عنوان «حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها». وما كانت هذه الحرب لتأخذ هذا المدى والقسوة والعصبية لولا اكتشاف اسرائيل (ومن خلفها وامامها الولايات المتحدة) ملاءمة التوقيت دولياً وإقليمياً لتحقيق هدف استراتيجي ينهي «الروح» المقاومة في اصقاع الارض، تكون المقاومة في لبنان وما يلحق بهذا الوطن من تدمير وخسائر نموذجاً ينتظره كل من يفكر في الوقوف ممانعاً للمشروع الأكبر على مستوى الكرة الأرضية، تبدأ تحولاتها الفعلية في دول عربية باتجاه «المحور المعتدل» الذي تسعى اليه الولايات المتحدة. وهو ما يفسر الصمت العربي واكثر من الصمت في المراحل الأولى من الحرب، وهو موقف لم يكن له سابقة في اي وقت من اي طرف عربي.

 

محاولات استعادة الهيبة

دأبت المؤسسة العسكرية في اسرائيل على العمل من اجل استعادة هيبتها وقوة ردعها المفقودة (مجازاً) عبر ضرورة التخلص من الترسانة الصاروخية الموجودة لدى «حزب الله»، وهو الامر الذي سعت من اجله سياسياً منذ تحرير الجنوب في ايار العام 2000، اذ سعت للاستفادة من صلات كل دبلوماسيي العالم (المباشرة وغير المباشرة) بالدول العربية والسلطات اللبنانية وكذلك ب«حزب الله» مباشرة لتحقيق هذه الغاية، وقد تمّ عرض اغراءات مذهلة مقابل التخلص من القدرة الصاروخية للمقاومة.
وبموازاة ذلك كانت اسرائيل تسعى عبر عيونها وآذانها في لبنان، وكذلك عبر بعض السياسيين والدبلوماسيين، لمعرفة عدد الصواريخ وانواعها واماكن تموضعها، لأن رأي المخابرات الاسرائيلية وقيادة الجيش بأن الحرب ضد «حزب الله» آتية بدون ادنى شك، وكل تأجيل يعني اعطاء المقاومة في لبنان فرصاً اخرى لإعداد نفسها بشكل افضل وتقوية عضدها.