سياحة في الوطن

بـــرحليون
إعداد: العميد انطوان نجيم - جان دارك ابي ياغي

الإبن الحلو للشِّعر والعنفوان والكرم
الى برحليون،
السماء تمطر، والثلوج تتوعّد، والصقيع يلفح،
فلتكن سياحتنا في الوطن هذه المرة «غير شكل».
وانطلقنا نحو الشمال نقطع الطريق وحبال المطر الى برحليون، التي وصلناها وقد لفّها الصقيع والضباب. كان رئيس البلدية الأستاذ مرسال قزحيا السندروسي في مبنى البلدية في انتظارنا. ألقينا عليه التحية، وتعارفنا، فما تردّد بدعوتنا الى الإنتقال من صقيع الطبيعة الى دفء العائلة والكرم في منزله العامر حيث كان لنا معه، حول المدفأة (الصوبيا)، هذا اللقاء.


في دارة رئيس البلدية
إستهلّ رئيس البلدية الحديث عن رقعة امتداد برحليون التي تضمّ قريتين: برحليون وشيرا. من هنا إمكانات البلدية لا تفي بمتطلبات الإنماء المتوازن لأنها ضئيلة، على أمل أن «نصل يوماً ما الى لا مركزية إدارية من شأنها أن تجعل البلدات الجبلية في نمو مستمرّ».
أما تاريخ تأسيس بلدية برحليون فيعود الى العام 1964، إلا أن ظروفاً أدّت الى حلّها لتعود العام 1998 مع أول مجلس بلدي برئاسة بشير طراد الذي استمرّ لغاية العام 2004، عندما انتخب المجلس البلدي الحالي برئاسة مرسال قزحيا السندروسي والذي يضمّ تسعة أعضاء.
وعن الخدمات التي تؤمنها البلدية للبلدة قال: «منذ انتخابنا بدأنا نتطلّع الى الأمور الإنمائية التي تحتاج اليها البلدة مثل شق طرقات جديدة وتأهيل القديمة وتزفيتها (وتقدّر الطرقات الحالية المطلوب تزفيتها بـ30 كلم تقريباً)، إنشاء حيطان دعم، بناء مدخل على شكل قناطر مع لافتة تدل الى البلدة، إستحداث غرف إنتظار لطلاب الجامعات في محطات الباصات. كما اهتمت البلدية بالبنى التحتية: مدّ شبكات الصرف الصحي، ومياه الشفة والري، وهي بصدد دراسة مشروع بمساهمة من دولة الكويت على شكل هبة بقيمة مليون ونصف مليون دولار لتأمين المياه لقرى برحليون وعبدين وبلاّ، وذلك بمسعى من نواب المنطقة الحاليين، وقد وافق عليها مجلس الوزراء.
أما على صعيد النشاطات الإجتماعية فتقدّم البلدية جائزة سنوية لأبناء البلدة الناجحين في شهادة البكالوريا - القسم الثاني - وهي «جائزة الخور أسقف يوحنا طراد» الذي له الفضل الكبير بتطوّر البلدة عندما بنى المدرسة الرسمية، والمدافن، وكنيسة مار أنطونيوس البدواني، ومدرسة على إسمه تديرها راهبات المحبة مع صالة للمناسبات العامة. وقد جمع الأموال اللازمة لهذه المشاريع من أبناء البلدة المغتربين والمقيمين. يجدر بالإشارة أن الخور أسقف يوحنا طراد توفي العام 2002، وإحياءً لذكراه وتقديراً لعطاءاته، قامت البلدية بتجميل الساحة العامة وساحة الكنيسة وأطلقت عليها إسمه.
وفي الختام، تمنّى رئيس البلدية على الدولة أن تهتمّ بالمدن - التي نريدها مزدهرة - ولكن ليس على حساب باقي البلدات الجبلية. وأهدى «مجلة الجيش» هذه الأبيات الشعرية:
شرقط يا سيف الحق حملوك الأسود
وشبكوا الأيادي البيض تا يحموا العرين
وحلفوا اليمين يرجعوا كرامة حدود
ويحموا الأمانة من الغزاة الطامعين

 

مئة شاعر وشاعر
اللقاء مع الشاعر جوزف السندروسي (مدير الثانوية الثقافية في عين الرمانة) كان شاعرياً، إذ تغنّى بالنواحي الطبيعية لبلدته برحليون التي تتحلّى بجمال طبيعي خلاّب ومتنوّع بين ربى مرتفعة وأودية سحيقة ومنبسطات فسيحة وغابات كثيفة وينابيع رقراقة... في هذا الجو الطبيعي ترعرع، ونظم أجمل القصائد ما جعله يتعلّق أكثر بهذه الأرض، أرض الأجداد وما تركوه من قيم نعتز بها وتراث نفتخر به. «أجدادنا هم مَنْ طوّعوا هذه الأرض فأطاعتهم، ونحتوا صخورها وجعلوها رياضاً غنّاء أمدّهم إنتاجها بكل ما يحتاجون اليه لتأمين حياة كريمة».
وعن الحياة الإجتماعية في البلدة قال: «ما زالت البلدة تحتفظ بعادات الأجداد وتقاليدهم، فأبناؤها يتشاركون الأفراح والأحزان ويتعاونون في الأعمال الزراعية والعمرانية وغيرها».
أما عن الناحية الفكرية والأدبية والشعرية لبلدة برحليون فحدّث ولا حرج: «دعيت بلدتي «قرية المئة شاعر وشاعر» لأنها تحوي فيضاً من الشعراء. كما أن فيها رجالاً مثقفين وأطباء إختصاصيين في المجالات العلمية شتى، وطلاباً يقصدون المدارس الراقية لاكتساب العلم والمعرفة ما يؤهلهم لتبوّء مراكز مهمة. إلا أن محيط القرية الضيّق دفعهم للعمل خارجها لتحقيق طموحاتهم، من دون أن يحدّ من تعلّقهم بقريتهم التي يزورونها أسبوعياً ولا يفوّتون مناسبة فرح أو ترح إلا ويحضرونها».
وقد درجت البلدة على إقامة المهرجانات الشعرية، حيث يتبارى الشعراء على النمط الذي كان معتمداً في سوق عكاظ والزجل اللبناني والقصيد والقرادي والموشح والميجانا والعتابا... وكل أنواع الشعر اللبناني والفصيح. فكل مَنْ في البلدة إما يتقن نظم الشعر أو يتذوّقه».
وأنهى حديثه بأبيات شعرية من قصيدة في الجيش:
لم يبقَ مـن أمـلٍ نـرتاد نُجعتَـه
إلا بجيــشٍ بــه الأوطــانُ تفــتخــرُ
جيشٍ ترفّع عن عاهاتِ مجتمعٍ
للحــقّ يعمــلُ للأخـــلاقِ ينتصــــرُ
جيشٍ أبيٍّ كجذع الأرز منتصبٍ
يلوي مع الريح لكنّ ليس ينكسرُ
يقـودُ جنــدَهُ ضـبـاطٌ غطارفــةٌ
كالأسْدِ ثورتُهُمْ في الغاب إن زأروا
أجسـادهـم دِشَـمٌ أقوالهـم حِمَمٌ
أحــداقُهُــمْ جُهُــمٌ ألحاظُـهُــمْ شــَرَرُ

 

تطلعات الشباب
تطلعات الشباب «البرحليوني» تحدّث عنها منصور السندروسي (إبن رئيس البلدية - إختصاصي برمجة ومحاسبة - معلوماتية إدارية) الذي طالب بإنشاء ملاعب رياضية وأندية ثقافية تجمع أبناء البلدة لممارسة هواياتهم المتنوّعة، كما طالب باستحداث حدائق عامة للتنزّه، وشكر البلدية على مركز الإنترنت في وسط البلدة (Network) الذي يتردّد اليه الشباب من الأعمار كافة.

 

أصل تسميتها
أجمعت المراجع كلها على أن كلمة برحليون سريانية الأصل، فهي تتألف من «بر» بمعنى الإبن، و«حليو» بمعنى الحلو أو الجميل، فيكون معناها الإبن الحلو الجميل.
وجاء في كتاب «برحليون بوابة جبّة بشري» لإبن برحليون الأستاذ مجيد حنا طراد أنه «لعل «حليو» مقلوبة عن «حيلو»، والحَيْل أو الحَوْل تعني القدرة والقوة إذ يقال «لا حيل أو لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ذلك أن العديد من رجالها اشتهروا بقوتهم البدنية وباتوا مضرب مثل في القرى المجاورة».
أما محلة شيرا - وهي قرية مستقلة من قرى بشري حسب المصادر التاريخية - فهي جزء من برحليون، ومعنى إسمها في السريانية «الحرير»،  الأمر الذي تثبته زراعة التوت في تلك الناحية بحيث شكّلت العمود الفقري لاقتصاد سكان تلك المنطقة حتى بدايات القرن العشرين.
 

موقعها
تقع برحليون الى الجهة الغربية من قضاء بشري - محافظة الشمال - الذي عرف عبر التاريخ باسم جبة بشري. وتحتل منحدراً فسيحاً يتجه صعداً من الغرب باتجاه الشرق بخط مستقيم يتدرّج صُعُداً من أسفل محلة شيرا أي من ارتفاع 625 متراً عن سطح البحر حتى مقر سيدة ديرونا على علو 1325 متراً، ثم ينحدر قليلاً ليتابع ارتفاعه حتى قمة «تلة القموعة» المرتفعة 1375 متراً عن سطح البحر.
يحدّها من الشرق بيت منذر وحدث الجبة، ومن الغرب قرى بنهران ومتريت ورشدبين التابعة لقضاء الكورة، ومن الشمال الغربي مغر الأحول، ومن الجنوب خراج قرية حردين التابعة لقضاء البترون.
تبعد برحليون 25 كيلومتراً عن بشري، مركز القضاء، و30 كيلومتراً عن مدينة طرابلس، عاصمة الشمال، و100 كيلومتر عن العاصمة بيروت.
تتبع إدارياً لقضاء بشري، وقضائياً لمحكمة أميون في قضاء الكورة. فيها مجلس بلدي أنشئ العام 1964.
خراج قرية برحليون المثلث المتساوي الأضلاع شكلاً، قاعدته نحو الغرب ورأسه نحو الشرق، يغطّي مساحة تزيد على 8 كيلومترات مربّعة. أما المساحة العامرة فدائرية الشكل حول بقعة مستوية يبلغ ارتفاعها وسطياً حوالى 1000م عن سطح البحر وسطها كنيسة القرية ومدرستها الرسمية. ويراوح ارتفاع هذه المنطقة بين 950 متراً في أسفل القرية و1225 متراً في أعلاها شرقاً، وهي تشرف بأكملها على ساحل البحر وأقضية الكورة والبترون وزغرتا وعكار.
 

برحليون في التاريخ
مَن لنا، للوقوف على حضور برحليون في التاريخ غير إبن برحليون، حامل إسمه بكل جدارة، الأستاذ مجيد طراد صاحب كتاب «برحليون، بوّابة جبّة بشري» الصادر حديثاً، ليخبرنا عن تاريخ قرية رائعة. وكان أول سؤال لمحدّثنا.
• خذنا، أستاذ مجيد، في رحلة في تاريخ برحليون.
- يرقى تاريخ الحضور السكاني في القرية الى عصور قديمة جداً ودليلنا نواويس وخرائب منتشرة بوفرة في نواحي القرية كافة، بالإضافة الى أطلال معاصر، وآبار مخروطية محفورة في الصخر الصلد. كما تدل أسماء بعض المواقع في القرية مثل: عين سعيد وعين عيسى، وعين بو فيصل والبطحانية والزعبية والداغرية وغيرها كثير، على ارتباطها بأشخاص وعائلات اختفى أثرها وذكرها، وتخلّدت بأطلال منازل استمرت بادية للعيان حتى وقت قريب كما مع آل الزغبي الذين كانوا يقطنون في وسط القرية ثم رحلوا الى بلدة دار بعشتار الكورانية.
أما الوجود السكاني القريب العهد فيعود الى بداية القرن السادس عشر، وقد ورد في أقدم إحصاء سكاني لقرية ناحية بشري جرى العام 1519 أن عدد المتزوّجين في برحليون بلغ 7 أشخاص، وبمعدّل 6 أشخاص للعائلة الواحدة حسب تقدير تلك الأيام، فيكون عدد سكان برحليون عصرذاك بحدود 42 نسمة. وارتفع عدد المتزوجين في إحصاء العام 1571 الى ثلاثين شخصاً ليكون عدد السكان 180 نسمة. ولكن مع ضريبة «القشلق» التي فرضتها الدولة العثمانية العام 1572 خلت برحليون من ساكنيها كما قرى أخرى كثيرة.
العام 1759، ثار أبناء الجبّة على حكم آل حمادة فأطاحوه وطردوا أتباعه وتولّوا بأنفسهم حكم البلاد. وراح الحضور السكاني في برحليون ينمو وينتشر في ظل حكم مشايخ القرى.
وفي الإحصاء السكاني لعام 1862 بلغ عدد سكان برحليون 92 نسمة. وفي إحصاء لاحق جرى العام 1900 كان عددهم 323 نسمة يضاف اليهم 40 نسمة في محلة شيرا التابعة للقرية. ومعنى هذا أن التزايد السكاني خلال حوالى 40 سنة كان 271 نسمة، وهي نسبة تزايد يستحيل أن تقع بالتوالد من العدد الأول - أي 92 - ولا شك في أن هناك وافدين استقروا في القرية وانتموا اليها. أما في إحصاء العام 1903 فقد بلغ العدد 350 نسمة، يضاف اليها 60 نسمة في شيرا.
العام 1970، ووفق إحصاء أجراه نادي التضامن البرحليوني ناهز عدد البرحليونيين الألف نسمة. والعام 2005 أظهرت القوائم الإنتخابية أن عدد الناخبين والناخبات يتجاوز 1150، الأمر الذي يفيد بأن عدد سكان القرية قد تجاوز الألفي نسمة.
من ناحية ثانية هناك برحليون أخرى وأكبر موزّعة في دول الإنتشار اللبناني. ففي أوستراليا أكثر من ألف نسمة، وفي كل من الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك ما يزيد على 300 نسمة، وفي الأرجنتين حوالى 150 نسمة، وفي كندا حوالى المئة.

 

المعالم الأثرية في برحليون
• هل ثمة مواقع أثرية في برحليون، أستاذ مجيد؟
- بكل تأكيد، تكثر في برحليون المعالم التي تثير اهتمام هواة التنقيب عن الآثار، ويتناقل البرحليونيون، قديماً وحديثاً، أخبار الذين عثروا على كنوز ذهبية أو تماثيل معدنية ذات قيمة.
في أعلى تلة القموعة، وارتفاعها 1375 متراً عن سطح البحر موقع يحتوي على حجارة ضخمة مقصّبة قِطَعاً مستطيلة بعضها ما زال قائماً، والآخر سقط وتوزّع في المكان محافظاً على روعته. أما أسلوب البناء في الموقع فروماني الطراز يشبه الى حد بعيد حجارة بعلبك المتوسطة الحجم. وقد يكون البناء إحدى القلاع أو أبراج المراقبة نظراً الى موقعه الإستراتيجي المهم الذي يتحكّم بأحد المنافذ القليلة المؤدية الى بلاد الشام عبر جبال لبنان الشمالي. والى جانب الموقع آبار مخروطية الشكل محفورة في صخور مسطّحة صلبة ويراوح قطر فوهاتها بين المتر ونصف المتر تقريباً، ثم تتسع تدريجاً نحو الأسفل حتى يبلغ قطر قاعدتها خمسة أمتار على عمق ستة أمتار تقريباً. وكانت هذه الآبار تستعمل لجمع مياه الأمطار.
الموقع الثاني هو موقع بعفشا، أو منطقة الخرايب، ويقع الى الجهة الشرقية الشمالية من القرية على تلة ترتفع 1050 متراً عن سطح البحر. وهي تضم العديد من الآبار المخروطية، والى جانبها آثار أبنية عديدة متقاربة الأحجام مجاورة بعضها لبعض وما يزال بعض جدرانها قائماً. وعلى مسافة كيلومتر تقريباً الى الجهة السفلى آبار مخروطية ما زال أصحاب الأملاك يستخدمونها حتى اليوم لتخزين المياه لمواشيهم.
وأخيراً تنتشر في أماكن متعددة من القرية غرف جنائزية وهي قبور مستطيلة منحوتة بدقة في الصخر ويعود معظمها للعصور البيزنطية، ويحتوي بعض هذه الغرف على هياكل عظمية مفككة.
 

• بماذا يعمل أبناء برحليون توفيراً للعيش الكريم؟
- من أبناء قريتي مَن يعمل في قطاع البناء بفروعه شتى، ومنهم مَن يملكون معامل لنشر الصخور أو مزارع لتربية الدواجن، وهناك فئة لا بأس بها تعمل في مجال المهن الحرّة كالطب والهندسة والمحاماة. وهناك فئة من صغار التجار يكسبون رزقهم عن طريق تبادل السلع الصناعية والمحاصيل الزراعية بين مختلف المناطق اللبنانية.
وكـذلك يضـم السلـك العسكري عدداً لا بـأس بـه من أبنـاء القرية. ومـن ناحية ثانية، تشكـّل أمـوال المغتربين مصـدراً رئيـساً من مصادر دخل أبناء القرية نظراً الى ارتفاع نسبة المهاجرين فيها.

 

سياحة في برحليون
انطلقنا ورئيس البلدية والأستاذ مجيد طراد نتعرّف على معالم برحليون. ولكن السماء ما انفكت تجود بغيثها هملاً، والبرد يقرص، والشمس مُفْتَقَدَةٌ خلف غيوم داكنة تحاول من دون جدوى التفلّت من أسرها فتحتضن الطبيعة بخيرها كما المطر، ومصوِّرَنا فتزهو صُوَرَه.
الى دير سيدة ديرونا الوجهة صعوداً. وهنا نحن نقف على تلة خلاّبة من تلال برحليون تعلو 1325 متراً عن سطح البحـر. وتشـرف على مـا يحيـط بها من الجهات الأربع بحيث يستطيـع المـرء في حـال إنقشاع الرؤيـة «أن يــشاهد بالعـين المجـرّدة ساحل البحر المتـوسط الممتد من اللاذقية في سوريا شمـالاً حتى ساحل مدينة جبيل جنوباً، إضافـة الى معظـم قـرى أقضـيـة عكـار والضنيـة وزغرتـا والكـورة والبتـرون، وإذا حــوّل بصـره نحـو الشــرق طالعتـه قمـم جـــبـل المكمـل ومـراكـــز التــزلج في الأرز واللقـلوق»، كمـا أخبـرنا الأستاذ طراد.
أما الدير الذي لجأنا الى جدرانه الشرقية هرباً من ريح غربية باردة فاسمه ديرونا مشتق من ديرو بالسريانية أي الدير بالعربية، وديرونا تعني الدير الصغير، ولعله كان قديماً مركزاً أقامه بعض الرهبان للصلاة. لا يعرف تاريخ بنائه بالتحديد، وربما يعود الى القرن الثالث عشر أو ما قبله إذ يذكر الأب بطرس ضو في كتابه «تاريخ الموارنة» أن البطريرك الماروني لوقا البنهراني الذي عاش حوالى العام 1283 هو أول بطريرك جعل مقره في جبة بشري في بلدته بنهران شتاءً وفي سيدة ديرونا فوق قمة تشرف على بلاد برحليون صيفاً. الدير عبارة عن بناء مستطيل الشكل طوله 7 أمتار وعرضه خمسة أمتار تقريباً معقود السطح، وتدل جدرانه على أنه خضع لعمليات ترميم في حقبات متلاحقة من الزمن. ولعل أوسع عملية ترميم وبناء خضع لها جرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الخوري البرحليوني يوحنا يوسف جريج طراد حيث تمّ تشييد بناء مدرسي جديد من طبقتين، وقد حفرت تحت رواقه بئر ماء كبيرة منقوشة في الصخر على مقربة من الدير القديم. وتكرّرت عمليات الترميم إثر كل تصدّع أو إنهيار كان يصيب الدير نتيجة العوامل الطبيعية أو البشرية كما في الحرب الأخيرة العام 1977.
وديرونا اليوم مركز سياحي طبيعي بالإضافة الى طابعها الديني يؤمها السياح من المناطق كافة، ويغصّ بأبناء القرية والقرى المجاورة في عيد إنتقال السيدة العذراء في 15 آب من كل سنة حيث، بعد مشاركتهم بالقداس الإلهي، يمضون نهارهم في أرجاء الدير الفسيحة حيث يتناولون طعامهم ويعقدون حلقات الدبكة والرقص في ظل سنديانة دهرية ضاربة جذورها في الصخور الصلبة في تحدٍ لا مثيل له.
وبعد جولة في أرجاء الدير عبقت خلالها أنوفنا برائحة التراب، وبين الدير وعيوننا مسافة استغلها خيالنا طويلاً ليعيدنا عميقاً في التاريخ...
ولكن المطر المطر رفيقنا الدائم يخطفنا الى السيارات وكأنه يطردنا لتخلو له الساحة فيروي السنديانات العتيقة، والأشجار الأخرى نواطير الدير، لتستمرّ في وظيفتها حارسة خالدة لتراث يستمر حياً بهمّة البرحليونيين.
في دير مار نوهرا، محطتنا الثانية، طالعنا بناء حجري معقود السقف، مؤلف من قسمين متلاصقين بمساحة أربعين متراً مربعاً يفصل بينهما جدار يتوسطه باب معقود. أعيد ترميمه حديثاً مع الإحتفاظ بحجارة جدرانه القديمة التي ما زالت قائمة كبيرة الحجم رومانية الطراز. ومن المحتمل أن يكون قد بني تخليداً للقديس لوسيان الذي قدِم الى جبة بشري مع بداية التبشير المسيحي واستشهد فيها.
وفي طريقنا الى دير القديسين قوزما ودميانوس، أخبرنا محدّثنا الأستاذ مجيد عن دير مار أسطفان الواقع الى الجهة الشرقية الجنوبية من القرية في مكان حصين لا يمكن بلوغه إلا بصعوبة بالغة وحذر شديد، وهو عبارة عن بناء معقود ملاصق لجدار صخري يكوّن أحد جوانبه الأربعة. وله مدخل واحد مشرف على وادٍ سحيق، وكان مركزاً للرهبان النسّاك ويتناقل المسنّون البرحليونيون أن الأمطار الغزيرة جرفت صخرة كبيرة الحجم ورمتها على سطحه المعقود فأزاحت بعض حجارة العقد واستقرت مكانها، وما تزال الى اليوم، ويعتبر الرواة هذه الحادثة من معجزات القديس اسطفان.
أمام دير القديسين قوزما ودميان وقفنا أمام رهبة التاريخ. ويخبرنا الأستاذ مجيد أن «دير قوزما العتيق» يقع الى الجهة الغربية من القرية في أسفل منطقة شيرا، لا يعرف تاريخ بنائه بالضبط وإن كان مؤكداً أنه يعود الى القرن الخامس عشر أو قبله حسب البطريرك الدويهي في كتابه «تاريخ الأزمنة». وآثار الدير ما زالت ماثلة للعيان حتى اليوم فهناك أجزاء من الجدران ما تنفك قائمة وقد نبتت حولها أشجار السنديان المعمّرة.
أما الذي تقف أمامه فهو «دير مار قوزما الجديد» الذي شيّد في فترة لاحقة على مسافة 500م تقريباً من الدير العتيق وهو بناء مستطيل من عقد مفرد سقط نصفه وما يزال نصفه الباقي قائماً. وفي منتصف القرن العشرين وعلى بُعد عشرة أمتار من بقايا هذا الدير شيّد أبناء شيرا كنيسة جديدة على إسم القديسين قوزما ودميانوس.

 

حجر برحليون: ثروة القرية البكر
واقتربنا من شواهق سرقت أنظارنا، إنها ثروة برحليون البكر والواعدة في حال استثمارها مستقبلاً. فثروة هذه البلدة تتمثّل في جودة الصخور المنتشرة بكثرة في معظم أرجائها ولا سيما في محلة شيرا، ما جعل المهندسين والفنيين يؤثرونها علىأنواع الصخور المستوردة كافة.
ويروي الأستاذ مجيد نادرة عن أحد هذه المقالع: «إن أحد العقارات المسمّى «بلاطة اسحق» ومساحته تزيد على ثمانين ألف متر مربع من الأرض الصخرية القليلة الإنحدار، إشتراه صاحبه برغيف من الخبز زمن الحرب العالمية الثانية، ثم تناوب على ملكيته أكثر من شخص حاول كل منهم التخلّص منه بأبخس الأثمان كونه غير قابل للإستصلاح والزراعة. واليوم يتنافس كُثُر على امتلاكه بعدما تحوّل ثروة عظيمة.
وختاماً للسياحة الباردة الغارقة في عمق التاريخ كما في المطر، زيارة الى محلة شيرا لم تكن مِسكاً إلا في آخرها. فالطريق اليها ترابية حُفرها أفعوانية تحوّلت بركاً، وتكوّمت وُحولها تلالاً، فأين المفرّ؟ وبادرنا رئيس البلدية بسؤال عما نراه، لا بل ما نحسّه. فكان جوابه سريعاً ومختصراً وساخراً: «إنه الإنماء المتوازن».
وتوقفنا أمام منزل كاهن شيرا حيث استقبلتنا «الخورية» بكل ترحاب وقدّمت لنا القهوة قبل أن نودّعها عائدين أدراجنا الى بيت رئيس البلدية حيث كانت تنتظرنا مائدة عامرة الى جانب موقد النار.
ودّعنا رئيس البلدية شاكرين حسن الملقى وكرم الضيافة، وعدنا على أجنحة المطر الى قواعدنا سالمين.

 

من رجالات برحليون
• القاضي سليم الخوري سمعان أبي نادر. كان وراء إنشاء أول مجلس بلدي فيها العام 1964. من أبرز أعماله إصدار مجموعة التشريع اللبناني.
• دارل ملحم طراد، نائب ووزير في حزب العمال الأوسترالي.
• ريمون ملحم طراد، عالم في الكيمياء والأدوية.
• الخور أسقف يوحنا جريج طراد، منحه البابا يوحنا بولس الثاني رتبة عضو شرف في الحرس البابوي.

 

عائلات برحليون
أبي نادر، الخوري حنا القسيس، خليفة، داغر، ديب ديب، سرور، سندروسي، طراد، عكاري، العلم، كرم، مسلّم، نادر، يزبك.

 

ضيعتي
لمّا عرف المؤهل الأول المتقاعد الشاعر نجيب كرم أننا في قريته، سارع الى ملقانا، هو مَن كان يُغني مجلة «الجندي اللبناني»، وبرنامج الجندي، زمن خدمته في الجيش، ونفحنا بقصيدة له، تنقل أبهى صورة عن برحليون، لا سيما عن عشق أهل القرية للشعر
كتابة وتذوّقاً.

تصوير:
العريف بلال العرب