زيارة رسمية

بنديكتوس السادس عشر الآتي باسم المحبة والسلام

كونوا خدام العدل والسلام والمصالحة


بفرح وأمل ورجاء استقبل لبنان قداسة الحبر الأعظم البابا بنديكتوس السادس عشر. المبارك الآتي باسم المحبة والسلام، أودع اللبنانيين خصوصًا والمشرقيين عمومًا أمانة: «كونوا خدام العدل والسلام والمصالحة... ليتمكن الجميع من العيش بهدوء وكرامة...»، معتبرًا أنّ «على المسيحيين أن يقدموا هذه الشهادة الأساسية بالتعاون مع كل الأشخاص ذوي الإرادات الصالحة».


سلامي أعطيكم
تحت عنوان «سلامي أعطيكم» كانت زيارة الحبر الأعظم، وهذا السلام كان محور الرسائل الكثيرة والدعوات العميقة، التي وجهها قداسته خلال ثلاثة أيام فاض فيها إيمان اللبنانيين وتجلّى في استقبال ومواكبة رائعين خلال جميع محطات الزيارة.
فقد احتشد اللبنانيون رسميين ومواطنين لملاقاة صاحب الثوب الأبيض المجلل بورعه وخفره وحكمته، فانتشروا على الطرقات التي مرّ بها وقصدوا القداس الذي احتفل به في بيروت بمئات الآلاف، كما واكبوا مغادرته مودعين.
بين وصوله ومغادرته كانت للبابا بنديكتوس السادس عشر سبع كلمات كل منها في مناسبة.
في ما يلي أبرز ما جاء في هذه الكلمات الرسائل التي شاء قداسته أن يتركها لنا وصية وأمانة.

 

حاج سلام
في مستهل زيارته وخلال  الاستقبال الرسمي الذي جرى في مطار رفيق الحريري الدولي، ردّ قداسة البابا على كلمة فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بالقول: «إن التوازن اللبناني الشهير والراغب دائمًا أن يكون حقيقة واقعية سيتمكن من الاستمرار فقط بفضل الإرادة والتزام اللبنانيين جميعًا، آنذاك وحسب سيكون نموذجًا لكل سكان المنطقة والعالم بأسره».
وأضاف البابا: «إن التعايش اللبناني يجب أن يظهر للشرق الأوسط بأكمله ولبعض العالم أنه من المستطاع إيجاد داخل أمة ما، التعاون بين مختلف الكنائس... وفي الوقت ذاته التعايش المشترك والحوار القائم على الإحترام بين المسيحيين وإخوانهم من الأديان الأخرى».
وتابع قائلًا: «هذا التوازن الذي يقدم في كل مكان كمثال، هو في منتهى الحساسية وهو مهدد أحيانًا بالتحطم عندما يشد كوتر القوس أو عندما يخضع لضغوط، غالبًا ما تكون فئوية أو حتى مادية معاكسة وغريبة عن الإنسجام والعذوبة اللبنانيين».
وختم بالقول: «جئت إلى لبنان كحاج سلام... ومن خلال بلدكم أتيت اليوم وبطريقة رمزية إلى جميع بلدان الشرق الأوسط كحاج سلام وكصديق لجميع سكان دول المنطقة مهما كانت إنتماءاتهم أو معتقداتهم».

 

انفتاح حقيقي على الحوار بين الأديان
المحطة الثانية في زيارة قداسة البابا كانت في بازيليك القديس بولس في حريصا حيث وقّع الإرشاد الرسولي من أجل الشرق الأوسط وهو بعنوان: «الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط، شركة وشهادة».
جرى التوقيع في حضور رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وعدد من الفاعليات السياسية وحوالى 450 مدعوًا توزعوا في الساحة الخارجية للبازيليك.
ومما قاله البابا في المناسبة:
«إنه لعجائبي أن يقع هذا التوقيع في يوم عيد الصليب، والذي يتم الاحتفال به في الشرق منذ العام 335، في يوم إهداء بازيليك القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير على الجلجلة وقبر السيد المسيح... يبدو لي أن الإرشاد الرسولي ممكن أن يقرأ ويترجم على ضوء عيد الصليب المقدس، خصوصًا على ضوء الميرون.
قراءة مماثلة يمكنها أن تؤدي إلى إعادة إكتشاف حقيقية لهوية المعمد والكنيسة، وتشكل في الوقت نفسه دعوة إلى الشهادة، في العمادة ومن خلالها...
هنالك صلة قوية بين الصلب والقيامة التي لا يمكن للمسيحي أن ينساها من دون هذه الصلة، تمجيد الصليب كان من الممكن أن يعني تبرير العذاب والموت لكي لا نجد فيهما سوى نهاية محتمة. بالنسبة إلى المسيحيين تمجيد الصليب يعني المشاركة في المحبة غير المشروطة التي يكنها اللّه للإنسان. إنه فعل إيمان! تمجيد الصليب، في منظور القيامة يعني الرغبة في العيش وفي التعبير عن هذه المحبة، إنه فعل محبة! تمجيد الصليب يؤدي إلى التزام التحول إلى رسل المناولة الأخوية والكنيسة ومصدر الشهادة المسيحية الحقيقية، إنه فعل رجاء...
إن الكنيسة في الشرق الأوسط تجعل إعادة التفكير في الحاضر من أجل التطلع نحو المستقبل في عين المسيح مجالًا ممكنًا. من خلال الإرشاد الإنجيلي والرعوي تتم الدعوة إلى تعميق التأمل الروحي والكنسي والدعوة إلى التجدد الديني والليتورجي والحوار...
إننا مدعوون هنا والآن للاحتفال بانتصار الحب على الكراهية، والتسامح على الانتقام، والخدمة على السيطرة، والتواضع على الكبرياء، والوحدة على الانقسام».
وقال: «إن الإرشاد يظهر انفتاحًا على حوار حقيقي بين الأديان، مبني على الإيمان بالاله الواحد الخالق، كما أنه يسهم بعمل مسكوني مفعم بالحب والعطاء...
إن كنائس الشرق الأوسط لا تخاف لأن الرب معها حتى النهاية. لا تخافوا، لأن الكنيسة العالمية تسير إلى جانبكم وهي قريبة منكم إنسانيًا وروحيًا...».
 

بصمة الله فينا
اللقاء في قصر بعبدا كان مستهل اليوم الثاني في الزيارة، حيث اجتمع كبار المسؤولين في الدولة والسلك الدبلوماسي وشخصيات وفاعليات تلبية لدعوة رئيس الجمهورية.
كلمة البابا خلال هذا اللقاء شددت على السلام واحترام الكرامة الإنسانية والتضامن انطلاقًا من احترام هوية كل شخص.
ومما قاله: «أي بلد هو غني قبل كل شيء بالأشخاص الذين يحيون على أرضه. يتوقف على كل شخص منهم وعليهم كلهم مجتمعين مستقبله وقدرته على أن يتجند من أجل السلام. إلتزام كهذا لن يكون ممكنًا إلا داخل مجتمع موحد، إنما الوحدة لا تعني التماثل.
إن تماسك المجتمع يؤمن عبر الإحترام المستقر لكرامة كل شخص والمشاركة المسؤولة لكل إنسان، كل بحسب قدراته، بإستعمال أفضل ما لديه لتوفير الديناميكية الضرورية لبناء السلام وتعزيزه. يجب الرجوع بلا كلل إلى ركائز الكائن البشري. كرامة الإنسان غير منفصلة عن الطابع المقدس للحياة الموهوبة من الخالق. في تصميم اللّه، كل شخص فريد وغير قابل للاستبدال. يأتي إلى العالم داخل أسرة، هي مكانه الأول للأنسنة، وهي قبل كل شيء، مربيته الأولى على السلام. إذا كنا نريد السلام، فلندافع عن الحياة!».
وشدّد على «التضامن من أجل رفض ما يعيق احترام كل حياة بشرية، التضامن لمساندة السياسات والمبادرات التي تهدف إلى توحيد الشعوب، بطريقة مخلصة وعادلة. من الطيب رؤية أفعال التعاون والحوار الحقيقي تؤسس لطريقة جديدة للحياة معًا. إن نوعية أفضل للحياة وللتطور الشامل غير ممكنة، إلا في تقاسم الخيارات والمسؤوليات، ضمن إحترام هوية كل فرد. لكن أسلوب حياة مشترك وهادئ ودينامي كهذا لا يمكنه أن يكون بدون الثقة في الآخر، مهما كان هذا الآخر. اليوم الاختلافات الثقافية والاجتماعية والدينية يجب أن تؤدي إلى عيش نوع جديد من الاخوة، حيث ما يوحد بالتأكيد هو المعنى المشترك لعظمة كل شخص، ولكونه عطية لنفسه وللآخرين وللبشرية. في هذا يوجد طريق السلام! في هذا يكمن الالتزام المطلوب منا! في هذا يقطن التوجه الذي يجب أن يقود الخيارات السياسية والاقتصادية، في كل المستويات وعلى نطاق عالمي».
وإذ شدد على أهمية التربية في بناء ثقافة سلام قال: «يمتلك الفكر البشري الحس الفطري لتذوق الجمال والخير والحق. إنه الختم الإلهي، بصمة اللّه فيها!...».
وأضاف قائلًا: «يقتضي أن نقول لا للثأر، أن نعترف بأخطائنا، ونقبل الأعذار بدون التماسها، وأخيرًا أن نغفر، لأن وحدها المغفرة الممنوحة والمقبولة تضع الأساسات الدائمة للمصالحة وللسلام للجميع».
وختم بالقول: «هذه التأملات عن السلام والمجتمع وكرامة الإنسان، وعن قيم الأسرة والحياة، وعن الحوار والتضامن لا يمكن أن تبقى مجرد مثل عليا معلنة. بل يمكن ويجب أن تعاش. نحن في لبنان وهنا يجب أن تعاش. لبنان مدعو، الآن وقبل أي وقت مضى، أن يكون مثالًا...».

 

كونوا خدام العدل والسلام
شهد القداس الحبري الذي احتفل به البابا على واجهة بيروت البحرية طوفًا من المؤمنين بحيث فاق عدد المشاركين به الـ 350 ألفًا يتقدمهم رئيس الجمهورية وأركان الدولة من السياسيين والعسكريين بالإضافة إلى الدبلوماسيين والروحيين.
وبعد الإنجيل كانت للبابا عظة دعا فيها المسيحيين إلى أن يكونوا خدامًا للعدل والسلام.
ومما قاله:
«...إن الطّريق الذي يريد يسوع أن يقودنا إليه هو طريق رجاء للجميع. إنّ مجد يسوع يتجلّى في الوقت حيث، في بشريّته، يظهر أكثر ضعفًا، لا سيما في التجسّد وعلى الصّليب. هكذا يظهر الله محبّته، بجعل نفسه خادمًا، بمنحنا ذاته. أليس سرًّا عظيمًا، يصعب أحيانًا قبوله؟ بطرس الرسول نفسه فهمه لاحقًا».
وأضاف: «يذكرنا القديس يعقوب بأن اتّباع المسيح، وكي يكون حقيقيًا، يتطلّب أفعالًا ملموسةً. إنها حاجةٌ ضروريةٌ للكنيسة أن تخدم، وللمسيحيّين أن يكونوا خدامًا حقيقيّين تشبّهًا بالمسيح. الخدمة هي عنصرٌ مؤسّسٌ لهويّة تلامذة المسيح... وهكذا، إن خدمة العدل والسّلام، في عالمٍ لا يتوقّف فيه العنف عن بسط ظل الموت والدّمار، هي حاجة ملحّة للإلتزام من أجل مجتمعٍ أخويٍ، ولبناء الشّركة.
أيّها الأخوات والإخوة الأحبّاء، أصلي للربّ خصوصًا كي يمنح منطقة الشّرق الأوسط خداّمًا للسلام والمصالحة فيتمكّن الجميع من العيش بهدوء وكرامةٍ. إنها شهادةٌ أساسيّة، على المسيحيّين أن يقدّموها هنا، بالتعاون مع كلّ الأشخاص ذوي الإرادة الصّالحة. أدعوكم جميعًا للعمل من أجل السّلام، كلٌ على مستواه وحيث ينوجد...».
 

لا تخافوا واقبلوا الآخر باختلافاته
خاطب البابا بنديكتوس السادس عشر شباب لبنان والعالم العربي في «لقاء الشبيبة» في بكركي الذي حضره آلاف الشباب الآتين من لبنان ومختلف بلدان الشرق الأوسط. وإذ دعاهم إلى عدم الخوف وقبول الآخر مهما كانت اختلافاته، قال: «أعرف الصعوبات التي تعترضكم في حياتكم اليومية، بسبب غياب الاستقرار والأمن، صعوبة إيجاد عمل أو الشعور بالوحدة والإقصاء. في عالم دائم الحركة، تجدون أنفسكم أمام تحديات كثيرة وعسيرة. فحتى البطالة والأخطار يجب ألا تدفعكم لتجرع «العسل المر» للهجرة، مع الاغتراب والغربة من أجل مستقبل غير أكيد، تصرفوا كصناع لمستقبل بلدكم...».
وتابع: «أيها الشباب اللبناني، أنتم رجاء بلدكم ومستقبله. أنتم لبنان، أرض الضيافة والتناغم الاجتماعي وأصحاب المقدرة الهائلة والطبيعية على التأقلم... كونوا مضيافين ومنفتحين، كما يطلب منكم المسيح، وكما يعلمكم بلدكم. أريد أن أحيي الآن الشبيبة المسلمة الحاضرة معنا هذا المساء. أشكركم لحضوركم البالغ الأهمية. فأنتم والشبيبة المسيحيون مستقبل هذا البلد الرائع والشرق الأوسط برمته. إعملوا على بنائه معًا، وعندما تصبحون بالغين، واصلوا عيش التفاهم في الوحدة مع المسيحيين. لأن جمال لبنان يكمن في هذا الإتحاد الوثيق. على الشرق الأوسط بأكمله، عند النظر إليكم، أن يدرك أنه بإمكان المسلمين والمسيحيين، الإسلام والمسيحية، العيش معًا بلا كراهية ضمن إحترام معتقدات كل شخص لبناء مجتمع حر وإنساني».
وأردف: «علمت أيضًا أنه يوجد في ما بيننا شبيبة قادمون من سوريا. أريد أن أقول لكم كم أقدر شجاعتكم، قولوا في بيوتكم، لعائلاتكم ولأصدقائكم، أن البابا لا ينساكم، قولوا لمن حولكم أن البابا حزين بسبب آلامكم وأتراحكم، لا ينسى سوريا في صلواته وهمومه...».

 

في الوداع
قبيل مغادرته لبنان وبعد المراسم البروتوكولية لوداعه في مطار رفيق الحريري الدولي، وكلمة رئيس الجمهورية، عبّر البابا عن تأثره العميق، فقال: «إذ حان وقت الوداع، أشعر بالأسف الشديد لمغادرة لبنان العزيز، أشكركم، يا فخامة الرئيس، على كلماتكم، وعلى ما بذلتموه، مع الحكومة التي أتوجّه بالتحية لممثليها، من أجل تنظيم مختلف الأحداث التي صاحبت حضوري بينكم، والتي دعمتها بطريقة ملفتة للنظر كفاءة مختلف الأجهزة على مستوى الجمهورية وعلى المستوى الخاص. أشكر كذلك غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، وجميع البطاركة الحاضرين وأيضًا الأساقفة، والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، والإكليريكيين والعلمانيين الذين قدموا لاستقبالي.
أتوجّه بشكري الخاص لكلّ الشعب اللبناني الذي يشكّل فسيفساءً غنية ورائعة، والذي استطاع أن يظهر لخليفة بطرس حماسته، من خلال الإسهام المتعدّد الأشكال والخاص بكل جماعة. أشكر بحرارة الكنائس الشقيقة والجماعات البروتستانتية المحترمة، كما أشكر كلّ الطوائف الإسلامية... أسهم حضوركم في إنجاح زيارتي. العالم العربي والعالم برمته قد شاهدوا، في هذه الأوقات المضطربة، مسيحيين ومسلمين مجتمعين للإحتفال بالسلام...».
وقال: «ليكن لبنان دائمًا مكانًا يستطيع فيه الرجال والنساء العيش معًا في تناغم وسلام مع بعضهم البعض ليعطي العالم، لا شهادة لوجود اللّه وحسب، بل أيضًا الشركة بين البشر، مهما كانت حساسياتهم السياسية والطائفية والدينية.
أصلي لله من أجل لبنان، لكي يحيا في سلام ويقاوم بشجاعة كل ما من شأنه أن يقوّض هذا السلام أو يقضي عليه. وأتمنّى للبنان الاستمرار في السماح بتعددية التقاليد الدينية، وألاّ يصغي لأصوات من يريدون منعها. أتمنى للبنان أن يعزّز الشركة بين جميع سكّانه، بغض النظر عن طوائفهم وأديانهم، بالرفض القاطع لكل ما قد يدفع إلى التفرقة، وباختيار الأخوّة بحزم. هذه هي الزهور التي يسرّ بها اللّه، والفضائل الممكنة والتي ينبغي تعزيزها وتجذّرها باستمرار...».