ملف العدد العوافي يا وطن

بنوا دماءَهم سدودًا وأسوارًا
إعداد: إلهام نصر تابت

في الأساس لم يكن العيد لهم مساحة غير عادية، أو محطّة خارج سياق ما يسبقه أو يعقبه من الأيام. هم تعوّدوا أن تكون أيامهم مرصودة للواجب، وأن تكون مأذونياتهم في تصرّف الأوضاع الطارئة، وهي دومًا طارئة منذ سنوات.
أدّوا التحيّة للعلم وعاهدوا رفاقهم الشهداء على متابعة المسيرة.
دوّت عبارة «لن ننساهم» في أرجاء الجرد الأصم، كما في مختلف المواقع والثكنات.
بعد ساعات كانوا يبنون دماءهم سدودًا وأسوارًا تصدّ الفتن والمحن وأخبث أنواع الشرور. بعد ساعات، كانوا الواحد تلو الآخر، يلوّحون للشهادة، فتتمدد أجسادهم لتمنح الصخر الأصم والأرض القاحلة، والليل البهيم، إحساسًا وحياة.
عاين التراب بأم القلب حرارة قلوبهم والدماء. شهدت الشمس ولم يتخلّف الليل عن الشهادة هو الآخر. بشهادة الشمس والليل والصخر والتراب، أنّ رجالًا كانوا هناك. لاحَ الخطر أفواجًا من الإرهابيين المجرمين. كانوا مدججين بالسلاح والحقد وكل ما تتسع له قواميس الجهل ومصالح جلادي العصر. انهمروا من الجرد وخرجوا من مخيمات يفترض أنها تأوي نازحين...
هبّ الرجال أبطالًا، قبضوا على الخطر بالدم المسكوب، بالشهادة المشهودة.
أبطال تراءت لهم الشهادة فرموا أعمارهم بيارق تؤدي للوطن تحيّة.
أبطال صنعوا من أحلام أولادهم خزائن ذكريات، وتركوا الحلم لأطفال آخرين.
أبطال صنعوا من أدعية أحبائهم ذخائر تحمي أناسًا آخرين.


أبطال، أبطال، أبطال.
يا لقحط الكلمات، يا لبؤس الأقلام والوصف والإحساس أمام بطولتهم وطهرهم.
لا حبر في الأقلام، فليعذرنا من استشهد منهم، ومن أسر أو فقد، وخصوصًا من عاش.
لا حبر في حضرة البطولة، لكننا نحتاج إلى الكلمات لنتأكد أننا ما زلنا على قيد الحياة.
لا تأتي الكلمات بأي إثبات.
هاتوا لنا من تلك الجرود القاسية، ومن هاتيك الشمس المحرقة، ومن ذاك الليل البهيم، ترابًا، وحجرًا، ونارًا وبخورًا، ما يسعفنا لنقول: «العوافي يا وطن».