دراسات وأبحاث

بين الحلم الغربي والحنين إلى الشرق تركيا تستعيد نفسها
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

قد يبدو من الصعوبــة بمكـــان عند الكتابة عن تركيا اليوم، أن تغيب عن ذهن الكاتب أو القارئ العربي (الإسلامي أو المسيحي)، بشكل عام، واللبناني بشكل خاص، صورة الدولة العثمانية، تلك الدولة التي حكمت البلاد العربية لحوالى أربعماية سنة (1516-1918). كما لا يمكن أن تغيب عن هذه الذاكرة اللبنانية القريبة، صور حكم الإستبداد الحميدي، ومشانق جمال باشا المعروف بالسفاح في ساحة البرج (ساحة الشهداء)، العام 1916، التي علّق عليها أحرار الوطن الذين طالبوا بالحرية والإستقلال عن «الدولة العليّة». كما لا يمكن محو صور المجاعة و«سفر برلك» خلال الحرب العالمية الأولى، وعمليات التتريك، ومحاولة محو هويّة القومية العربية عن أهل هذه المنطقة وسكانها، وإستبدالها بالقومية الطورانية، قبيل ذلك.


ولكن الواقع أن تركيا اليوم، ليست هي السلطنة، أو الخلافة العثمانية، فهذه  الأخيرة انتهت بعيد الحرب العالمية الأولى، وقامت مكانها الجمهورية التركية على يدي أبي الأتراك, «أتاتورك»، مصطفى كمال باشا العام 1923.
وتركيا المعاصرة والصاعدة هي التي تلفت الإنتباه والنظر، وذلك من خلال موقعها الإستراتيجي، والجيوبوليتيكي المهم في عالم اليوم، ذي العلاقات الدولية المتشابكة، والمعقدة في الوقت عينه. تركيا هذه، وإن كانت عينها اليمنى تتطلّع صوب الغرب، وهي العضو في منظمة حلف شمال الأطلسي والساعية دوماً إلى الدخول في الإتحاد الأوروبي، فإن عينها اليسرى وفي الآن نفسه، تتلفت شرقًا، صوب إيران وآسيا الوسطى حيث النبع، والعمق العرقي التركي، وحتى الصين، وإعادة الإعتبار لـ«طريق الحرير» الجديد، طريق الغاز والنفط والتجارة. كما أنها تتطلع صوب البلاد العربية وبخاصة سوريا والعراق والسعودية، حيث «مهبط الإسلام» دينها وتاريخها، وحيث الأسواق وموارد الطاقة، وأنابيب الإمداد، عصب الحياة الحديثة والتطور الإقتصادي الضروري لتقدم صناعاتها وتجارتها وسياحتها، وميدان الصراع الدولي، للحفاظ على الطاقة والأمن.


لذلك نراها اليوم تعاود الظهور على المسرح الدولي الإقليمي والعالمي كلاعب مهم ومحوري مثير للإعجاب والتقدير، عبر إقامة شبكة من العلاقات الدولية. في هذه الشبكة قد تختلط أو تلتبس المبادئ والثوابت، مع المصالح في عالم لم يعد واضحًا فيه أيّهما يتقدّم على الآخر. ولكن من الواضح أن تركيا قد قرّرت أن تكون تركيا أخرى، محورية جديدة، قويّة، مستندة إلى التاريخ، والجغرافيا، في إدارة مداها الجيوبوليتيكي، وإلى المستقبل، في رسم رؤيتها الإستراتيجية لعلاقاتها الدولية، السياسية والإقتصادية وحتى العسكرية. فتركيا اليوم لا ترضى بدور الدولة المهمشة التابعة للدول الكبرى وسياسة العولمة المتوحشة .

 

 تركيا في الجيوبوليتيك


• الموقع:  
إن تركيا في اللاوعي الجماعي لأبنائها بلد تحيط به البحار من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فمحاطة بالأعداء. وقد ترسّخ هذا المفهوم عبر مئات السنين، ومنذ أيام الدولة العثمانية، وصراعها مع الغرب، وصولاً إلى الحرب الباردة ما بين حلفي الأطلسي ووارسو، حيث كانت تركيا تشكل القاعدة الأطلسية الجنوبية القوية، بوجه الإتحاد السوفياتي السابق، وبقيت كذلك، حتى إنهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي.
تقع تركيا في الطرف الجنوبي الغربي لقارة آسيا، أو ما يعرف بآسيا الصغرى، وتشغل في الوقت نفسه، الجزء الجنوبي الشرقي لقارة أوروبا، لذلك فهي دولة أسيوية-أوروبية في الآن ذاته.
تتمدد تركيا فوق مساحة تبلغ حوالى 783562كلم2 (الدولة رقم 37 في العالم من حيث المساحة)، منها نحو 23700كلم2 في القارة الأوروبية (ما يعرف بـ تراقيا)، ويفصل بين هذين البرّين التركيين مضيقا الدردنيل والبوسفور، وبحر مرمرة في الوسط.


• الحدود:
يبلغ طول الحدود التركية نحو 9848كلم، منها 7200 كلم تقريبًا شواطئ بحرية (البحر الأسود في الشمال، وبحر إيجيه في الغرب، والبحر الأبيض المتوسط في الجنوب). أما حدودها البرية فهي كما يأتي:
- من الشرق، تحدها كل من: جورجيا (252كلم)، أذربيجان (9كلم)، أرمينيا (268كلم) وإيران (499كلم).
- من الجنوب: العراق (352كلم)، وسوريا (822كلم).
- من الغرب : بلغاريا (240كلم)، واليونان (206كلم).
كما تملك تركيا عشرات الجزر في بحري إيجيه والمتوسط.


• الأرض:
تتميز الأراضي التركية بشواطئ ضيقة نسبيًا على البحار التي تطل عليها، يليها مرتفعات متوسطة (الهضبة الأناضولية)، ثم الجبال العالية، كجبل آرارات في الشرق (5166م)، الذي تقول الأسطورة إن سفينة نوح قد حطت فوقه بعد الطوفان الشهير.
تركيا غنيّة بالمياه والأنهار والبحيرات، فأكثر من 13 ألف كلم2 من مساحتها تغطّيها المياه (أنهار وبحيرات). كما أنها تمتلك أراضٍ زراعية خصبة (30% من أراضيها صالحة للزراعة). ولديها الكثير من الثروة المعدنية (خام الحديد والذهب والفضة والنحاس والكروم والزئبق والفحم الحجري والرخام)، كما أنها تمتلك النفط (بكميات قليلة) وثروات أخرى.
أهم أنهارها: كيزيلرمك، سيحان، جيحان، دجلة (1718 كلم) والفرات (2780 كلم)، والأخيران ينبعان من أراضيها ويتابعان جريانهما عبر سوريا والعراق، ويشكلان عند إلتقائهما في العراق، نهرًا واحدًا، وهو ما يعرف بشط العرب (145 كلم)، قبل مصبه في الخليج العربي، جنوبي البصرة. لهذين النهرين أهمية استراتيجية وحيوية، في كلٍ من العراق وسوريا وتركيا، فمياههما تستعمل للشرب وللري والزراعة، ولتوليد الطاقة الكهربائية، كما أنهما من المكوّنات الإستراتيجية للعلاقات ما بين هذه الدول. إلى ذلك تستفيد تركيا من نهر العاصي الذي ينبع من لبنان ويجري عبر سوريا ويصب في البحر قرب انطاكية، في إقليم إسكندرون الذي كان تابعًا لسوريا، وهو أصبح تابعًا لتركيا (تحت إسم هاتاي)، منذ العام 1939.


• السكاّن:
سيبلغ عدد سكان تركيا 78 مليونًا و785 ألفًا، و548 نسمة، في تموز المقبل (2011)، وذلك وفق ما ورد في كتاب وقائع العالم  «سي أي إي»، (cia world factbook). وبذلك تحتل تركيا المرتبة 17 في العالم من حيث عدد السكان الذين يعيش معظمهم في المدن (حوالى 70%)، كما أن المرجع السابق يشير إلى أن نسبة العرق التركي في هذا العدد، تبلغ حوالى 70 إلى 75% . يليها الأكراد بنسبة 18%، ومن 7 إلى 12% أقليات أخرى مختلفة (تقديرات العام 2008).


• الدّين:
تركيا دولة يدين سكانها بالإسلام بنسبة 99.8%، وهم على المذهبين السني والعلوي، أما الباقون فهم من المسيحيين، واليهود، وغيرهم.


• اللغة:
اللغة التركية، هي اللغة الرسمية لجميع الأتراك، ولكن هناك اللغة الكردية، والعربية، وغيرها من اللغات العالمية.


• المدن:
العاصمة السياسية لتركيا هي أنقرة (5،4 مليون نسمة)، أما أكبر مدنها فهي إسطنبول (12 مليون نسمة)، وهي العاصمة القديمة للدولة، وتقع على ضفتي مضيق البوسفور، وتشاطىء البحر الأسود، وتصل قارة آسيا بقارة أوروبا عبر جسرين فوق المضيق (جسر البوسفور 1074م، وجسر محمد الفاتح  1090 م، وهناك مشروع لبناء جسر ثالث قرب البحر الأسود). وإسطنبول هي العاصمة الإقتصادية والمركز الإقتصادي الأول في البلاد، وأهم المرافئ التجارية، وبخاصة مع موانئ دول البحر الأسود وكذلك مع موانئ البحر المتوسط.


• المضائق:
لعل أهمية تركيا الإستراتيجية، تقوم على موقعها الوسيط ما بين آسيا واوروبا، وإطلالتها على عدة بحار كما ذكرنا، إضافة إلى تماسها المباشر مع بلاد القوقاز والروس والبلقان، وكذلك مع إيران وبلاد العرب. ولكن هذه الأهمية تزداد، وتأخذ بعدًا جيوستراتيجيًا عالميًا، لأنها تحتوي في أراضيها على أحد أهم المعابر المائية الضرورية لحركة السفن التجارية والعسكرية، ما بين دول الإتحاد السوفياتي السابق، والمياه الدافئة (البحر المتوسط). وهذا ما سبّب أرقًا دائمًا للقياصرة الروس، وقد خاضوا من أجله حروباً كثيرة. كما شكل عقدة استراتيجية للإتحاد السوفياتي السابق وكاد يتسبب بأزمات دولية عرفت دول حلف الأطلسي كيف تستثمرها لخدمة أهدافها الإستراتيجية خلال الحرب الباردة. في المقابل عرفت تركيا كيف تستغل موقعها الجغرافي هذا في تحسين مركزها الجيوستراتيجي العالمي لتصبح أحد أهم مكونات دول حلف الأطلسي، وهذا ما ساعدها في تطوير مواردها، وصناعتها وزراعتها، وحوّلها إلى قاعدة عسكرية أطلسية مهمة، حتى إنها تعتبر الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة في الحلف، التي تملك كمًا من القدرات العسكرية، المادية والبشرية، الجاهزة للتدخل السريع عند أي طارىء.


- البوسفور:

يبلغ طول هذا المضيق حوالى 30 كلم، مابين البحر الأسود وبحر مرمرة، أمّا عرضه فيراوح ما بين 550م و3000م، وعمقه ما بين 36 و124 مترًا.
 تصنّف الملاحة في المضيق ضمن مجال الملاحة الدولية، وهو من أكثر النقاط البحرية ازدحامًا، وإختناقًا، بحركة مرور السفن (أكثر من خمسين ألف سفينة سنويًا، منها حوالى عشرة آلاف ناقلة ضخمة)، مع الإشارة إلى إعتماد روسيا الإتحادية بشكل رئيس على تصدير البترول والغاز عبره إلى أوروبا وغيرها، على الرغم من وجود الأنابيب المباشرة للنقل إلى البلدان المجاورة لها. وقد باشرت تركيا ببناء نفق للقطار تحت مياه المضيق بطول 13،7 كلم، لوصل البرين الآسيوي والأوروبي، ومن المقدر الإنتهاء منه العام 2012.


- الدردنيل: هو المضيق الجنوبي المكمّل للبوسفور عبر بحر مرمرة وهو يصل هذا البحر ببحر إيجيه والبحر المتوسط. يبلغ طوله نحو 61 كلم، وعرضه ما بين 1،2كلم، و6 كلم، أماّ عمقه فيصل إلى حوالى 60 متراً. ومن خلاله عبر الفرس قديمًا لغزو بلاد الإغريق في القرن الخامس ق.م، وكذلك عبره الإسكندر المقدوني في القرن الرابع ق.م، عندما غزا بلاد الشرق، وقد دلّ بعض الأبحاث على أن مدينة طروادة الأسطورية وحروبها قد قامت على البر الآسيوي المقابل لمدخل هذا المضيق الغربي. كما جرت فيه إحدى أهم معارك الحرب العالمية الأولى (غاليبولي) بين الدولة العثمانية والحلفاء الذين تعرضت أساطيلهم لخسائر فادحة.

 

الإقتصاد التركي
تعتبر تركيا اليوم من الدول التي تمتلك اقتصادًا متطورًا، واعدًا، وهي أحد أعضاء منظمة العشرين (G20)، ولديها صناعة متطورة تعتمد على صناعة النسيج والملبوسات، وصناعة الآلات والماكينات، وقطع السيارات، والإلكترونيات، ومولدات الطاقة الكهربائية، والمعلبات، والمأكولات. ويعمل في هذا القطاع الذي يشكل 30% من الدخل الوطني حوالى 20% من القوة العاملة التركية.
كذلك يعتمد اقتصادها على الزراعة والمصنوعات الزراعية، بأنواعها المختلفة، وهي تصدر القسم الأكبر إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا والشرق الأوسط. ويعمل في هذا القطاع حوالى 40% من الأتراك، وهو يؤمّن حوالى 12% فقط من الدخل الوطني.
يعتبر قطاع السياحة والخدمات في تركيا من أهم مصادر الدخل القومي (حوالى 58%)، إذ قصدها أكثر من 30 مليون سائح العام 2008،  أدخلوا إلى البلاد حوالى 22 مليار دولار. ويعتبر البعض أن سواحل تركيا المتوسطية، سياحيًا، كالريفييرا الفرنسية بشواطئها ومنتجعاتها،  ويعمل حوالى 34%من الأتراك في هذا القطاع.
تستفيد تركيا من مرور خطوط أنابيب النفط والغاز عبر أراضيها، وخصوصًا خط باكو- تبليسي- جيحان، الذي بوشر الضخ فيه العام 2006، وأصبح بإمكان السفن الضخمة نقل الطاقة المستخرجة من بحر قزوين من المرفأ التركي جيحان، إلى البحر المتوسط مباشرة، ومن دون المرور في المضائق والبحر الأسود، أو الخليج العربي وقناة السويس، وبذلك توفّر المال وتتجنب المخاطر.
كذلك تسعى تركيا إلى ربط خطوط الأنابيب القادمة من دول آسيا الوسطى، عبر إيران أو قزوين وروسيا والعراق وسوريا، بالخطوط التي تمر في أراضيها، وصولاً إلى البحر المتوسط. وبذلك تستطيع إقامة شبكة جيوستراتيجية وإقتصادية مع هذه الدول، تشكل بعدًا مهمًا في القيادة والسيطرة على موارد الطاقة، وخطوط النقل في العالم. وربما هذا ما يثير النقمة والتدخلات الغربية، الهادفة إلى نشر الفوضى في المنطقة اليوم تحت مسميات وشعارات متعددة.
تحتل تركيا اليوم، مركزًا متقدمًا ما بين دول العالم، من حيث «الناتج المحلي الإجمالي (GDP)»، فقد نالت المرتبة 17 في تقديرات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وكتاب السي آي إي (وقائع العالم) للعام 2010، (حوالى 800مليار دولار)، وهي مرشحة للمركز 15 هذا العام وبناتج إجمالي، سيفوق الألف مليار دولار، كما يشير بعض التقديرات العالمية.


تركيا العالمية
تسعى تركيا منذ مطلع القرن الحالي، وبعد يأسها من الإنضمام المباشر إلى الإتحاد الأوروبي، لأسباب متعددة (منها التركي، ومنها السياسي الأوروبي)، إلى الإهتمام بمحيطها القريب الآسيوي حيث جذورها التاريخية والفكرية والحضارية، وحيث الموارد والأسواق. فهي تشكل نقطة الإلتقاء والوصل ما بين الشرق الأوسط الإسلامي والعربي، ودول آسيا الوسطى التركية العرق، وما بين بلاد القوقاز، وروسيا، ودول حوض البحر الأسود، وكذلك دول البلقان التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ذات يوم، وترتبط مع بعضها بروابط شتى، وهي قاعدة أطلسية مهمة، ومرشحة دائمة لعضوية الإتحاد الأوروبي. كما أن البعض ينظر إليها اليوم، كأحد أعمدة ثالوث النظام الأمني لدول الإقليم الشرق أوسطي، مع إيران، وسوريا، وربما مع مصر قريبًا، (بعد عودة مصر الفاعلة إلى الخارطة الجيوبوليتيكية لتوازن أمن الإقليم). 
إن هذا المركز الحساس لتركيا، مصحوبًا بنظام سياسي ديمقراطي شبه علماني، يعتبر نموذجًا للدولة الإسلامية العصرية. وبسياسة خارجية منفتحة على جميع الدول، تحاول تركيا الإقتراب بموضوعية، وعدل، لحل أكثر الأزمات المعقدة في المنطقة ،بدءًا من رفضها السماح لقوات التحالف الأميركي باستخدام أراضيها العام 2003 لإحتلال العراق، مرورًا بمحاولتها إيجاد مخارج لملف إيران النووي مع الغرب، والتوسط لحل عقدة السلام السورية-الإسرائيلية، وصولاً إلى مواقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة (2009)، وإلغاء التأشيرات الضرورية للسفر إليها من لبنان وسوريا، وغير ذلك من المواقف المتميزة، والمتضامنة مع القضايا العربية والإسلامية. كل هذا شكل رصيدًا لمكانة تركيا الإقليمية، وقيمة مضافة إلى دورها على المسرح العالمي.

 

المراجع :
• تركيا : الموسوعة الحرة، ويكيبيديا.
• Cia world factbook-Turkey.
• Wikipedia.com-turkey.