شباب واختصاصات

بين الرغبات وحاجات السوق كيف يمكن اختيار الاختصاص الجامعي
إعداد: ريما ضوميط - الرقيب كرستينا عبّاس

لعل أصعب تحدٍّ يواجه طلاب المرحلة الثانوية هو اختيار التخصص الجامعي، لا سيما وأنّ القرار الذي يتخذه الطالب في هذه المرحلة يحدّد ملامح مستقبله في ما بعد، ويرسم طريقه إلى المجتمع الواسع.
ما يزيد القرار صعوبةً، توافر كمٍّ هائلٍ من الاختصاصات، يقابله في عدة أحيان غياب التوجيه، أو ضغوطات يمارسها الأهل والمدرسة لإقناع الطالب بالتوجّه نحو اختصاص معيّن.
وفي مقابل اندفاع البعض إلى تحقيق أحلامهم من خلال اختيار مجال التخصّص، يقع البعض تحت وطأة ضغوط متنوعة تجبرهم على اختيار وجهة لا يريدونها.

 

تؤكّد الطالبة راغدة الدكاش مدى سعادتها بمتابعة اختصاص محاسبة المعلوماتية. وتقول: «منذ صغري، كنت أحمل ورقة وقلمًا وألعب دور البائعة وأقوم بالحسابات... قرّرت اختصار الوقت، فاتّجهت إلى المسار التخصّصي المهني قبل الالتحاق بالجامعة».
من جهته، التحق الطالب يوسف معوض بكليّة الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية لدراسة الحقوق مسار المحاماة، لأنّ هذا الاختصاص يعبّر عن شخصيته ويشبهه، مؤكّدًا أنّه لم يتأثر بالضغوطات والنصائح التي عُرضت عليه للتعرّف إلى اختصاصات أخرى، لا سيّما خلال ورش العمل التي تنظّمها الجامعات في المدارس...
بخلاف التجربتين السابقتين، واجهت الطالبة رفقا عباس الكثير من الضغوطات، إذ إنّ معظم من حولها لم يشجّعها على التخصّص في علم النفس، لا بل الكثير منهم حاربوها بقولهم إنّها مريضة، ولذلك ترغب التخصص في هذا المجال. «لكنّني طنّشت» تقول رفقا، «لا بل أصبحت أكثر إصرارًا على المتابعة حتى النهاية، وأريد من خلال اختصاصي مساعدة الأشخاص الذين أجبرتهم الظروف على ارتكاب جرائم أو على تعاطي الممنوعات».
في مراحل الدراسة الأولى، تحلم معظم الصغيرات أن يصبحن معلمات. هذا الحلم كبر مع الطالبة باسكال أبو عسلي التي تقول: « كنت أحفظ دروسي عبر تمثيل دور مدرّسة تضع العلامات لتلاميذها». الآن، هي في السنة الأخيرة لشهادة الإجازة في تعليم الرياضيات.
اختار الطالب بول أبو عنّي، اختصاص إدارة الأعمال - مسار التسويق، إذ جرّب الأقسام جميعها ولم يقتنع إلا بالتسويق، ويوضح: «ساعدني أساتذتي ، فقد نصحوني بهذا المسار كونه الأفضل بالنسبة إلى مؤهّلاتي وقدراتي».
مهّدت توجيهات الجامعات الطريق أمام طالبة الاجتماع والعلاقات العامة ماريا الشامي، وشجّعتها إيجابًا لاختيار هذا الاختصاص الذي كانت تميل إليه أصلًا. مع ذلك تشير إلى أنّها في الفصل الأول من العام الدراسي الأول شعرت بنوعٍ من الندم، ولكن في الفصل الثاني أصبحَت المواد تصب في الاختصاص، فباتت أكثر قناعة به.
للطالب كلارك عطاالله قصة مغايرة، فهو في الثانوية العامة قسم علوم الحياة، لكنّه يتابع دورة تخصصية كمدرّب لياقة بدنية، كما أنّه يسعى بعد نيْل شهادته الثانوية، إلى التخصص في المسرح. يريد أن يصبح مدرّبًا ليجد عملًا بسرعةٍ، أما المسرح فهو شغفه في الحياة ويمكن أن يعطيه الشهرة التي يطمح إلى تحقيقها». إذًا الاختصاصان يشكّلان جزءًا من حياته ولا يفضّل أحدهما على الآخر.
أما الطالبة رلى زيادة، فقد أضاعت سنتين في دراسة الهندسة المعمارية التي أقنعها ذووها بالتخصص في مجالها، قبل أن تكتشف في أثناء حصص الرسم الجرافيكي أنّها تميل إلى هذا الاختصاص، فتخلّت عن حلم والديها وانطلقت لتحقيق حلمها الخاص.
 

المعايير الضرورية لاختيار الاختصاص
يؤكد الاختصاصي في علم النفس الاجتماعي السيد طوني اسكندر أنّ المعيار الأول لاختيار موضوع الاختصاص الجامعي هو رغبة الطالب الشخصيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار طاقاته وقدراته الذاتية، النفسية منها والجسدية والذهنية، بالإضافة إلى مؤهلاته العلمية ومواهبه الخاصة. فرغبة المرء في وظيفة معيّنة لا تعني بالضرورة قدرته على النجاح فيها. فالإنسان الخجول مثلًا، لا يمكنه أن يعمل في مجال العلاقات العامة، كما أنّ الطالب الذي يخشى رؤية الدم لا يستطيع أن يكون جرّاحًا. من جهة أخرى، هناك العلامات المدرسية التي تحدّد قدرة الطالب على اختيار اختصاص ما، فالذي لم يحرز نجاحًا في المواد العلمية مثلًا، لا يستطيع أن يدرس الهندسة أو الطب.
بالإضافة إلى العوامل المذكورة، هناك عامل أساسي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار لدى اختيار مهنة المستقبل، وهو حاجة سوق العمل. فهناك الكثير من الاختصاصات التي باتت تشكّل فائضًا في سوق العمل، لذلك يُنصح الطلاب بالبحث في المجالات الوظيفية المتاحة في المجتمع والمتوافقة مع ميولهم وقدراتهم.
 

سوق العمل وآفاق العصر
يشير الخبراء في هذا الإطار إلى عدد من الاختصاصات التي تتوافر لها فرص العمل حاليًا، ومن بينها بعض فروع الهندسة كهندسة الميكانيك وهندسة البترول، واختصاص المساحة. وفي إطار الطبابة، يُشار إلى حاجة سوق العمل إلى اختصاصيين في التمريض إذ ثمّة نقص كبير في هذا المجال. من الاختصاصات المطلوبة أيضًا المحاسبة وتدقيق الحسابات، والحقوق، والاختصاص الأخير يمنح الطالب فرص التقدّم إلى وظائف مختلفة ككتّاب عدل ورؤساء دوائر وأقلام، بالإضافة إلى الوظائف التي يتيحها العمل في القضاء وممارسة المحاماة.
ومن بين الوظائف الأكثر نموًّا حاليًا وظيفة مهندس برمجيات ومدير تسويق ومحاسب إداري ومدير مشروع. كذلك، تبرز في الجامعات اختصاصات حديثة في مجال التكنولوجيا، ومن أبرزها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي يعتبرها العلماء بمثابة كهرباء العصر الحديث.
 
دور الأهل: التوجيه وليس القمع
إلى جانب رغبة الطالب التي يجب احترامها وإعطاؤها الأولوية، يشير السيد اسكندر إلى دور الأهل في دعم قرارات أولادهم بشأن تخصصهم، وتوجيههم لاختيار الأفضل عبر النصح والإرشاد، من دون ممارسة الضغوط والقمع. وهو يؤكّد أهميّة متابعة الأهل لأولادهم منذ سنوات الطفولة ومساعدتهم على تنمية مواهبهم، واكتشاف الهوايات التي تجذبهم، لأنّهم بذلك يمهّدون لهم الطريق للمستقبل. من جهة أخرى، يؤدي الأهل أحيانًا دورًا سلبيًا حين يحاولون فرض رغبتهم الشخصية، وحثّ أولادهم على التوجّه إلى اختصاصات قد لا يرغبونها. فكم من طالب اختار اختصاصًا ليُرضي والده أو والدته، من دون أن يكون مقتنعًا به شخصيًا؟ وكم مرّة نسمع أنّ فلانًا يتابع دراسته في مجال الهندسة مثلًا لأن والده يريده أن يصبح مهندسًا، أو أنّ فلانة رفض أهلها أن تتخصص في مجال الطّب «كي لا تضيّع سنوات عمرها في الدراسة»... إنّ هذا كلّه يندرج تحت عنوان القمع العائلي. من هنا، يضيف السيد اسكندر: على الوالدين أن يتفهّموا أن أولادهم غير مسؤولين عن تحقيق الأحلام التي عجزوا هم عن تحقيقها، ولا عن تعويض النقص الذي يعانيه أحدهما. لذا يجب على الأهل أن يحترموا رغبة أولادهم فيستمعون إلى رأيهم ومن ثم يناقشونهم به لمساعدتهم في اتخاذ القرار الأنسب. فهناك فارق كبير بين توجيه الأهل لأولادهم، وبين اعتماد أسلوب القمع الذي يعود بالضرر على هؤلاء.
كذلك، يدعو السيد اسكندر الأهل إلى التنبّه لمخاوف أبنائهم وهواجسهم وتبديدها. فهناك من يخشى التوجّه إلى اختصاص معيّن بسبب البعد الجغرافي للجامعة أو لخوفه من الدخول إلى عالم جديد لا يعرف عنه شيئًا، وقد يفضّل حينئذٍ أن يلتحق برفاقه في الاختصاص الذي يختارونه وإن كان مغايرًا لرغبته الشخصية، وهنا يأتي دور الأهل في إرشاده نحو القرار الصائب.
يجب أن يراقب الأهل أيضًا قدرات الطالب في سن مبكرة، فالبعض غير قادر على تحمّل عبء المنهج الرسمي، ويبدي تراجعًا مستمرًا في علاماته المدرسية، ولكنّه في المقابل قد يملك موهبة معيّنة تُنبىء بمستقبلٍ واعد. وهنا يجب على الأهل استدراك الموقف وتوجيه الطالب نحو التخصص المهني، الذي يحصر المادة التعليمية في مجال الاختصاص ويخفّف عنه عبء كثرة المواد التي لا يحتاجها في مجال اختصاصه.
 

أكّدت دراسة أجراها باحثون من جامعتي أوكسفورد البريطانية وييل الأمريكية، ونشرها موقع scientificamerican أنّ الذكاء الاصطناعي يطوّر قدراته بسرعة، ما يهدّد بسيطرته على عدّة مجالات وظيفية. وبحسب الدراسة، فإنّ الذكاء الاصطناعي سيصبح قادرًا على تولّي مختلف الوظائف البشرية في غضون 120 عامًا.  ومن المتوقّع أن تتفوّق الآلات على البشر في ترجمة اللغات وكتابة المقالات المدرسية بحلول العام 2026، وفي قيادة الشاحنات بحلول العام 2027، وفي العمل في تجارة التجزئة في العام 2031، وفي كتابة واحد من أفضل الكتب مبيعًا بحلول العام 2049، وفي إجراء الجراحات بحلول العام 2053.
في المقابل، يؤكد الخبراء على موقع «فوربس» وجود عدد كبير من الوظائف التي لن يتمكن الذكاء الاصطناعي من السيطرة عليها، خصوصًا تلك التي تتطلّب صفات إنسانية بحتة، مثل التواصل والتعاطف (العلاج النفسي، والعلاج الترفيهي، والعناية بكبار السن)، والإبداع والخيال الخصب (الكتابة الأدبية والفنون والاختراعات والهندسة)، والتفكير النقدي (القضاء)، والمهارات الرياضية (تدريب رياضي واحتراف رياضة ما).

 

المدرسة: تنمية مبكرة للمواهب والمهارات
للمدرسة أيضًا دورها في التوجيه والإرشاد، ويوضح السيد اسكندر أنّ مهمتها لا تقتصر على تزويد الطالب العلوم والمعارف فقط، وإنّما تشمل أيضًا إعداده اجتماعيًا وثقافيًا، إضافةً إلى صقل مواهبه وتنمية مهاراته منذ المراحل الدراسية الأولى، الأمر الذي يساعده مستقبلًا في اختيار الاختصاص الملائم. أمّا في المراحل الثانوية، فتُسهم المدرسة في توجيه الطالب نحو الاختصاص الذي يلائم قدراته وفق مؤهلاته ورغبته الشخصية كما أشرنا سابقًا.

 

الجامعة: جسر العبور
الجامعة جسر عبور بين المدرسة والمجتمع الأوسع، يقول السيد اسكندر، هي وقبل أن تستقبل الطلاب في الاختصاصات التي اختاروها، تساعدهم على اتخاذ القرار من خلال ورش العمل التي تقيمها في المدارس حيث يعرض مندوبوها الاختصاصات المتوافرة وحاجات سوق العمل، كما يقدّمون إرشادات توجيهية حول مختلف الاختصاصات الجامعية. ويؤكد أيضًا على أهمية الورش المذكورة في خلق أجواء تنافسية يستفيد منها الطالب لأنّه يصبح ملمًا بالخيارات المتاحة أمامه، مشيرًا إلى أنّ بعض الطلاب قد يرهبهم الكمّ الهائل من العروضات التي تقدّمها الجامعات، لذلك يجب أن نمنحهم الوقت الكافي لدراسة الخيارات وغربلتها ومن ثم اختيار ما يناسبهم.
بالإضافة إلى ورش العمل الجماعية، تؤمّن الجامعات لقاءات فردية للطلاب الراغبين يساعدهم خلالها أحد المرشدين في تحديد خياراتهم، كما تسمح لهم بحضور حصص في صفوفها للتعرّف إلى الاختصاص الذي يرغبون التوجّه إليه.
في إطار مماثل، يشكّل طلاب الجامعات وخرّيجوها مصدرًا مفيدًا للمعلومات من شأنه مساعدة الطلاب الثانويين في تكوين رؤى واضحة حول مختلف الاختصاصات، والجامعات التي تتيح تدريسها. بالإضافة إلى تقديم النصيحة والإرشاد لاختيار الكلّية المناسبة.