ميديا

بين الشفافية والسبق الإعلامي الهواء مفتوح والقلق أيضًا...
إعداد: ندين البلعة خيرالله

«نعود مجددًا إلى نقلنا المباشر في هذا اليوم الطويل، وننتقل إلى زميلنا الموجود في مكان الحدث...» وينهمر على المُشاهد كمّ لا محدود من المعلومات المتدفقة. فمع كل أزمة، وما أكثرها في عالم اليوم، وما أدسمها مادةً لوسائل الإعلام الجماهيرية، تنهال التحاليل، والمقابلات، والتعليقات والتقارير. يتلقاها البعض بصورةٍ عفوية باعتبارها ذات مصداقية تامة، بينما يتلقاها البعض الآخر بحسٍّ نقدي محاولًا التأكد من مدى صدقيتها. في الحالتَين مسؤولية الإعلام كبيرة جدًا.


في منطقة الشياح - عين الرمانة مثلًا، سقطت الفتنة برسالةٍ واحدة شقّت طريقها بين كمٍّ هائل لا محدود من المراسلات والمقابلات التي تنهال منذ فترة على الشعب اللبناني وتحقن النفوس لغاياتٍ في نفس يعقوب! رسالة واحدة من إعلامية مسؤولة قطعت الطريق على كارثة كانت ستصيب المنطقة... وما أحوجنا اليوم إلى هذا الإعلام المسؤول.
ما هو أثر هذا الدفق الإعلامي المتواصل على المواطنين، وكيف يتعاطى مراسلو التلفزيون في لبنان مع ما يجري، كيف يواجهون اللحظات الحرجة والمواقف الدقيقة في أثناء النقل المباشر؟

 

نقل الوقائع والمنافسة
يشرح السيد روني ألفا (المتخصّص في المسائل الإعلامية مع أكثر من ٣٠ سنة خبرة في مجال التواصل والكتابة الصحافية)، أنّ الأزمات تفرض وتيرتها على درجة التأهب الإعلامي. فهناك نوع من الأزمات يستلزم تأهب فريق العمل في التلفزيون أو الإذاعة أو الصحيفة على مدار الساعة، فتبدأ وسائل الإعلام باعتماد النقل المباشر وباستفتاء آراء الناس في الشوارع.
لا يجب أن يغيب عن بالنا أنّه في حالات غير قليلة، تعمد بعض وسائل الإعلام إلى اختراع أزمات غير موجودة وذلك تحقيقًا لنسبةٍ من المشاهدة، فتسهم في تشييع الخوف لدى الجماهير، وهذا من أسوأ أنواع التغطية.

 

• كيف أثّرت ثورة التكنولوجيا والعولمة في سرعة انتشار الأخبار وصدقيتها؟
- لقد أصبح كل مواطن وسيلة إعلام بحد ذاته، يستطيع الوصول إلى المعلومة من خلال هاتفه الذكي ومن خلال حاسوبه. كما انتهى زمن نشرة الساعة الثامنة التي اعتدناها في الماضي فأصبحت نشرات الأخبار على مدار الساعات والدقائق والثواني، تقتحم حياتنا الحميمة وتشغل عقولنا وقلوبنا في أي وقت من الأوقات، وذلك من خلال تقنية الـPush Notification.

 

الأخطاء المهنية
• ما هي أبرز الأخطاء التي قد تقع فيها وسائل الإعلام خلال التغطية في الأزمات؟
يؤكّـد السيد روني ألفـا أنّه على وسائـل الإعلام أن تُحسن اختيار مندوبيـها، على أن يتمتّعـوا بمعرفـةٍ وثقـافـة في المواضيع التي يعالجونهـا، للنجـاح في إيصال الحقيقـة إلى المشاهـديـن وتجنّـب الأخطـاء المهنيـة التي تفجّـرت بكثافـةٍ خلال الأزمة الأخيرة التي عاشهـا لبنان، وهـي: الأخطـاء اللغوية، واقتطـاع الحوارات بالمونتـاج، والأخبار المزوّرة والكاذبـة التي تسهـم في تعميـق الأزمة وإثارة الفتنة...
كل هذه الأخطاء قد تعرقل وصول الرسالة الصحيحة إلى الجمهور.

 

«الهواء المفتوح»
بالنسبة لثقافة الهواء المفتوح، هي أشبه بالولوج إلى الأدغال. فهو يمكن أن يكون مناسبة لنقل وجع الناس، وإنما أيضًا نافذة تخرج منها الموبقات والشتائم وهتك الأعراض. كذلك، يجب عدم الإسراف والمبالغة في النقل المباشر، واعتماده فقط في أوقات محددة فلا يكون مستمرًا حتى لا يتحول إلى نوع من دكتاتورية إعلامية تهدف إلى الـ Propaganda أكثر منها إلى الإعلام الموضوعي.

 

«حبر على أرق»
دور الإعلامي لا يقل أهمية عن ذاك الطبيب الذي ينقذ الأرواح، فهو بدوره يحمل اختصاصًا في تضميد الجراح الاجتماعية والاقتصادية. يستطيع الإعلامي أن ينقذ الأوطان وعليه مسؤولية كبيرة في قيادة الجماهير نحو الاعتدال والتسوية من دون أن يهمل رسالته في نشر ثقافة التحرر والحرية، لأنّ الصحافة من دون حرية تصبح حبرًا على ورق.
حبرٌ على أرق بدل الحبر على ورق هو الذي يجب أن يكتب به الإعلامي، على أن يتحلى بالموضوعية والحياد، فالإعلام الفئوي الطائفي المناطقي العرقي والحزبي البحت لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى الإعلام الجامع.
كل هذه الأمور تعرّضه لتأثيراتٍ نفسية قد تصل في حالاتها المرضية إلى الصدمة الشديدة. فهو في الوقت نفسه شاهد وضحية للحدث.

 

انعكاسات تغطية الأزمات
تشرح الاختصاصية في علم النفس العيادي والمرضي السيدة غيلان البستاني أبو عقل التأثيرات الإيجابية والسلبية للتغطيات الإعلامية اليوم وخصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

 

الإيجابيات
- تناقل المعلومات بشكلٍ سريع وتحديثها على عدد الثواني، مع تقديم الرأي والرأي المعاكس.
- عدم حصر نقل الأخبار بالمتخصّصين في الإعلام، وإنما بات كل إنسان قادرًا على نقل الخبر وخلق الحدث من خلال هاتف ذكي وصفحة على مواقع التواصل، ما يمنح الكثيرين القدرة على التأثير.
- شعور البعض بالانتماء إلى جماعة Phénomène de groupe، الأمر الذي أتاح للمهمشين إسماع صوتهم وجعلهم مشاركين فاعلين على المنصة.

 

السلبيات والعوارض
- تواصل غير فاعل وغير مجدٍ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مع فقدان العامل الأساسي للحوار الناجح وهو تقبّل الانتقاد والرأي الآخر بالإضافة إلى حدٍّ أدنى من الديموقراطية والاحترام في التعامل مع الآخرين.
- مشاكل في النوم، بسبب الجلوس لساعاتٍ أمام التلفاز والإنترنت والتعرض للأخبار السيئة والإشاعات، التي تزيد من الكآبة والإحباط.
- الهلع attaque de panique وخصوصًا لدى المراهقين، غير المهيّئين للتمييز بين الصح والخطأ ولدى الأطفال الذين يشهدون على توتر أهلهم، ولا يفهمون ماذا يحدث.
- الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي المتمثّل بالحاجة الدائمة إلى مزيد من المعلومات، من دون القدرة على التوقف.

 

• ولكن ما الذي يحدث اليوم في لبنان؟
- المشكلة حاليًا هي أنّ الشعب اللبناني لم يكن مهيّأً لما حصل، والمواطن يتلقّى كمًّا هائلًا من المعلومات السلبية التي لا يستطيع تحمّلها واستيعابها. وهو بات ضحية للحقن والمبالغات matraquage، ما انعكس حالات من الكآبة والإحباط لمسناها بشكلٍ ملحوظ في العيادات.

 

كالجنود في حالة الحرب
يعتقد الناس أنّ تأثيرات التغطية الإعلامية للأزمات تنعكس فقط عليهم وعلى عائلاتهم، وينسون أحيانًا أنّ المراسل هو إنسان، ويعاملونه وكأنّه آلة تتنقل في ما بينهم وتسجّل.
كلا!
الإعلامي أو المراسل هو وسيط يتحمّل الضغوط من كل الجهات: ضغوط المهنة والسباق مع الوقت وتوجهات المؤسسة التي ينتمي إليها، وضغوطه الشخصية من مخاوف وقلق وأهل يشاهدونه وطبيعة الحدث والبيئة التي ينتمي إليها، وضغوط الأشخاص الذين يحاورهم والذين يحمل كل منهم همّه ولكلٍ منهم أسلوبه في التعبير.

 

دلال قنديل ياغي - رئيسة التحرير في تلفزيون لبنان
نحن في مجتمع اعتاد العيش في أزمات مفتوحة ومتعددة، لذلك فإنّ الإعلام فيه يحترف التعامل مع الأزمات... وقد كانت بدايات المراسلة التلفزيونية الميدانية في مثل هذه المواقف مع مجموعة من الزملاء الصحفيّين في تلفزيون لبنـان، مـن خـلال خلـق تجربـة تفاعليـة عبـر التقاريـر الإخباريـة الميدانيـة.
بدأنا نعيش الإعلام الحربي مع أحداث الجنوب في ظل العدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي اللبنانية. فكنا نشعر أنّنا نمارس دورًا وطنيًا وننتمي إلى وطن يواجه عدوًا غاشمًا... كان الإعلام سلاحًا. ولا ننسى تغطية مجزرة قانا ١٩٩٦ التي قمنا ببث صورها مباشرة، الأمر الذي كان له أثر في قرار وقف العدوان وتفاهم نيسان.
إعلام الأزمة تجربة يتداخل فيها الذاتي بالمهني والوعي السياسي. هو إعلام يكشف العيوب وفي الوقت نفسه هو فرصة ليُخرج الإنسان مكنونه الفكري والاجتماعي. نحتاج اليوم إلى إعادة تكوين مفهوم الإعلام المسؤول الساعي إلى بناء مجتمعاته لا تهديمها.

 

منى طحيني - المنار
ما يهمّ خلال أي أزمة أو حدث هو المعلومة، والتواصل مع مصادر المعلومات لاستقاء الدقيق منها.
في بعض الأحداث والأزمات، نصبح كإعلاميين مصدر استفزاز وعرضة للهجوم. وهنا على سبيل المثال، حين كنت أتابع محاكمات العملاء، تعرّضت لمضايقاتٍ من أهاليهم، وفي كل مرة تطوّرَت فيها الأحداث وصعّد الأهالي انتقاداتهم، نأيت بنفسي إلى مكان بعيد عنهم وبقيت قريبة من القوى الأمنية. الأهم هو أن يتحلّى الإعلامي بحسٍّ عالٍ من المسؤولية تجاه المعلومات المتوافرة وكيفية عرضها، واختيار ما يجب وما لا يجب ذكره منها أمام المشاهدين، حتى لا نسهم في تفاقم الأزمة تحت عنوان السبق الصحافي.

 

هدى شديد - LBCI
موقعي كأقدم مراسلة معتمدة في القصر الجمهوري منذ العام ١٩٩٦، يلقي على كاهلي مسؤولية كبيرة في نقل الأحداث بموضوعية بمعزل عن انفعالاتي الشخصية ونبض الرأي العام.
ما نغطّيه هو مرحلة غير عادية، وعلى الرغم من تفاعلي مع الثورة إلّا أنّني أواجه مشكلة في التغطية خصوصًا في البث المباشر والهواء المفتوح الذي يصعب ضبطه والذي يترك الكلام أحيانًا لأشخاٍص يشتمون ويهشّمون. هذا تحدٍّ صعب من الناحية المهنية، ففي يوم أحمل الميكروفون في ساحة تظاهر، وفي آخر أكون في المقر الرئاسي.
يحاكمنا الناس وكل طرف يريدنا لنفسه ولمواقفه، ونحن ننسى احتياجاتنا الشخصية ونعيش أسرى الهواء والصوت والصورة.

 

نانسي صعب - OTV
قـد تكـون التغـطـيـة الإعلاميـة خلال الأزمات من أكثـر المهمـات صعوبـة نظرًا إلى المسـؤولية الوطنيـة التي يُفترض أن تحكم عمل الصحفي قبل أي شيء آخر.
وبالتالي فإنّ المطلوب من المراسل أن يلتزم مسلّمات أساسية أولها سلّم الأخلاقيات الصحافية، المفقودة إلى حدٍّ كبير للأسف اليوم، وتغليب الحكمة ونقل الحقيقة.
التحديات عادةً ما تكـون كثيرة، خصوصًـا وأنّ الأزمـات تولّد شحنًـا في نفـوس المواطـنيـن قد يـؤدّي إلى مواقـف متشنّجة عـادةً ما تنفجر فــي وجــه الجســم الصحافــي فــي الميــدان.
للصحافـة دورها في صناعة رأي عام واعٍ ومطّلع ومسؤول، وهو ما يحتاج إلى صحفيين مثقّفين قانونيًا، وسياسيًا، وملتزمين وطنيًا قبل أي شيء آخر.

 

• رامز القاضي - Al Jadeed
في الواقع هناك مهارات وتدريب متخصّص يخضع له الصحفي لتغطية النزاعات والأزمات، وصياغة الحدث ونقله، وحماية نفسه وفريق العمل.
وعلى الرغم من إمكان تفاعل الصحفي أو المراسل مع ما يجري، عليه أن يضبط انفعالاته لكي يخدم القضية والصورة، فيستطيع المشاهد التمييز بين المراسل والمواطن العادي المتأثّر. فالمبالغة حتى بالحق، تفقدنا المصداقية. وهنا تظهر خبرة المراسل من خلال انتقاء المصطلحات وكيفية نقل الصورة، «بتفرق على كلمة»!
الصحافة ليست مهنة علاقات عامة، وكل صحفي يدخل هذه المهنة يجب أن يكون مستعدًّا للتضحية ومواجهة الأخطار، خصوصًا وأنّ الناس لا يميّزون أحيانًا بين رسالة الصحفي وواجباته، وبين إنسانيته.

 

• جويس عقيقي - MTV
في الأزمات نعيش حالة جنونية تتطلّب منّا جهوزية ذهنية وجسدية تامة، وحالة الجنون هذه لا يستطيع تحمّلها إلّا من يعشق مهنة الصحافة.

 

سحر أرناؤوط - الحرة
تتطلّب الأحداث الاستثنائية شروطًا خاصة للتغطية، فلا نعرّض أنفسنا لأي خطر، ولا نتبنّى أي موقف بل نعكس الواقع والحقيقة ونبتعد عن إثارة النعرات الطائفية أو العرقية أو غيرها.
كثيرًا ما يواجه المراسل أثناء تغطياته المباشرة مواقف خطيرة أو محرجة، ما يتطلب منه درجة عالية من الحذر والتنبّه، ويبقى التمرّس في التغطيات عاملًا مهمًا للتوفيق بين الواجب المهني والعامل الإنساني.

 

جويس الخوري - التلفزيون العربي
ينظر إلينا المُشاهد كأشخاصٍ لدينا صلابة في التغطيـات الاستثنائية، بينمـا نحـن عمليًـا نتحلّـى بالقـوة في اللحظـة الآنيـة لأنّ واجبنـا يتطلّب منّا ذلك، ولكنّنا نحمل في داخلنـا تراكمـات ومشاعــر غضــب وحقــد وحــزن نستعيدهـا عندمــا نعــود إلــى شريــط الأحــداث وذكريـات التغطيـة.
يتحمّل المراسل مسؤولية كبيرة جدًا، ومصداقيته هي التي تحميه وتؤمّن له الاستمرارية.


لطالما كان الإعلام اللبناني رائدًا في تغطية الأزمات وفي تغيير مجريات الأحداث لمصلحة الوطن، ولكنّنا اليوم نعاني... ولمجتمعنا الحق علينا بإعلام يتعاطى بمسؤوليةٍ واحتراف مع الواقع الصعب.
هل شاهدتم تقارير الـCNN والـBBC والـ24 France؟ هي لا تتخطّى الدقيقة الواحدة ولا تحتاج إلى حشد وحقن لبلوغ أهدافها، ومع ذلك فهي محط أنظار إعلاميي العالم... ألا تكفي مقابلاتهم الميدانية المقتضبة لنقل الرسالة المُراد إيصالها في أي حدث كان؟
لقد اكتسبت هذه المؤسسات الإعلامية العالمية ثقة جماهيرها من التقارير الآنية الموثوقة والثابتة والنقل المباشر المدروس، والتنوع في التغطيات مع تحديد الهدف والرسالة المُبتغى إيصالها، والتأكد من صحة الأخبار ومصداقيتها. سئم المشاهدون من المطوّلات والتفاصيل، واكتفوا من «اللتلتات» والمبالغات...
فما الذي ينقصنا اليوم لنؤدي رسالة الإعلام السامية، أن نجمع لا أن نفرّق، لنزيل عنا غبار الانتماءات والمنافسات والـRating، ونقدّم للجمهور المفيد والبنّاء ونرتدي من جديد زي الجندي في معركة الأزمات؟