تأملات

بين القلب والعقل
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان

بُعدان أساسيان يتفاعلان ويتشاركان في إدارة الذات البشرية لكل انسان يعيش في هذه الحياة المعقدة.
البعد الأول هو بُعدُ المنطق الذي يحدده العقل من خلال عملية التفكير في كل مسألة تطرح أمام الذات، ليصدر حكمًا مبنيًا على المنطق والعقلانية والبراغماتية.
وهناك بُعدٌ آخر أساسي في عملية اتخاذ القرار، هو البعد العاطفي الذي يحدده القلب،  وهو شريك العقل في صناعة قرار الذات البشرية. هذه الشراكة الغريبة بين عاملين مختلفين تمامًا هي سر العلاقة بين الواقع والأحلام.
يُعتبر العقل حارس الذات الذي يصوّب خياراتها، يضبط ايقاعها، يكبح جماحها ويقوِّم مسارها ليبقى حراكها في دائرة المنطق والواقع.
ولكن هل يكفي ذلك؟ هل تحقق الذات مبتغاها إذا ما استسلمت للعقل حصرًا ورضخت لأحكامه؟ ألا يُعدّ إخضاع الذات لقواعد الرياضيات والمنطق حصرًا نوعًا من انواع البرمجة؟ إذ بذلك يصبح الإنسان أقرب الى الآلة، ويصبح المجتمع شبيهًا بمصنع مؤلف من عدة آلات، وتصبح الحياة مجرد ضجيج منظَّم وحراك مبرمج؟
طبعًا الأمر ليس كذلك البتة، فهناك الإحساس، ذلك الشيء الذي يعكس موقف الروح، الذي يتحسَّس الحُسْنَ والجمال والحب، يحرك الضمير، يخلق الإبداع...  ذلك الإحساس الذي يجعلنا نبحث في أعينِ بعضنا عما يرضيه، ذلك الشعور الذي يستولد الأمل الجميل فيحفّز العقل على العمل لملاقاته وتحقيقه.
فإذا كان الإحساس لغة الروح، واذا كان المنطق لغة العقل، فالحوار مع الحياة يستوجب اتقان اللغتين وإلا سوف لن نفهم الحياة ولن تفهمنا.
اذا حاولنا تحليل هذا الشعور المنطلق من أعماقنا والذي يتدخل تلقائيًا في تكوين الانطباع وبناء الرأي وإصدار الاحكام حول كل ما يواجهه العقل، لوجدنا التالي:
الإحساس هو مقياس البعد الإنساني في عمق الذات، وهو الذي يربط الروح بالجسد ويربط الإنسان بربه الأعلى الذي يستحيل إدراكه بغير الإحساس به. فقد فشل المنطق عدة مرات في عملية تعريف الذات إلى خالقها بسبب تناقض مقارباته، كما لم تتفق قواعد الرياضيات والفيزياء في ما بينها حول نظرية الوجود بالرغم من تألّقها في جوانب عديدة من الحياة. وحده الإحساس بوجود الخالق هو الذي عرَّف الإنسان بربّه، لأنه لغة الروح وهذه الروح هي حضور الله في الذات الإنسانية.
يعجز العقل أحيانًا كثيرة عن اكتشاف الكذب والخداع في سلوك بعض الناس، وحده الإحساس ينبئ صاحبه بذلك من دون ان تُعرف مصادره، إنه مجرد إحساس، وهو إحساس مجرد من المنطق ولكنه أقوى منه وأصدق!
وحده الإحساس بالحب يجعلك تُحِب وتُحَب، فالمنطق لا تعنيه هذه المسألة بل قد يعتبرها ضياع وقت وتفكير.
وحده الإحساس بالمواطنية والإنتماء يدفعك الى الاستشهاد من أجل الوطن، الأمر الذي ربما يعتبره المنطق أو بعض المنطقيين انتحارًا.
وحده الإحساس بالكبرياء يغنيك وأنت بعين المنطق فقير!
وحده الإحساس يجعلك ترى مشهد القمر في ظلمات الليالي شاعريًا ملهمًا، يحرك في قلبك الشغف والهيام، في حين لا يرى فيه المنطق سوى مساحة من الأحجار والتراب والصخور.
بإحساسك تسافر بعيدًا، تصعد للسماء وتدخل وجدان اناسٍ من الماضي البعيد أو من المستقبل لم يأتوا للحياة بعد، تحدّثهم وتبتسم لهم وأنت في عين المنطق جالس على كرسيك تقرأ كتابًا من دون حراك.
بإحساسك تنفصل روحك عن جسدك فتكون مع أناسٍ جسديًا ومع آخرين روحيًا، وهذه اللغة أيضًا لا يفهم المنطق.
بإحساسك فقط تحلم فتنتقل في أثناء نومك الى عوالم أخرى وتلتقي بأشخاصٍ حقيقيين أحياء أو أموات أو غير موجودين أصلًا، وتطير وتحلق وتقفز وتصرخ في حين انك في عين المنطق جثة هامدة.
غالبًا ما يعجز المنطق والعقل عن حسم خيارات معينة او المقارنة بينها فترجع الكلمة الفصل للإحساس الذي يُرجّحُ خيارًا ما ويدفعُنا باتجاهٍ ما أو في طريقٍ ننساق إليه ونقول أنه القدر، فعلى الرغم من دقة المنطق وارتكازه على قواعد علمية، يبقى الاحساس أصدق تعبيرًا لأنه صوت الروح وصرخة الضمير.
واذا حاولنا البحث عن الروح او تعريفها او تفسيرها لوجدنا اننا نشعر بأرواحنا تتحرك في ذواتنا وتقود سلوكنا وتربطنا ببعضنا البعض، بأبنائنا وأهلنا، بربنا، ولرأينا ان الروح هي مجرد إحساس كل منا بوجوده في الحياة، ومتى فقد كل منا ذلك الإحساس فهو ميتٌ حتمًا بلا روح ولو كان حيًا يأكل ويشرب وينام!
فهنيئًا لذوي الإحساس الراقي والحر، لأن لديهم في أعماقهم جهاز استشعارٍ دقيقًا يفتقر إليه الكثير منا!