رحلة في الانسان

بين الماء والهواء والنظريات العلمية
إعداد: غريس فرح

الجينات البشرية في تطوّر مستمر والمستقبل مرتبط بماضي البشرية

 

تكثر النظريات المتعلقة بأصل الإنسان وشكله البدائي. وفي هذا المجال تختلط النظريات العلمية بالتعاليم الدينية لتلتقي عند نقطة واحدة وهي، أن أصل الحياة يعود الى الماء.
وكانت الإكتشافات العلمية الأخيرة وخصوصاً المتعلقة بوجود الهياكل العائدة للإنسان البدائي، وكذلك بعض الأشكال الحية المتحجّرة، الدلائل القاطعة على نظرية التطوّر والإرتقاء، والتي لا يتعارض مضمونها والعقائد الدينية. لذا، فقد اعتُبر الإكتشاف الذي سجّله منذ أربع سنوات العالم البيولوجي الكندي نيل شوبين، الدليل الأكثر قرباً من الواقع، علماً أنه أثار في حينه دهشة عارمة، وموجة تساؤلات وتكهّنات ما تزال قائمة.

 

الحلقة المفقودة
منذ أربع سنوات، وبينما كان العالِم الكندي نيل شوبين ينقّب في ثلوج القطب الكندي، عثر على سمكة متحجّرة عمرها أكثر من 375 مليون سنة، ومتّصفة بميزات تشير الى تطوّرها بعد إضطرارها لسبب أو لآخر، الى العيش بعيداً عن الماء.
فهذه السمكة لم تكن مزوّدة زعانف تقليدية، بل يدين ذات كوعين وكفين وأصابع مفصلية كأصابع البشر، إضافة الى عنق متطوّر يفصل بين رأسها وجسمها، ويسمح لرأسها بالتحرك من جانب الى آخر. وهو إكتشاف شكّل بنظر العلماء، الحلقة المفقودة التي كانت تحتاجها نظرية التطوّر والإرتقاء العلمية.
وفي الوقت الذي كان فيه العلماء ما يزالون يقيّمون هذا الإكتشاف، كان شوبين يغرق من جهته في سبر أعماق الوظائف التشريحية لجسم الإنسان وحياته البدائية السابقة.

 

السمكة الداخلية والتطوّر المعقّد
قبل البدء بعمله البالغ الصعوبة، طرح شوبين على نفسه السؤال الآتي: إذا كان أصل الإنسان حقاً سمكة، فإن جسمه سيحتفظ حتماً بمقومات معقّدة وغير واضحة المعالم، أنتجتها مسيرة تطوّره عبر ملايين السنين. وانطلاقاً من هذا الإستنتاج توصّل مؤخراً الى مجموعة خلاصات.
فخلال دراسته التشريحية، وجد شوبين علاقة واضحة بين الإنسان المعاصر وأصله البدائي. فقد وجد أن شرايينه التي تنقل الدم من القلب واليه، لا تتصف بالمرونة اللازمة للتكيف مع حركة جسمه. كذلك رأى أن ركبتيه لم تتطوّرا بما فيه الكفاية، أي أنهما ما تزالان ترزحان تحت ثقل جسمه. والأهم أن الدراسات كافة قد أظهرت حتى الآن أن الدماغ البشري يعتبر نموذجاً لتطوّر غير متوازن رافق الظروف والمتطلبات البشرية، واحتفظ بالكثير من المقوّمات البدائية.

 

بين الماضي والحاضر
حسب ما أكّده شوبين في كتابه «سمكتك الداخلية» «Your Inner Fish»، فإن تحويل السمكة الى إنسان، يشبه الى حدٍّ بعيد تحويل الخنفساء الى سيارة. وهذا يعني حسب رأيه، أن الأجناس البشرية هي أحد أشكال الآليات المؤقتة الشكل والمضمون. بمعنى أنها تخضع لتطوّر مستمر. وفي هذا السياق، شرح كيفية حصول الأعراض المرضية المرافقة لتطوّر الإنسان المعقّد، ومنها على سبيل المثال، الأمراض القلبية والموسمية وأنواع السرطانات وسواها. ومن هذا المنطلق، توصّل الى الإستنتاج أن التفكّك الحاصل بين ماضي الإنسان وحاضره، أحدث خللاً لافتاً في عمل وظائف جسمه. وهذا الخلل إنعكس سلباً على صحته. وأعطى مثالاً على ذلك، الأجهزة البشرية المرتبطة بعمل الدورة الدموية. فهذه الأجهزة، على حدّ تعبيره، مصمّمة في الأصل للأجناس الحيّة الدائمة الحركة. لذا، فهي عندما اضطرت الى التأقلم قسراً مع حياة الإنسان المستقرة، أفرزت عبر تأقلمها المنافي لطبيعة تكوينها، جملة أمراض عضوية، وفي مقدّمها أمراض القلب والشرايين. على كلٍ، ثمة تأكيدات علمية اليوم تدعو الى التفاؤل، خصوصاً وأن المتابعة المستمرة لتطوّر الإنسان لفتت الى العملية التصحيحية التي ينتهجها «الإنتفاء الطبيعي»، وهي عملية ستكون كفيلة بتصحيح أخطاء التطوّر العشوائي والسريع مع مرور الزمن.

 

التطوّر الجيني يواكب التطوّر التقني
حسب معلومات وردت في محاضر جلسات أكاديميات العلوم الوطنية الأميركية، توجد أدلة قاطعة على أن الإنسان المعاصر يشهد تطوّراً لافتاً وسريعاً. بمعنى أنه أصبح يتطوّر بسرعة غير مسبوقة عبر تاريخ نشأته. وحسب ما تمّ الإتفاق عليه خلال هذه الجلسات، أصبح مؤكداً أن جينات الإنسان الوراثية، والتي تسير حياته وغذاءه وأداء دماغه وتفكيره، هي التي تقود سباق هذا التطوّر الفريد مع سائر المخلوقات.
وحسب ما أكده العالم البيولوجي الأميركي هنري هاربينينغ، فإنه لو قُدِّر للإنسان التطوّر في السابق بالسرعة التي نشهدها اليوم، لكان  الفارق التكويني بينه وبين «الشامبانزي» أكبر بأضعاف مما هو عليه في الوقت الحاضر.
فمنذ عقود، كان علماء البيولوجيا قد توصّلوا الى الإعتقاد أن التطوّر البشري قد توقّف الى حد ما منذ عشرة آلاف سنة، وذلك مع بزوغ العصر الزراعي، وما رافقه من إستقدار، واستخدام للتقنيات البدائية. أي مع بداية تحكّم الإنسان بحياته واختيار مكان سكنه وتأمين قوته. ولكن حسب الدراسة التي أجراها العالم الأميركي هاربينينغ، وسبق وأشرنا اليها، فإن هذا التقدم الذي طرأ على حياة الإنسان، سمح له بامتلاك العامل المسرِّع لتطوّره الذهني والبيولوجي. وهذا يعني أن امتلاك الإنسان مقدرة التحكّم بحياته عن طريق إختراع المعدات البدائية، سمح له بتسريع خطواته وبالتالي إرتقاء سلّم عالم الأحياء بنسبة تفوق التصوّر.
فامتلاك التقنيات البدائية قد ساعد الإنسان على استيطان أماكن مختلفة من الكوكب عن طريق الهجرة والتكاثر، وهو ما أدى الى حصول التغييرات البشرية الفيزيولوجية وبالتالي نشوء الألوان والأعراق والفوارق بين المجموعات البشرية. وهي فوارق ناجمة عن تفاعل التأقلم الجيني مع العوامل البيئية.
فمثلاً، ساعدت الهجرة البشرية الى شمال الكوكب على التأقلم مع البرد القارس والشحّ في وجود أشعة الشمس، وهو ما أدى الى ولادة الأجناس البشرية ذات البشرة البيضاء، والتي تسمح بزيادة التزوّد أشعة الشمس. كذلك فإن الهجرة الى القارة الأفريقية، أنتجت الجنس الأسود المقاوم لأشعة الشمس الساطعة، وهذا ينطبق على سائر الأجناس والأعراق المتأقلمة مع أماكن وجودها.

 

هل سيصبح البشر أقلّ تشابهاً في المستقبل؟
تعقيباً على هذه المعلومات، جاءت الدراسة التي أجراها العالِم الأميركي غريغوري كوشران لتؤكد على أن تاريخ البشرية هو في الواقع، رواية أسطورية علمية، خضع خلالها الإنسان لتغيرات سريعة ومتلاحقة، مكّنته عبر الأزمنة، من تحمّل البرد والجوع، والعطش، وحتى مقاومة الأمراض بوتيرة متصاعدة، وهو ما دفع كوشران الى التساؤل عما سيحدثه التطوّر البشري المتسارع على صعيد التغيرات الفارقة بين الأجناس البشرية في المستقبل.
وفي الوقت الذي قدّر فيه الباحثان هاربينينغ وكوشران أن سبعة بالمئة من الجينات البشرية تجتاز حالياً تطوّراً بالغ السرعة، لم يتمكن أحدهما حتى الآن من تحديد الجينات المتطوّرة، ولا التكهّن باتجاه تطوّرها. لكنهما يراهنان كما يبدو، على أن الأجناس البشرية الحالية والموجودة في مناطق مختلفة، ستبدو في المستقبل أقل تشابهاً على الصعيدين الفيزيولوجي والبيولوجي.

 

الجينات تعزّز قدراتها
تعقيباً على هذا التوجّّه، أكد بعض الدراسات الحالية، على أن الجينات الوراثية البشرية التي تقاوم جرثومة الملاريا في القارة الإفريقية، قد تطوّرت وعزّزت قدراتها بشكل ملموس. كذلك لمس الباحثون تطوّراً طرأ على الجينات المقاومة لرائحة الجسم وتلك المتعلقة بخصائص الشعر في القارتين الأفريقية والآسيوية. وعُرف مؤخراً أن مقدرة البالغين على هضم البروتينات الموجودة في الحليب قد تعزّزت بين شعوب القارة الأوروبية، وهو ما ينتظر حدوثه في الصين وبعض دول أفريقيا.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار التطوّر الهائل والسريع الذي طغى منذ عقود على قدرات بعض الشعوب العقلية، وما نجم عنه من إختراعات متسارعة، نرى بوضوح أن بعض الأجناس البشرية قد إجتاز فعلاً تطوّراً جينياً سريعاً باتجاهات مختلفة.
على كلٍ يحرص بعض الجهات على عدم إثارة هذا الواقع لأسباب تتعلّق بالحساسيات الإجتماعية، وخصوصاً لجهة الاعتراف بتفوّق بعض الأجناس على سواها. وعلى هذا الأساس شدّدت الدراسات الحديثة على أن التطوّر السريع والملاحظ في مجتمعات معينة، قد نجم عن إرتباط أفراد هذه المجتمعات وتأقلمهم مع معطيات بيئتهم الإجتماعية والجغرافية، وهو ما يحتّم عدم مقارنتهم بسواهم.
لتجنّب هذه المفارقات، يفضّل العلماء في الوقت الحاضر، التركيز على تشابه أداء الجينات الوراثية بدلاً من الغوص في المتغيرات.
وفي هذا السياق، أشارت إحدى الدراسات الحديثة الى رصد الباحثين لتطوّر جيني سيطرأ على مركز التحليل المنطقي في الدماغ البشري. وهذا ما سيجعل الإنسان أكثر تحكّماً بانفعالاته وعواطفه وتفكيره غير العقلاني. وهو ما يعتبره الباحثون تحوّلاً لافتاً في الجنس البشري، ومبشّراً بقدوم مرحلة معينة، تخضع خلالها الأحداث لأحكام العقل، وتؤكّد على أن البشر بشكل عام ما يزالون يصعدون سلّم الإرتقاء.