بلى فلسفة

بين رسم الفنان... ورسمه

العقيد أسعد مخول

كلّما رأيت لوحة جميلة، أو سمعت نغماً حلواً، أو قرأت كلمات معبّرة، منّيت النّفس بالتعرّف الى مبدعيها، أو على الأقل تحركت بي الرغبة لتقصّي أخبارهم ومعرفة طبائعهم والاطلاع على الظروف التي أحاطت بهم، وأثّرت في قدراتهم وميولهم وأهوائهم. لكنّ أكثر من ملكتني آثارهم واستهوتني عطاءاتهم، راحلون، وكم قال لي قائل: فليمنّ عليك الله بلقاء هؤلاء حيث هم، ما دمت منشغلاً بهم الى هذا الحد.

 وقد شدّت انتباهي مؤخراً لوحة زيتية وضعها رسّام ما زال في الحياة حياً يرزق، على عكس الآخرين. حملت اسمه بين الناس سائلاً عن هويته وعن عنوانه الى أن اهتديت الى رقم هاتفه. اتصلت به، وكان أن حدد لي موعداً لزيارة بيته، وهو غير قريب، لكن شغفي بالتعرف إليه تخطى المسافات، وها أنا في بلدته أضع اللمسات الأخيرة على خطة الاهتداء الى ذلك البيت. كانت إجابات من التقيتهم هناك عن الاستفسارات التي طرحتها خالية من الشغف الذي كان يرافقني، أو، على الأقل، غير موازية لجهدي واهتمامي وسعيي: بعد مئة متر ستجد مبنى أبيض، انحرف بعده الى اليسار قليلاً، فقد تجد من يحمل هذا الإسم. أو: كان يسكن في حيّنا منذ فترة طويلة، لكنه انتقل الى مكان آخر. أو: لا نعرف، اسأل صاحب الحانوت المجاور... كنت أهزّ الرأس عجباً وأسفاً، وأستغرب كيف أن أبناء هذه البلدة لا يلهجون باسم فنانهم في كل حين، وكيف لا يضعون الإشارات الهادية الى مكان إقامته بحيث يسهل الوصول إليه وسماع حديثه والاستزادة من علمه وفنه. ثم، عمّن يتكلم هؤلاء إن لم يتكلموا عنه، وحول من يحتدم النقاش بينهم إن لم يحتدم حول فنه وعطائه، وأين يقيمون المواعيد إن لم يكن عند زاوية حديقته، وإسم من يطلقون على مدرستهم وحانوتهم وساحة بلدتهم إن لم يطلقوا إسمه؟ وقلت لنفسي: لا عليك يا نفس. لا تعتبي. ألا تعلمين أن لا فنان يكرم في قومه؟

 تابعت الإستفسار والسعي، وها أنا أخيراً في جوار بيت الفنان. لقد وصلت قبل توقيت الموعد، إنني انطلقت باكراً كي لا أقع في الخطأ، وأي خطأ هنا قد يؤدي الى فشل زيارتي فيغضب الفنان وتضيع الفرحة... إنها دقيقة الموعد الآن، فلأتقدّم. مررت باليدين على جانبي سروالي، وضربت الأرض بقدمي تخلصاً من أي غبار دخيل قد يضرّ باللوحات والرسوم، وطرقت الباب بتهيّب ووجل. ها هي سيدة تفتح الباب دون أي إبطاء. لعلها لمحتني من خلال ثقب ما في الخشب. لكنها فور سماعها صوت سلامي أجابت بسرعة أيضاً: أهلاً. فاحترت بين أن تكون هذه المضيفة سريعة قلقة متوتّرة في طبعها، أو أن تكون غير مسرورة بزيارتي، وغير مرحّبة بي، وانها قالت "أهلاً" بشكل تقليدي عابر قياساً على: صباح الخير، كل عيد وأنت بخير، اشتقت إليك، وفقك الله... هل أن تلك السيدة لا ترغب أن يأتي أحد لزيارة الفنان لأنها تريد الاستئثار به وحيدة؟ أم أنه لا يستحق الاهتمام والزيارة بنظرها يا ترى؟ لكنني افترضت أن الفنان سيكون مهتماً بزيارتي، وما لي ولهذه المرأة؟

 

 قطعت السيدة حبل تساؤلاتي قائلة بسرعة أيضاً وأيضاً:

-­ من أين أنت؟

-­ من هذه البلدة. من بلدتك (وقد قلت ذلك بهدف الاختصار، وتجنباً للتأخير في الوصول الى الهدف المنشود).

 رفعت السيدة حاجبيها عجباً، وحركت رأسها على قاعدة الكتفين وأعادته الى الوراء قائلة: من بلدتي؟ من بلدتي، ولا أعرفك! ثم مشت بي الى غرفة داخلية يقيم فيها الفنان عرشه، وتركتني قبل أن تأمرني: تفضّل! وسمعت الباب يغلق ويصفّق... لقد بدأ فصل الفنّ إذن.

 وقف الفنان مبتسماً وهو يقول:

­- أرحب بك. لعلّك وصلت إليّ بسهولة.

 ­ نعم، لقد اتّبعت الدلالات التي زودتني بها خلال مكالمتنا الهاتفية، ووجود الحانوت في جوار منزلك هوّن عليّ.

-­ هل أتيت من مكان بعيد؟

­- نعم، لكنْ، لم يكن لطول المسافة أن يؤخّر زيارتي إليك.

-­ إنني أكرر ترحيبي. من أين أنت؟

 فرأيت أن أبدّل الجواب الذي قدمته قبل قليل للسيدة، ورفضته، وقلت له:

-­ أنا من السنديانة.

-­ لا أعرفها.

-­ إنها قرية صغيرة ترتفع بين الجبال والقمم عاماً بعد عام، كما أنها تزداد بالمقابل ابتعاداً عن الأحياء المأهولة والمشهورة، وهي تهدي الى الفن والجمال (قلت ذلك في محاولة للدخول بالحديث المنشود).

 لكن محدّثي عاد ليقول:

-­ وما القرى والبلدات التي تجاور قريتك؟

-­ لم أجد بداً من المجاراة والتلبية فذكرت بعض الأسماء المعروفة التي أفرحت الفنان فراح يتذكّر معها من يعرف من أهاليها، وما هي ذكرياته معهم، فيما كنت ابتهل الى ربي كي يميل به الى موضوع الزيارة -­ وهو الفن

-­ بعيداً عن الجغرافية وما إليها.

 لكن الفنان ازداد ابتعاداً وسألني:

-­ هل أنت متزوّج؟

 ولكي لا ينتقل بي الجواب الى استفسارات لا حدّ لها حول الأسماء والأعمار والهوايات وذكريات الماضي وأمنيات الحاضر، قلت: لا.

 علا وجهه العجب، وضرب كفاً بكفّ، قائلاً: وما السبب؟

 فإذا بي أمام استفسارات من نوع آخر، وأمام شواهد وأمثلة ذاتية أوردها الفنان عن تجربته على هذا الصعيد مؤكداً عدم رضاه عن حالتي، ومعلناً استعداده لمساعدتي في الوصول الى حلّ.

 قلت: -­ وهل ترى أن ذلك يقف حجر عثرة في طريق الفن؟

-­ لا، أنا لا أربط بين الحالين.

-­ ولكنك لم تحدّثني عن فنّك وعطائك حتى الآن.

-­ الفنّ، والعطاء... وفي هذا المجتمع؟

 وراح يتحدث عن مشكلاته الاجتماعية المختلفة، منتقلاً منها الى مشكلات سياسية لا حصر لها، ومنتهياً الى القول إن فنّه هو في الأساس لخدمة الآخرين، ولا غاية شخصية له فيه. وسأل:

-­ وما الاتجاهات السياسية في قريتك وفي ما يجاورها؟

-­ إنها اتجاهات مختلفة ومتنوّعة.

-­ وهل تلتقي النّاس هناك وتزورهم من وقت لآخر؟

-­ نعم.

-­ ولمَ لم تتزوّج حتى الآن؟

 سرّحت النظر بين الجدران مفتشاً عن لوحة، ولم أجب.

 أضاف: إنني أدعوك منذ الآن الى سهرة أقيم فيها مأدبة هنيئة، وأدعو إليها أكثر من زهرة لطيفة لافتة، عليك أن تختار بينها.

 فأضفت للتّو: -­ وأكون أنا بينهنّ شوكة حادّة الملمس.

 قال مخفّفاً: -­ لا، شوكة ناعمة إن شاء الله.

عندها ودّعت مضيفي وأنا أقول له:

­- سأكلمك لاحقاً بخصوص اللقاء.

 وقلت لنفسي: كان عليّ أن أكتفي برؤية رسمه المعبّر عن الفن عندي، ذاك الرسم الذي يُرى ولا يَرى، ويُحكى عنه ولا يحكي، والذي لا يشبه رسمه الحاكي هنا عن كل شيء... إلاّ عن الفن.