قضايا إقليمية

بين سياسة الاستيطان والتسوية السلمية
إعداد: إحسان مرتضى
(باحث في الشؤون الإسرائيلية)

ماذا تريد اسرائيل؟

شكّل الاستيطان الإسرائيلي منذ احتلال الضفة الغربية في العام 1967 ممارسة غير قانونية وغير شرعية، لم يعترف بها حتى العديد من حلفاء إسرائيل المقربين. وكان الاسرائيليون قد تلاعبوا بهذه الأراضي المحتلة حديثًا من خلال طمس هويتها. فقد سموها في الحقبة الاولى من الاحتلال الأراضي المدارة، أي التي يديرها الحاكم العسكري الصهيوني، وبعد فترة من الزمن سموها الأراضي المتنازع عليها، وبعد فترة أخرى بدأوا بتسميتها الأراضي المحررة، علمًا أنّ هذا التحرير إنما شكل استكمالًا لحرب 1948.

 

أين خارطة الطريق؟
لم يتوقف الاستيطان مطلقًا بفعل توقيع إتفاق أوسلو الانتقالي في العام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والذي ولدت بموجبه السلطة الفلسطينية. وقد دفع رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحاق رابين حياته ثمن وعده عرفات بالتنازل عن بعض الأراضي المحتلة تحت شعار الارض في مقابل السلام، على الرغم من أنّ ذلك الاتفاق تضمّن نصًا يقول بعدم تأثيره على قضايا الحل النهائي، والاستيطان أحد عناصرها الأساسية.
ولم يتوقف الاستيطان أيضًا بفعل خارطة الطريق التي قدّمتها إدارة بوش الابن، ووافق عليها الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني. وبدل التزام عدم فرض وقائع جديدة على الأرض، استمرت إسرائيل في بناء المستوطنات وتوسيعها، ما ضاعف عدد المستوطنين عمّا كان عليه عند توقيع اتفاق أوسلو، فوصل إلى أكثر من نصف مليون مستوطن يقيم 200 ألف منهم في القدس الشرقية.

 

السحر ينقلب على الساحر!
جلب الاستيطان مشكلات عديدة لإسرائيل، إذ فضح حقيقتها كدولة استعمارية، توسعية، وعنصرية. كما أنّ الأنشطة الاستيطانية وردات الفعل الفلسطينية ضدها عسكريًا وسياسيًا رفعت كلفة الاحتلال، من النواحي الأمنية والبشرية والمادية، وأضعفت شرعية إسرائيل على الصعيد الدولي، وعززت التعاطف مع الشعب الفلسطيني. فقد باتت قضية الاستيطان الصهيوني أزمة لإسرائيل نفسها، ويعود ذلك إلى العوامل الآتي ذكرها:
1) صمود الفلسطينيين ومقاومتهم للاحتلال والاستيطان؛ والانتفاضات المتعاقبة خير تعبير عن ذلك.
2) تنامي مخاطر ما يسمى «القنبلة الديمغرافية» الفلسطينية، التي تهدد بتقويض الطابع اليهودي العنصري للدولة، وتفتح أفقًا للتحول نحو دولة «ثنائية القومية».
3) تزايد الضغوط الدولية والإقليمية على إسرائيل لوضع حد للتوسع الاستعماري الاستيطاني، وتمرير استحقاقات التسوية مع الفلسطينيين، وبالتالي معالجة الملفات الأخرى في المنطقة.
4) خلافات التيارات الإسرائيلية، لا سيّما على خلفية تكوّن مجموعات متطرفة تهدد الاستقرار، ولا تنصاع حتى للقوانين الإسرائيلية السارية المفعول، باعتبارها الاستيطان في الضفة خارج النقاش، ما يهدد سلطة الدولة وسمعتها.

 

بين التحرّر والتوسع
إن حجم التناقض بين المشروع الوطني الفلسطيني التحرري وبين المشروع الصهيوني التوسعي، أكبر وأعظم من عملية تسوية، يستخدمها الصهاينة كبالونات اختبار، يتم تحريكها استنسابيًا من أجل تضليل الرأي العام العالمي وتخدير الحركة الوطنية الفلسطينية وأشاعة الانقسام بين صفوفها وتعميق صعود النخب الفاسدة والانتهازية فيها.
لقد اختار العرب في الأساس الذهاب إلى التسوية في لحظة يميل فيها ميزان القوى لغير مصلحتهم، فصارت التسوية مجرد نوع من قبول التنازلات والاستسلام للرأي الآخر بفعل الفارق الكبير في موازين القوى. وتحولت إلى مجرد تسويف إسرائيلي لابتزاز العرب وجعلهم يلهثون خلف لقاء على طاولة أو وراء الكواليس.

هكذا تمّ إرجاع القضية الفلسطينية وتجميدها عند نقطة الصفر بصرف النظر عن ترويج الأوهام، فإسرائيل تسيطر على كامل أرض فلسطين التاريخية، والفلسطينيون إما لاجئون أو تحت سيطرة الاحتلال والحصار(كما في الضفة وغزة) أو يخضعون للسياسات العنصرية التمييزية في الداخل الاسرائيلي.
وإسرائيل اليوم بغطرستها ووقاحتها وضربها عرض الحائط شرعة حقوق الانسان وسائر المعاهدات الدولية المنبثقة عن الحربين العالميتين، إنّما تريد من الفلسطينيين، أي من ضحاياها المباشرين، أن يعترفوا بها حصرًا كدولة قومية يهودية، وليس كدولة عادية لكل مواطنيها كما يدعو بعض الفلسطينيين. وهذا يعني إلغاء حق العودة للفلسطينيين المشرّدين، وإنكار حقوق من يسمون بعرب اسرائيل أو عرب الداخل، والاعتراف برواية اسرائيل التاريخية والدينية والعنصرية، وبحقّها في الوجود على هذا الأساس الباطل، الذي يضمن إزاحة الفلسطينيين من المكان والزمان، وحرمانهم الوطن والهوية وامتهانهم. وربما هي تريد منهم أيضًا، حتى الاعتذار عن تعكير صفاء عيشها ببقاء بعضهم فيها وبمقاومتهم لها، تطبيقًا لقصة الذئب والحمل المعروفة في الأدب العالمي.

 

تسوية سلمية؟!
إن اسرائيل لو كانت جادة في التعامل مع قضية التسوية السلمية، إذا صح التعبير، لكانت أنهت التوسع الاستيطاني السرطاني أو لأجّلت ولو لفترة معينة البناء في المستوطنات وفق ما طلبته منها الادارة الأميركية كما المجتمع الدولي أكثر من مرة ومن دون جدوى.
أكثر من هذا أعلنت اسرائيل في الفترة الأخيرة عزمها على تكثيف بناء المستوطنات في جميع أرجاء الضفة الغربية والقدس المحتلة لإحباط أي فرصة لتحقيق تسوية سياسية للصراع مع الشعب الفلسطيني. وبالتالي فالسلام الذي تريده اسرائيل هو سلام الدولة المتحكمة بالمنطقة كلها وهو السلام الذي يعطيها اعترافًا تاريخيًا ودينيًا، وتطبيعًا كاملًا في العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة أولًا، ومع دول العالم بأسره ثانيًا. والسلام الذي تريده هو ذاك الذي يعطيها وحدها حق التفوق العسكري الكامل في المجالين التقليدي وغير التقليدي. وهذه الرؤية هي التي تفسّر لنا كل حروب إسرائيل هنا وهناك، وتوضّح سياسة القوة المفرطة التي تنتهجها في المنطقة وخصوصًا مع الجانب الفلسطيني.

 

العلاقات الفلسطينية العربية
قد تكون عملية الاعتراف بفلسطين عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة عاملًا مساعدًا لرسم علاقات فلسطينية وعربية مع غالبية دول العالم وللضغط على إسرائيل وارغامها على الانصياع للقرارات الدولية. فغالبية دول العالم تندّد بالقرارات الإسرائيلية المتتالية، والمتسارعة والرامية إلى انشاء آلاف الوحدات السكنية الجديدة في عمق الضفة الغربية، وبشكل خاص في مدينة القدس.
ويلحظ المتابعون أن حكومة نتنياهو، وكعقاب للفلسطينيين، بعد الاعتراف الدولي بفلسطين عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة يوم 29 كانون الأول 2012، قد زادت من نشاطاتها الاستيطانية لفرض أمر واقع تهويدي يصعب الفكاك منه، ولم تخرج اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المتكررة على سكان المدن الفلسطينية عن الأجواء المذكورة.
في هذا السياق نقل موقع صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية عن وزير الإسكان أوري أرئيل قوله «إن إسرائيل لن تجمّد البناء في المستوطنات بحال من الأحوال، ونحن لن نسلّم بوجود عوائق يمكن أن تؤثر على مواصلة البناء في أرجاء يهودا والسامرة (الضفة الغريبة) فهذه أرضنا ولنا حق البناء فيها». وأضاف: «لن تكون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط إلا دولة واحدة فقط، هي إسرائيل، والقدس لن تقسّم وستبقى عاصمة إسرائيل الموحدة إلى أبد الآبدين».

في السياق نفسه، دعا نائب وزير الدفاع الإسرائيلي والقيادي في حزب «الليكود» داني دانون إلى تكثيف البناء في القدس المحتلة لقطع الطريق على أي محاولة لطرح مصيرها على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
أما اوريت ستروك (من حزب البيت اليهودي المشارك في الائتلاف) فطالبت بضم كل الكتل الاستيطانية، وبتوجيه رسالة واضحة تؤكد موت مسيرة أوسلو لأنها كانت بمثابة انحراف عن الخط الصهيوني الأصيل، وهي كلّفت اثمانًا باهظة ونحن نريد العودة إلى الوضع السليم!!.