وداعًا

بين شجرة الدفلى وشتلة التبغ
إعداد: إلهام نصر تابت

ربما كانت «طيور أيلول» أول رواية قرأتها لإميلي نصرالله، خلال ليلة أو أكثر بقليل. في تلك الفترة كانت القراءة لي شغفًا لا يوازيه إلّا شغف التأمل في امتدادات الجمال اللامتناهي في قريتي ومحيطها: من الصنوبر المنتشر على التلال، إلى بهاء الفجر والغروب والقمر، والبيوت الوادعة المسكونة بالرضا. أما أزهار شجرة الدفلى بألوانها البديعة فكانت تؤنس بشكل خاص صباحاتنا حين ننتهي قبل شروق الشمس من قطاف أوراق التبغ في سهل الجرمق.

ينمو الدفلى بكثرة قرب مجاري المياه، وتلك المجاري يقصدها قاطفو التبغ لغسل أيديهم من الدبق الأسود الملتصق بها عقب القطاف. الحضور الجميل لأزهار الدفلى في صباحات القطاف، بات أكثر توهجًا في المشهد بعد أن قرأت «شجرة الدفلى» لإميلي نصر الله. وتحديدًا عندما عرفت من القصّة أنّ هذه الأزهار الجميلة تعتلي سيقانًا تنضح بمرارة رهيبة. ربما كانت تلك المرارة موازية لمرارة دبق التبغ؟! لم أعرف يومًا. وربما كانت بساطة الحياة التي يعيشها جيران شتلة التبغ وشجرة الدفلى تضاهي جمال تلك الأزهار الوردية والبيضاء، على الرغم من مرارة مشقاتها؟! أمر شغل الكثير من تأملاتي...

إلى ذلك العمق البعيد، تعود جذور دهشتي أمام قلم إميلي نصرالله. وهي دهشة لم تبددها الأيام، أو تحدّ من عمق تفاعلاتها. بل ظلت تتوهج مع قراءاتي المتتالية لأعمالها في ما بعد، وازدادت اتّساعًا مع معرفتي بها عن قرب.

كان ذلك بين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات. إميلي نصرالله كاتبة يملأ إنتاجها المكتبات، وكتبها تترجم إلى اللغات العالمية، وأنا مجرد صحفية تتدرج في صحيفة «الأنوار».

اللقاء الأول بيننا كان في اجتماع سبق إصدار العدد صفر من مجلة «فيروز»، بدعوة من رئيسة تحرير المجلة السيدة إلهام فريحة. يومها كان الفرح يجتاح كل خلية من جسمي، إذ إنني أجلس إلى الطاولة نفسها التي تجلس إليها إميلي نصرالله. أخبرتها عن مدى سعادتي بأنني أتعرّف إليها شخصيًا، ابتسمَت ولامست كتفي بمحبة، بل أخبرتني أنّها قرأت نصوصًا لي وأحبتها.

عملنا معًا في مجلة «فيروز» ما يقارب أربع سنوات، كانت خلالها إميلي نصرالله بالنسبة إليّ أكثر من كاتبة كبيرة. كانت سيدة الرقي والتواضع والحكمة. كانت سيدة الحضور المبهر التي تظلل ابتسامتها المشرقة اجتماعات أسرة المجلة.

من إميلي نصرالله سمعت أجمل وأبسط تفسير للأمومة على الإطلاق. تعلّمت منها الكثير في المهنة وفي الحياة خلال عملي في «دار الصياد». وحين انتقلت إلى «الجيش» كان لي حظ اللقاء بها مرات عدة، بعد سنوات من انقطاع التواصل. خلال تلك السنوات كانت إميلي نصرالله تواصل مسيرة نجاحها الباهر عقودًا، وكتبًا بعشرات اللغات العالمية، روايات، أعمال بحثية، ذكريات، تأملات وموائد ثقافة وحنين... حفرت في وجدان الملايين من أجيال وثقافات مختلفة، أمّا إميلي نصرالله الإنسانة المشرقة بتواضعها، فظلت هي هي. بكل فرح وسرور لبّت طلبي وكانت على صفحات «الجيش» ضيفة عزيزة، ومبدعة تشارك في كتابة النصوص مرات عدة. أذكر بشكل خاص من تلك المرّات أنني سألتها عقب عدوان تموز 2006 إذا كانت ترغب في المشاركة في ملف بعنوان: «حبر الحرب» إلى جانب عدد من الشعراء والكتّاب. يومها كتبت لنا نصًّا بعنوان «أطفال الجيران»، نضارة النص حفرت في وجداني صورًا ساطعة للتعبير المتجلي بإنسانيته وبساطته.

كنت أتصل بها بخفر تلميذ يتّصل بمعلمه، وكانت لا تتردّد في الاتصال بي لتهنئني على نصّ لي أحبّته ووثّقته ضمن أرشيفها.

في إحدى دورات مهرجان الكتاب في انطلياس (2007) دُعينا إلى حفل توقيع روايتها: «ما حدث في جزر تامايا». بتكليف من مدير التوجيه، اشتريت عددًا من النسخ، وبقدر ما قدّرت المبادرة، سألت بحياء: هل أنتِ متأكّدة أن قيادة الجيش تريد كل هذا العدد من النسخ؟ أكّدت لها أن نعم. حمّلتني شكرًا كبيرًا، وأبدت سعادتها بأن تكون كتبها في مكتبات الجيش اللبناني.

نعم يا «ست إميلي»، كتاباتك وكلماتك تشرق في البال وفي الكتب، وكم نحن سعداء بأن تستضيف مكتبات جيشنا وأجيالنا أعمالك.

وداعًا «ست إميلي»، يا سيدة الرواية اللبنانية، ويا سيدة الرقي والتواضع. كانت هذه المساحة مخصصة لخبر تكريم رئيس الجمهورية لك ومنحك وسام الأرز من رتبة فارس، فإذا بها تصبح محطة لاستعادة جزء من ذكريات بهية صنعها حضورك في زمننا.

وداعًا، شكرًا، وسامحينا، كنّا ننتظر أن يمنحك المرض اللعين قدرًا من الوقت يتيح لنا لقاءً بعد... لكننا سنلتقي في ظل سنديانة إبداعك.