مؤسسات وجهود

بين مشاعر المتطوعين وواجبهم الإنساني: عمل وتضحية
إعداد: تريز منصور

عتادهم الأساسي عزم على التضحية من أجل الإنسان، وإيمان بالرسالة التي يحملونها. يتطوعون لمواجهة الخطر كلما دعاهم الواجب. في كارثة بيروت قدموا الكثير من الدم والعرق، ومع كتابة هذه السطور في آخر أيام آب، كانت فرقهم تتابع العمل المضني. عمل شاق، وحزن على ضحايا رحلوا، ومدينة مزقها الانفجار الرهيب.

الدفاع المدني، فوج الإطفاء، والصليب الأحمر اللبناني، ثلاث مؤسسات نذرت متطوعيها وتاريخها للعمل الإنساني، وأضفت لمسة من الأمل حيث حلت. في هذه السطور، وقفة أمام تضحيات كبيرة وجهود مثمرة خففت من المعاناة، وعملت أحيانًا كثيرة «باللحم الحي» في مواجهة الخطر والمآسي، ولا سيما المأساة الأخيرة التي حلت ببيروت.

 

الدفاع المدني: كل الشكر والتقدير

«يتابع عناصر الدفاع المدني عمليات البحث والإنقاذ والمسح الميداني الشامل في مرفأ بيروت برًا وبحرًا، فهذه العمليات ما زالت مستمرة حتى الساعة ولن تتوقف إلا بأمر من قيادة الجيش، وإلى حين التمكن من العثور على المفقودين كافة والانتهاء من المهمات الموكلة إليهم». بهذه الكلمات يستهل المدير العام للدفاع المدني العميد ريمون خطار حديثه إلى «الجيش». وهو يوضح أنّ الكارثة التي أصابت مرفأ بيروت، لا يمكن أن تُقارن إلا بالكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات نظرًا لما خلّفته من أضرار جسيمة بشرية ومادّية. لكن وعلى الرغم من هول الكارثة فقد تمّت عمليات الإنقاذ بشكل احترافي، بفضل ما يتحلّى به عناصر الدفاع المدني من خبرة اكتسبوها على مرّ السنوات الماضية، ومن خلال التنسيق مع قيادة الجيش اللبناني، الشريك الدائم في مواجهة الأزمات الكبرى، ومع أجهزة الإغاثة الأخرى، التي سبق أن جمعتنا بها برامج تدريبية متعددة، ما سهّل عمليتي التواصل والتنسيق خلال الكارثة.

منذ اللحظات الأولى التي تلت الانفجار، استُنفرت مراكز الدفاع المدني المنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة، وبدأت بالتوافد إلى موقع الانفجار وفق مدى قربها منه جغرافيًا، وبالتوازي مع تنسيق المناطق بدأت عمليات إنقاذ الجرحى.

وخلال وقت قصير، استقدمت التعزيزات من المراكز في مختلف المناطق (صور، البقاع...). وقد عالج الدفاع المدني أكثر من ٦٥٠ جريحًا في موقع الانفجار والمناطق المتضررة، ونقل ما يقارب ٣١٠ جرحى ومرضى الى المستشفيات. أما على صعيد الإطفاء فقد تمّ إخماد ٣٠ حريقًا. وسُجل تنفيذ ١٤٥ مهمة بحث وإنقاذ، وتمّ مسح حوالى ١٧٣ موقعًا للتفتيش عن مصابين.

 

كفاءة وحرفية

في ما يتعلّق بأداء العناصر، فقد أظهروا كفاءة مميّزة، ما أذهل فرق الإغاثة المحلية والأجنبية كافة، ولا سيّما عند ملاحظة اندفاعهم للعمل في الأماكن الخطرة بطريقة احترافية، وفق ما يقول العميد خطار الذي يضيف: «هذا ما سمعناه من الفرق الأجنبية التي عمل معها المتطوعون خلال البحث والإنقاذ في الأحياء المجاورة للمرفأ».

مواجهة عملية الإنقاذ للصعوبات كانت مسألة حتميّة، فهذه الصعوبات ترافق جميع أنواع المهمات المتعلقة بالدفاع المدني، من إطفاء، وبحث، وإنقاذ وإسعاف. وفي مهمة بيروت الأخيرة كان الوضع بالغ الصعوبة، لكنّ الدفاع المدني يعمل في كل الظروف انطلاقًا من واجبه الوطني والإنساني. وقد أصيب عدد من العناصر خلال تأدية مهماتهم، ولكنّها جاءت طفيفة مقارنة بالويلات التي نجمت عن هذه الكارثة.

في ما يتعلق بالمساعدات، أوضح العميد خطار أنّ المديرية العامة للدفاع المدني تلقّت عبر وزارة الخارجية هبة مادية بقيمة مليون دولار أميركي، وصدر مرسوم قبولها عن مجلس الوزراء، كما أنّ الدولة الفرنسية قدمت أربع آليات (٢ إسعاف و٢ إطفاء).

كذلك، خصّت قيادة الجيش اللبناني الدفاع المدني بقسم من الهبات التي وردت من جهات دولية مانحة، إضافة إلى هبات متفرقة من جمعيات وأفراد محليين أو عبرهم من لبنانيين مقيمين في الخارج، تنوّعت بين مأكولات جاهزة للعناصر طوال فترة عملهم في المرفأ والمناطق المجاورة، ومستلزمات الوقاية من فيروس كورونا، وغيرها من العتاد الفردي الضروري لتنفيذ المهمات.

وأكد العميد خطار أخيرًا، أنّ متطوعي الدفاع المدني يستحقون كل شكر وتقدير، على الجهود الجبارة التي بذلوها في أثناء تنفيذ عمليات البحث والإنقاذ والمسح الميداني الشامل في موقع الانفجار والمناطق المجاورة المتضررة، وعلى ما أظهروه من مناقبية في التعاون مع فرق الإغاثة الأجنبية والعربية والمحلية. وقد حرصوا على استمرارهم في تنفيذ المهمات اليومية من دون كلل، ولا سيّما مع ارتفاع معدل الحرائق.

وشكر قائد الجيش العماد جوزاف عون على التعاون الدائم في جميع الأوقات والظروف، إذ يعملان يدًا بيد على تأمين الحماية المدنية في جميع المناطق اللبنانية. وتقدّم بواجب العزاء لأهالي الشهداء متمنّيًا الشفاء العاجل للمصابين.

 

فوج الإطفاء: الشهادة والوجع

المشهد في مبنى فوج إطفاء بيروت في الكرنتينا حزين. فالحزن يلوّن المكان، ووجوه العناصر الذين فقدوا عشرة من رفاقهم استشهدوا في انفجار المرفأ.

قائد الفوج العقيد الركن نبيل خنكرلي استقبلنا في مكتبه الحالي القائم في غرفة الحرس على مدخل الفوج، نظرًا للدمار الهائل الذي أصاب المباني، وأوضح: «أنّها المرة الأولى التي يتوجّه فيها عناصر الفوج إلى مهمة أسبابها مجهولة». ويضيف قائلًا: «مبدئيًا تعرّف الجهة المتصلة عن أي حالة حريق عن مسبّبات اندلاعه ( غاز، احتكاك كهربائي...)، ولكن نشوب حريق في العنبر رقم ١٢ في المرفأ كان غامضًا ومختلفًا.

أُطلق جرس الإنذار في المركز، فلبّت المُسعفة سحر فارس، ورفاقها التسعة المناوبون، وجميعهم من الشبان، النداء سريعًا. انطلقوا في سيارات الإطفاء إلى مكان الحادث، معرضيّن حياتهم للخطر كالمعتاد، ولكنّ الخطر هذه المرّة كان مختلفًا ومأسويًا، أودى بحياة الكثيرين، في مهمة أكبر بكثير من مهمة عادية».

عندما لاحظت المجموعة حجم الدخان داخل العنبر، طلبت الدعم من المركز، وفي الوقت الذي كانت تستعدّ فيه مجموعة الدعم للصعود نحو السيارات، سُمع دويّ الانفجار الأول، وبعدها شهد المركز عاصفة قذفت العناصر إلى داخل ممرّات السيارات، ليكمل الانفجار الثاني العملية المأسوية. فُقد الاتصال بالفريق الذي ذهب إلى المرفأ. وفي المركز كان الوضع صعبًا، إصابات بسبب انهيار حائط داخل المبنى فضلًا عن تلك التي سببها تحطم الزجاج. هرع كثيرون من العناصر لإنقاذ الجرحى على الطريق السريع المواجه للمركز، وعلى جسر شارل حلو حيث كانت جثث كثيرة ملقاة على جوانب الطريق.

 

ما بعد الصدمة

يتابع قائد المركز الرواية المؤلمة، فيقول: «بعد الاستيقاظ من هول الصدمة، توجّه فريق من المركز مباشرةً إلى موقع الانفجار، وكان العناصر في حالة الخوف الشديد على زملائهم في فريق الإنقاذ الأول، والذهول المرعب وسط ما يشاهدونه من جثث وأشلاء متطايرة على الأرض. بدأوا بإطفاء الحرائق التي تسبّب بها الانفجار. وفي حين بقي مصير الفريق مجهولاً لساعات، إلى أن تمّ العثور على جثّة العريف الشهيدة سحر فارس (طلبت إعادتها إلى الفوج مجددًا قبل تسعة أيام من حصول النكبة). كانت سيارة الإسعاف متوقفة بعيدًا من العنبر، لذلك وُجدت جثة الشهيدة سحر بسرعة، أما أشلاء شهداء الواجب التسعة فتمّ انتشالها تباعًا، وآخرها كانت للعريف جو بو صعب، بعد مرور خمسة عشر يومًا على حصول الانفجار.

وأكد العقيد خنكرلي أنّه لو كانوا على علم بماذا يضمّ العنبر، لكانوا نفذوا عملية إخلاء واسعة بالتعاون مع الجيش، تفاديًا للكارثة...ولكن للأسف فرق فوج الإطفاء ذهبت نحو المجهول المدمّر.

عتاد فوج الإطفاء قديم العهد فهو يعود إلى العام ١٩٦٠ وقد «خدم عسكريتو»، وكلما طالبت قيادة الفوج بضرورة تجديده، يكون الردّ: فلتسر المهمات بالعتاد الموجود، لأن الوضع الاقتصادي الصعب لا يسمح بشراء عتاد جديد. تضرّرت معظم آلياتنا (سيارات إسعاف وإطفاء وسلالم) في الانفجار يقول قائد الفوج، ولكن وصلتنا مساعدات (سيارات إسعاف وإطفاء) من الدولتين الفرنسية والإيطالية، والصليب الأحمر الدولي.

نغادر الفوج الذي ما زال في قبضة الحزن على رفاق أعزاء، بينما ترافق إحدى فرقه فرق الإنقاذ العاملة في المرفأ، وتقف على أهبة الاستعداد للقيام بواجبها في حال حصول أي حريق ناتج عن اشتعال مواد سريعة الاحتراق الموجودة في المرفأ.

 

الصليب الأحمر اللبناني: مستمرون بالعطاء

نال الصليب الأحمر اللبناني ثقة المجتمع الدولي واللبناني على حدٍّ سواء طوال سنوات طويلة من الخدمة المتفانية. أينما تدعو الحاجة نجده حاضرًا وبسرعة البرق. عناصره شباب متطوّع لخدمة الإنسانية إلى أقصى الحدود، هذا ما أثبته دائمًا، وهذا ما بدا جليًا في العمليات الإنقاذية التي نفّذها في انفجار مرفأ بيروت.

وأوضح أمين عام الصليب الأحمر اللبناني السيد جورج كتانة أوضح أنّهم اعتقدوا في البداية أنّ الذي حصل هزّة أرضية، وبعدها تبين أنّ النكبة التي حلّت على بيروت ومرفئها سببها انفجار. استُنفرت على الفور ٧٥ سيارة اسعاف و٥٠ سيارة أخرى احتياط، كما استنفر نحو٢٠٠٠ متطوّع من عناصر الصليب الأحمر، ومراكز فحص الدم، فتمّ سحب ١٥٠٠ وحدة دم في تلك الليلة، وزّع منها ١١٠٠ وحدة على المستشفيات.

وعلى الرغم من إصابة مراكز الصليب الأحمر في منطقة الجميزة بشكل كبير، وإصابة أربعة من عناصرها، إضافة إلى سيارات الإسعاف، إلا أنّ ذلك لم يمنع العناصر الموجودين في تلك المحلّة من إسعاف الجرحى في المنطقة التي باتت بثوان منكوبة، إذ فقد حوالى ٣٠٠ ألف شخص منازلهم وممتلكاتهم في لمح البصر.

غصّت مستشفيات العاصمة اللبنانية بضحايا الانفجار الضخم الذي أدى إلى سقوط المئات، وحوّل مستودعات منطقة الميناء إلى ركام، ما حتم نقل الجرحى إلى مستشفيات خارج بيروت وفي جميع المناطق اللبنانية. لكن المؤلم أنّ كثيرين لاقوا حتفهم في المنازل بسبب ركام المباني، وكثيرون حوصروا في المنازل بينما جرى إنقاذ آخرين بالقوارب.

الدمار الذي لحق بعدة مستشفيات رئيسية، اضطر الصليب الأحمر إلى إخلاء المرضى، ومن بينهم مرضى كورونا.

 

النداء والمساعدات الدولية

تلقى الصليب الأحمر اللبناني، نتيجة للنداء الإنساني الذي أطلقه، والثقة التي يتمتع بها، مساعدات عينية ومالية من عدّة جهات عربية ودولية منها: الاتحاد الدولي للصليب الأحمر، الصليب الأحمر الإيطالي، السويسري، النروجي، الهولندي، النسماوي، الكندي، الألماني، البريطاني، والهلال الأحمر، الكويتي، الإماراتي، القطري، الإيراني والفلسطيني.

في أعقاب الانفجار، وزّعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إمدادات طبية على ١٢ مستشفى في بيروت وضواحيها. وهي مستمرة في دعم هذه المستشفيات للمساعدة في الاستجابة إلى العدد الهائل من الاحتياجات الملحة للناس في بيروت.

المهمات التي نفّذها الصليب الأحمر اللبناني عقب انفجار المرفأ شملت أيضًا تقديم الدعم النفسي للمتضررين، وخدمات إعادة التأهيل الجسدي للمصابين.

وأكد كتانة أنّ عمليات الإنقاذ متواصلة في موقع الانفجار في مرفأ بيروت بالتنسيق مع فرق الدفاع المدني والجيش اللبناني والأجهزة المعنية بحثًا عن مفقودين، إلى جانب استمرار فرق الصليب الأحمر بتوزيع وحدات الدم للمستشفيات، ونقل الجرحى من المنازل، أو من مستشفى لآخر بحسب الحاجة. وأشار إلى وجود مراكز ثابتة للصليب الأحمر عند نقطة الصيفي - النهار وقرب شركة الكهرباء في منطقة العكاوي، إضافة إلى الإبقاء على حالة الاستنفار الكامل في كل المراكز للاستجابة الفورية. وأعلن إجراء مسح كامل لتأمين ما أمكن من احتياجات المتضررين لجهة المأوى والمواد الغذائية.

بالإضافة إلى ذلك، بدأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تسليم سلل غذائية إلى منظمة محلية تعمل على دعم الأشخاص الذين باتوا من دون مأوى. وبالتعاون مع الجيش اللبناني تقوم فرق تابعة للجنة نفسها بتقييم الأضرار التي لحقت بالممتلكات والبنية التحتية للكهرباء والمياه.

أخيرًا يؤكد كتانة أنّ الصليب الأحمر اللبناني مستمر في العطاء وبشفافية عالية، بالتنسيق مع غرفة العمليات المتقدمة التي أنشأها الجيش اللبناني.

 

الأثار البشرية لانفجار المرفأ

تسبّببّ إنفجار مرفأ بيروت بمقتل أكثر من ١٩٠ ضحيّة، وجرح أكثر من ٦٠٠، و٧ مفقودين لغاية تاريخه (أربعة منهم أجانب)، وتهجير أكثر من ربع مليون مشرّد.

 

شهداء فوج إطفاء بيروت

أصدر محافظ بيروت قرارًا بترقية الشهداء العشرة وهم: الرقيب أول شربل كرم، الرقيب أول رامي الكعكي، الرقيب أول الياس خزامي، العريف جو بو صعب، العريف ميثال حوا، العريف جو نون، العريف رالف ملاحي، العريف نجيب حتي، العريف شربل حتي، والعريف سحر فارس.