وجهة نظر

تاريخنا مبني على جبال من صوّان لكن ثمة فصول استقلالية ينبغي استكمالها
إعداد: جورج علم

عبر كثيرون، غادروا المكان، وتركوا إرثًا مضمّخًا بالوطنية. وتبقى ذاكرة الحنين غنية بهالات المجد من ماضي النضال الذي ينقش الحاضر والمستقبل. مجدهم أنهّم صنعوا الاستقلال، ورحلوا موشّحين بالغار. كان رصيدهم شمخة رأس، ونظافة كفّ، وإيمان عميق، وترهّب في صوامع الوطن، أما زادهم فكرامة مجبولة برحيق الأرض التي أنبتت أرزًا وعنفوانًا، وسلاحهم صنّارة صوف طرّزت علم الاستقلال.
لا نعرفهم إلا كوكبة دخلت التاريخ وسط هالة من نور. ربما أُخِذنا يومًا بمسرحية «جبال الصوّان»، إلا أنّ تاريخنا مبني على جبال من صوّان تنشد دومًا العلو نحو العلى!

 

يقول العلّامة الدكتور فؤاد أفرام البستاني، في إحدى محاضراته: «عن الاستقلال روايات ثلاث، الأولى هي الأصدق والتي صنعتها البوتقة الأدبية البكر. الثانية حيث المكان، الزمان، المسرح، البطل، الكومبارس، والأدوار. الثالثة، لم تكتمل فصولًا بعد، ولا يمكن أن تكتمل إلا مع قيام الدولة القوية، القادرة، العادلة، المتمكّنة، الشفّافة، الكفوءة، والمبدعة، والإبداع سمة لبنان، وإن نضب معينه، فلا يعود من حاجة إلى هذا اللبنان».

 

في الرواية الأولى
في الرواية الأولى: قلم مسنون، وفكرة مشرئبّة، وإرادة فولاذية، وإيمان مسكون بعبق القداسة. إنّهم روّاد النهضة اللبنانية - العربية، أسماء لمعت في عالم الفكر، الأدب، الصحافة، القصة، الرواية، والشعر. إنّهم المفرزة الخاصة السبّاقة التي رفعت راية الحرية والتحرر من الاحتلال، الطغيان، والاستبداد، لمعت أسماؤهم في سماوات القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ومطلع القرن العشرين.
هؤلاء كانوا اللبنة الأولى في عمارة الاستقلال، وأرسوا مداميك ثلاثة شكّلت القناطر المعقودة المتكاتفة لـبيتنا المسقوف بالغزّار. ويا ما تربّى فيه رؤوس كبار!
المدماك الأول، صنعه المقال الثوري على صدر صحيفة كانت تتنقل متنكرة من جَيب سروال دهري، إلى عبّ امرأة منتصبة القامة، إلى قنباز شيخ مسنّ، حيث تتحلّق الجماعة حول القارىء في ردهة قبو عتيق، أو تحت سنديانة غضّة، للاستماع والاستمتاع، التصفيق والهوبرة، وإطلاق العنان للألسن بهدف نقل المضمون والمحتوى إلى أوسع مدى ممكن لاستنفار الهمم، وشدّ العصب الوطني، وتعميم الصحوة الوطنية وسط العامة من الناس.
المدماك الثاني: يقظة الوعي الوطني، في كل بلدة، قرية، ودسكرة، وانتظام اللجان الأهلية، ولو وفق أطر ضيّقة لتعميم الثقافة الشعبية الرافضة للأمر الواقع، قبل أن يتطور المشهد نحو استحداث الجمعيات السرّية في جبل لبنان ومصر، والتي أطلقت الدينامية النضالية على أسس برامج عمل، وآليات تنظيم، وتواصل، ونجحت إلى حد بعيد في توشيح نشاطاتها بملاءات أدبية ثقافية. وربما عبّر شاعر العصر آنذاك حافظ إبراهيم، عن مشهدية تلك الحقبة الفوّارة بقصيدةٍ طويلة مطلعها:
لمصر أم لربوع الشام تنتسب   
هنا العلا وهناك المجد والحسب.
المدماك الثالث: عربونه الدم المقدس عند أبواب الحرية. ففي السنوات المتقدمة من تلك الحقبة بدأ القاني ينزف ويُسال بديلًا عن الحبر، والأحرار يسقطون في ساحات النضال، وارتفعت أعواد المشانق...
 

الرواية الثانية
هي تلك التي أشرق النور على أبطالها في 22 تشرين الثاني 1943، رواية نضال واستقلال حُفرت في كتب التاريخ، وعلّمت الطلاب الصغار والكبار البأس والشجاعة، والتّوق إلى الحرية، والحاجة الملحة إلى الاستقلالية، يومها ولدت دولة من دهاليز الاعتقالات، بعد مخاض عسير للتخلص من الانتداب.
وللتأكيد، حيث يفترض وضع الحقيقة في نصابها، أعلن استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943، ولم يكتمل إلا بانسحاب القوّات الفرنسية من لبنان في 31 كانون الأول 1946.
وفي الرواية أيضًا أنّه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أعلن الشريف حسين بن علي قيام الدولة العربية التي تضم البلاد العربية المحرّرة من العثمانيين كلها. وبحسب اتفاقية حسين - مكماهون، المنطقة التي تضم لبنان الحالي يجب أن تتبع المملكة العربية الجديدة. وفي هذا الوقت تحديدًا انتُدبت فرنسا لحكم لبنان وفق اتفاقية سايكس – بيكو، وطُلب من شعوب المنطقة أن يحدد كل منها مصيره. وأمام هذه الحالة انقسم اللبنانيون بين فريق يطالب بتأسيس دولة مستقلة بحماية فرنسية، وآخر يطالب بأن يكون هذا الكيان ملحقًا بالدولة العربية التي لم تكن قد اتّضحت معالمها النهائية في تلك الحقبة.

 

الميثاق الوطني اللبناني
بعد مخاض، تبلورت صيغة رياض الصلح - بشارة الخوري والتي عُرِفت بالميثاق الوطني اللبناني، الذي يقوم على المعادلة الآتية: من أجل بلوغ الاستقلال على الكيانيين أن يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، مقابل تنازل الوحدويين عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري – العربي.

 

المسرح.. والأدوار.. والأبطال
مع بداية الحرب العالمية الثانية ، وبعد أن سيطرت فرنسا على المراكز الحسّاسة في البلاد، طالبت الحكومة اللبنانية سنة 1943 المفوضية الفرنسية بتعديل الدستور بما ينسجم مع الأوضاع، وذلك بدعمٍ من البريطانيين الذين حكموا فلسطين، الأردن، والعراق. وفي 21 أيلول من السنة عينها، فاز بشارة الخوري في الانتخابات وأصبح رئيسًا للجمهورية، وألّف حكومته مع رياض الصلح، وأعلنوا الاستقلال التام، وحوِّل مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي. اعتُبر هذا القرار تحدًّيا سافًرا  للمفوض السامي الفرنسي، الذي علّق الدستور، وارسل ضباطًا لاعتقال رئيس الجمهورية مع رئيس وزرائه وبعض الوزراء، والزعماء الوطنيين، أمثال عادل عسيران، كميل شمعون، عبد الحميد كرامي، وسليم تقلا، واحتجزوهم في قلعة راشيا. عندها قام وزير الدفاع الوطني آنذاك الأمير مجيد أرسلان، ورئيس مجلس النواب صبري حماده ، والوزير حبيب أبو شهلا بعقد اجتماع بشامون، وألّفوا حكومة مؤقتة، عرفت بحكومة بشامون، ورفعوا العلم اللبناني الذي تكوّن من ثلاثة أقسام الأحمر، والأبيض تتوسّطه شجرة أرز خضراء، عمّت المظاهرات والمسيرات المدن والأرياف ما أدى أخيرًا إلى الإفراج عن المحتجزين وإعلان استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني من العام 1943.

 

الرواية الثالثة
بدأت نسائم الاستقلال  تلفح السهل والجبل، وتتغلغل في الصدور والأفئدة، وتنشّط الدورة الدموية عند اللبنانيين مع توافر المزيد من أوكسيجين الحرية، فيما انصرف المسؤولون إلى تدعيم ركائزه ومستلزماته، عن طريق الانفتاح، ومدّ جسور الصداقات باتجاه الدول الشقيقة، والبحث عن دول صديقة، والمساهمة الفاعلة في تأسيــس هيئــة الأمــم المتحــدة سنــة 1945، والمـشــاركــة الـجـدّيــة في صـيـاغــة مـيـثـاقـهـا، وتأسـيـس جـامـعة الــدول العربيــة في العــام 1947 ووضع ميثاقها.
إلا أنّ البهجــة لــم تكتمــل، ولــم تحقــق النفوس الأبيّــة مبتغاهــا في وطــن الحريــة، ودولــة الاستقــلال، إذ دهمــت نكبة فلسطين المكان، وبدّدت الأفكار الوردية، وبعثرت المواعيد المدرجة على لوحة الاهتمامات، وقلبت الأولويات رأسًا على عقب.
والحقيقة، لقد أُصيب هذا الاستقلال الطري العود يومها بجرحٍ كبير لا تزال تعتمل قروحه حتى يومنا هذا. كانت المواجهة الأولى بين أهل الشــأن عنــد الأسيــاد، وفي صفوف العباد: «هل ننأى بالنفس، أم نشارك بالمصاب الجلل؟ انتصر الخيار العاطفي – الوجداني على نزعة الحياد، وفُتحت الحدود والأبواب أمام تدفقات اللاجئين الفلسطينيين، ليحلّوا على الرحب والسعة لفترة لا تتعدى الأشهر القليلة. وإذ بالقليلة تمتد، وتتمدد لعقودٍ طويلة من الزمن، ليتحول ما هو مؤقت إلى دائم، وما هو إنساني – قومي، إلى عبء وجودي مصيري.
أطلّت بوادر النكبة مع مطلع العام 1948، وكانت مضارب الإيواء لم تكتمل لا عدّة، وعددًا، ولا أمكنة عندما هبّت عاصفة هوجاء من بلاد النيل الدافق باتجاه ربوع لبنان، حاملة معها لواء القومية بمفاهيمها الناصرية وتلقّفها بعض الشارع اللبناني، على اعتبار أنّ القومية يجب أن تتقدم على الوطنية واللبنانية، انتصارًا للقضايا العربية المحقّة. التفاوت في المواقف بين الولاء للبنان أولًا، أو للعروبة وقضاياها أولًا، كانت نتيجته ثورة 1958.
انتهت ثورة 1958 على زغل كبير، وانطلق السؤال المحوري الفاضح: كيف نبني دولة الاستقلال في ظل المدّ العاصف الذي يجتاح المكان كل سنوات. 1948 نكبة فلسطين. 1958 الثورة المعروفة بعناوينها وأدبياتها السياسية، ومن بعدها الثورة الفلسطينية التي خطفت الوطن، وأخذته إلى فتح لاند، والعرقوب في الجنوب، ثم إلى اتفاق القاهرة والحرب الأهلية أو حرب الآخرين على أرض لبنان؟ نزف لبنان على مدى 17 عامًا ونيّف قبل الوصول إلى اتفاق الطائف، وما قدّمه من مراهم وعقاقير لتضميد الجراح الساخنة، وطيّ الصفحة الأليمة.

 

ولم تكتمل فصولًا بعد...
ماذا الآن؟ هل اكتملت فصول الرواية؟ ليس بعد!
احتفل لبنان بالذكرى الـ75 للاستقلال، وهو لم يتمكّن بعد من بناء الدولة القوية، القادرة، والعادلة، ووطن الفرادة والتنوع الذي يليق بلبنان الرسالة.
يُبحر الوطن في الذكرى الـ75 للاستقلال وسط بحر هائج، تتقاذف سفينته عدة عاتيات.
• أولًا: أزمة الولاء التي تجعلنا ننفق من حساب الوطن، ونستهلك من رصيد المواطنية، لسدّ نهم قديم لم تسدّ جوعه صيغة بشارة الخوري - رياض الصلح.
• ثانيًا: أزمة الانتماء، أو التحزّب المذهبي على حساب الانتماء الوطني، وعندما يكون الولاء أولًا لطائفة أو لزعيم المجموعة أو لفئة ما، ثم الوطن ثانيًا، فهذا يعني وجود انفصام خطير وكبير في الشخصية الوطنية.
• ثالثًا: الفساد. ليس سهلًا هذا الأخطبوط المتسلّط، المتمكّن، المتجذّر، والذي يبسط أذرعه في كل الأمكنة، وعلى مختلف المستويات، ومنذ عقود طويلة من الزمن، وربما منذ ما قبل الاستقلال.
• رابعًا: التغيير الديموغرافي، فلبنان وطن الأقليات، يواجه بعد مرور 75 سنة على الاستقلال، خطرَيْن محدقَيْن: التوطين، والدمج. التوطين، إذا لم يتأمّن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في سياق الحل الذي تسعى إليه بعض الدول المقتدرة. والدمج، إذا ما أصرّت الدول المانحة على دمج النازحين السوريين في المجتمع اللبناني، مقابل المساعدات، والدعم المالي... وإذا لم تنبرِ الوحدة الوطنية اللبنانية إلى الدفاع عن الوطن الذي بناه الأوائل بالدماء والتضحيات فإنّ الآتي أعظم.
هل يجوز بعد 75 سنة من الاستقلال، أن تستمر سفينة الوطن متأرجحة وسط بحر من الأنواء والأعاصير، تحاصرها مجموعة من التحديات التي تحاكي المستقبل والمصير، والتي يعبّر عنها حاليًا بسؤالٍ معلّب: أي دور سيُترك لهذا اللبنان مع ترسيم خرائط الشرق الأوسط الجديد والواسع؟!