ناس وقضايا

تجارب في ظل كورونا

غيّرت أزمة كورونا حياة عشرات الملايين من البشر في مختلف أنحاء العالم. الحجر الصحي وملازمة المنزل بدّل أنماط الحياة بشكلٍ جذري، فعاش الكبار والصغار تجارب لم يختبروها من قبل. سوف يعود الناس إلى أعمالهم والأولاد إلى مدارسهم، سنعلق مجددًا ساعات في الازدحام، وسنشتاق إلى أمور مللنا منها خلال الأسابيع الماضية، لكن في كل الأحوال لن تعود الحياة كما كانت. تجربة كورونا ستكون لها آثار عميقة وطويلة الأمد في حياتنا.

 

في ما يلي مجموعة شهادات لأشخاصٍ في مواقع مختلفة، يقرأون في يوميات الحجر الصحي وانعكاساته على حياتهم. ثمة من يركّز على الجانب المهني، بينما يركّز آخرون على العلاقات العائلية وما شهدته من تغيرات، وأيضُا هناك من يسجل وقائع عودته إلى الطبيعة أو المطبخ وأمورًا أخرى أدرك فجأة أهميتها...

 

ليت من يجيب

هنريات البستاني أستاذة في صفوف الشهادة الرسمية للبكالوريا اللبنانية بفروعها كافة، تعود إلى كتبها ودفاترها فتشرح تفاصيل معاناة وتطرح الكثير من الأسئلة، وتقول:

لقد دأبت العادة في توصيف الأستاذ – المُربّي على أن ترفعه إلى مصاف الرسل المختارين، في ما يتصل بالأمانة والتفاني في خدمة الرسالة التي ارتضاها طوعًا واختيارًا، بل إيمانًا منه بوجوب السهر على تنشئة أجيال المستقبل والنهوض بها إلى أسمى المراتب.

تلك هي مهمّته الرئيسة التي طالما أراق العمر في رفع لوائها عن جدارة واقتدار.

تلك كانت الصورة النمطية للأستاذ، إلّا أنّه يؤسفنا اليوم الإقرار بخُبو بريقها في «زمن الكورونا». فصاحبنا الذي غفا بالأمس على كَم هائل من الفروض المُصحَّحة استنزفت منه القوى الفكرية والجسدية، إذ به يصحو في الغد على خبر صادِم لم يكن في الحسبان، عنوانه الحَجْر الصحي.

أبهذه السهولة تنقلب المقاييس والاعتبارات جميعها رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها؟

وهذا الإنسان المستشرف للأمور بُغية تجهيز العدّة المناسبة لها، كيف يؤخذ على حين غرّة... كيف له أن يتدبّر أمره حيال هذا الطارئ غير المرغوب؟

في الواقع، أسئلة جمّة فرضت نفسها عليه دُفعة واحدة وملخّصها الآتي:

• هل يُلقي السلاح؟

• هل سيُصاب كمعظمهم بالإحباط؟

• هل من سبيل للتعاطي مع واقعٍ أقل ما يقال فيه: أنّ حُلوه مُرٌّ؟

لا وألف لا للاستسلام! لفظة معجمه منها براء، هو لم يعتَد على التراجع أمام العقبات وما أكثرها في دربه! أليس هو نفسه مَن ردد طويلًا على مسمع طلابه حكمته الأثيرة: «المصيبة التي لا تقتلك تجعلك أشد صلابة»؟

على الرغم من هذا التيار الجارف لم تغرب عن باله تلك اللُحمة الوثيقة العُرى القائمة بينه وبين طلابه، وقد شكّل فيها الطرفان وحدة متماسكة تعود بالفائدة على فُرَقاء العمل كافة.

لذا وجدناه يُعِدُّ العدّة بالمُتاحِ أمامه من فُرص كي ينزل الى الساح بعزمٍ لا يلين وسط الكثير من العوائق والتحديات... آملًا في أن تُكلَّل جهوده بالنجاح ولا يعود من «معركته المستجدّة» صفر اليدين خاوي الوِفاض.

وإذ به يُجنّد ما في وسعه من طاقة وإرادة راسخة ويُبادِر من دون تردد إلى استخدام طرقٍ مختلقة لم يسبق له اعتمادها من قبل: كالتدريس عن بُعد والتأقلم مع مواقع التواصل على اختلافها وتنوّعها، علّه يحظى بالمنصة الإلكترونية الأجدى لإيصال المعلومات. وهو رغم إدراكه لقصور العالم الافتراضي عن ردم الهُوة الناتجة عن الإغلاق القسري لأبواب المعاهد والمؤسسات التربوية، يعتمده كصلة وصل بينه وطلابه، أو كتعويضٍ جزئي ومرحلي عن الدراسة التقليدية، ريثما تنفرج الضائقة وتعود الأمور إلى سالف عهدها. لكن للأسف: «حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر»، فقد انهالت عليه الانتقادات غير المُبَرّرة غالبًا، ومن كل حدب وصوب.

 

معاناة

وعليه نسأل: هل فاتَ الذين انهالوا عليه باللوم من دون وجه حق، أو أنّه كأي امرئ، يخضع لواقعه الراهن بسلبياته وإيجابياته؟ ألم يكن أجدى بهم تفهّم معاناته التي لا تقل ربما عن معاناتهم إن لم تفقها في بعض الأحيان؟

نلفت انتباه اللائمين الكرام إلى وجوب تقييم الإيجابيات الكثيرة التى حصّلها أبناؤهم على يديه (وإن بصورةٍ غير مباشرة) خلال فترة الحجر الإلزامي، ونذكر منها مثلًا لا حصرًا ما يأتي:

• اعتمادهم (أي الطلاب) على الجهد الفردي في عملية البحث والتنقيب عن المعلومة الوافية... وهو ما يُكسبهم مهارة لا تُنكَر مفاعيلها لاحقًا خلال مسيرتهم الجامعية.

• تعويدهم على تنويع المصادر والمناهل المعرفية واستقاء الخبر اليقين من مراجعه الثبوتية، ما يعزّز لديهم الاستقلالية في عملية إثراء المخزون الثقافي.

• تمتين قدراتهم الذاتية على تحمّل المسؤولية وتخطّي الصعاب أيًا كان نوعها.

• إعادة تنشيط ذاكرتهم عبر استرجاع ما تم تحصيله قبل فترة الحجر بُغية ترسيخه في ذهنهم بصورةٍ مُثلى.

أوَ ليست هذه وحدها بكافيةٍ للكفّ عن تغريم الأستاذ بما لا يستأهل؟

وعلى الرغم من ذلك، وانطلاقًا من موضوعيته، بدا الأستاذ عاذِرًا، ومتفهَّمًا لانتقادات البعض إذا أتت مبنية على وقائع ملموسة يُشاطرهم هو نفسه الرأي فيها، وملَخّصها الآتي:

• عدم تكافؤ الفرَص أمام الطلّاب جميعًا للحصول على المعلومات بالوتيرة المُتاحة لبعض أقرانهم.

• الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي وما يترتّب عنه من ذيول.

• انقطاع الإنترنت أو ضعفه ما ينجم عنه التأخر عن مُجاراة الفريق الآخر الجاهز لحضور جلسة التعلّم عن بُعد.

• عدم إمكان الحصول على أكثر من جهاز واحد للمعلوماتية داخل بعض الأسر غير الميسورة (ما يُعوق عمل المجموعة).

أجل! تلك هي مُسَلَّمات لا يُنكرها أحد...لكن ما شأن الأستاذ بها كي يتحمّل وحده الوزر والتبعات؟

• ألا تكفيه معاناته الراهنة والمُضافة إلى الكثير من سابقاتها؟

• ألم يكفه تغيير معايير نشاطه الفكري وفق الحيثيات المستجدّة؟

• ألم يَشُقُّ عليه التعديل المتواصل لأولويّاته وتطويعها الدائم كي تتلاءم مع كل مُعطى جديد؟

• ألم يُضاعف فترات الإعداد لحصص التدريس عن بُعد ما يقتضي منه أحيانًا سحابة نهاره، لا سيّما إذا كان مسؤولًا عن تأمين مناهج صفوف الشهادات الرسمية في مراحلها المتنوعة.

• ألم يثقل عليه التتبع الدائم للمنصات الإلكترونية المتعددة بغية استقاء الفائدة المرجوّة لطلابه؟

• ألم يرهقه العمل على إعادة تنظيم ملفّاته وفرزها لاختيار الأهم والأنسب لتلك المرحلة تحديدًا، بما يُسهّل عملية الاستيعاب لدى الطلاب، ويحول من دون إرهاقهم؟

• ألم يساوره القلق من جراء تخلّف بعضهم عن متابعة جلساته المقررة مسبقًا؟

• ألم يستحوذ رفع التقارير الدوريّة لجانب إدارة مدرسته حول تقييم سير العمل عن بُعد على المزيد من وقته؟

حُكمًا هو مدرك تمامًا بأن العالم الافتراضي لا ينهض بديلًا عن الحضور الفعلي للطالب على مقاعد الدراسة أو التلقين المباشر، لكنّه يعلم أيضًا أن «إضاءة شمعة خير من لَعن الظلام».

أما قاصمة الظهر في هذا الباب فنراها تتجلّى حين يتعلّق الأمر بالأستاذة المربية التي هي في آن أم وربة منزل، ما يُرتب عليها أعباء إضافية، ليس أقلّها مواكبة أولادها القاصرين في عملية التعلم عن بُعد وإعداد الطعام وتنظيف المنزل في غياب العاملة الأجنبية وتسيير الأمور اليومية المُلحّة وتوضيب الحاجيات..... إلى ما هنالك مما يستنزف منها كل طاقة على تحمّل المزيد... وفوق ذلك، هي مُطالَبة بالتحلّي بالصبر وطول الأناة، والسعي الدائم لإرضاء الأطراف كلها من أقربين وأبعدين، وعدم الرد على منتقديها الذين ينهالون عليها بالتجريح... وعليها أيضًا الامتناع عن التذمّر حتى لو تعرّض راتبها الشهري للاقتطاع الجزئي أو ربما للتبخّر الكُلي.

الصمت ثم الصمت!

وتُرانا نتساءل عمّا إذا كانت تلك الاعتبارات السلبية قد باتت معيارًا لتقويم الرسالة التربوية الراهنة ؟

في حال أتى الرد بالإيجاب... يا لَلثمن الباهظ الذي سوف يدفعه الأستاذ-المربّي صونًا لكرامته وحفاظًا على ماء وجهه!

في الختام، نستلهم روح أمير الشعراء أحمد شوقي كي نسأل:

هل ما زالت مقولته الشهيرة: «قم للمعلّم وفّه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا» صالحة في زمن الكورونا؟

ليتَ مَن يُجيب!

 

الحياة أبسط وأجمل وأنبل مما خبرناها

باسكال فرنجية إعلامية ومصرفية استفادت من تجربة ملازمة المنزل بعيدًا من ضغط العمل. استعادت زمنًا جميلًا فيه عبق الطفولة ورائحة كتب على الرفوف ومشاوير في الطبيعة وباقات أعشاب برية. تروي تجربتها قائلة:

قد تكون أيام كورونا فعلت فعلها فيّ. فقد أخذتني إلى الزمن الجميل، إلى مربع الطفولة، وعادات زمان. فقد اهتممت بترتيب أمور كثيرة في بيتي، أهمها مكتبتي وأرشيفي، فوقعت على ملفات ومقالات وصور ومواقف تؤرخ لفترةٍ جميلة من تاريخ لبنان السياسي. فرحت بها لأنها زادي من مرحلة كنت شاهدة عليها وعاملة في الخطوط الخلفية لها. ومن أرشيفي إلى كتبي ومكتبة أخي، أفرغ عن رفوفها كتبًا راقت لي عناوينها، وأنكب أقرأ بعضها، وأعد نفسي بالمزيد المشتهى منها. فـ«أغرق» في مكان آخر، أبعدتني عنه حياة العمل، والتنقل الأسبوعي، والابتعاد الإلزامي عن البيت. فالمرحلة هي لالتقاط الأنفاس والهدوء، التي نملك ترتيب أوقاتها وفق أهوائنا، لا كما يبرمجها العمل، ويمليها علينا المجتمع. ومن دون أن أقرر، أستعيد ترتيب خياراتي وأفكاري التي تحتاج هي أيضًا لإعادة نظر وتنظيم من وقت لآخر. تقفز إلى المرتبة الأولى خيارات كنت اعتقدت أنها أضحت بالية، ولا مكان لها في مجتمع اليوم. تتقدم أفكاري «القديمة»  في نظر كثيرين، والتي حملتها بتحدٍ دائم لأنني اعتبرتها  هي الأصيلة، لتحتل معظم تفكيري. الزمن هو اليوم زمن الـ«ما في شي بيحرز»، و«المهم نبقى طيبين». فمن  يتخطى تجارب الحياة القاسية، يعرف أنّ «يلي بيحرز» في هذه الحياة هو عيش قيم البساطة، التواضع، الخدمة والأهم المحبة، والباقي يُعطى لنا ويُزاد. يكفي التأمل في قضية الموت في زمن كورونا، لنتأكد أن الحياة أبسط مما عشناها، وأنبل مما رأيناها، وأجمل مما خبرناها.

ولذلك أرتمي بكل جوارحي في أحضان طبيعتي، فأختار أن أتمشى يوميًا بين حقول الزيتون المجاورة، أفتش عن «الهليون» بين أكوام الشوك، أقطف الأعشاب البرية، ألملم ورق العرائش  من الكروم. ويسعدني أن أراقب أخي يزرع و«ينقّب» أرضنا، تدفعني حشريتي إلى الاستفسار عن الزراعات والمواسم، وأفرح كثيرًا بالقطاف المتواضع للأصناف التي نضجت، وأنتظر الموسم الآتي بفارغ الصبر. وهكذا أمضي أوقاتًا  لا تعوّض مسحورة بطبيعتي، أتأمل، أصلي، وأغرف منها طاقة إيجابية، حبًا، دفئًا وأصالة افتقدتها عند كثيرين من المحيطين بي. فأبتعد فرحة عن كل ما يمكن أن يعكّر صفو هذه الأيام التي أعرف أنها لن تتكرر. صخب الحياة، وضروراتها أبعداني مرغمة عن عائلتي الصغيرة، عن عاداتي الجميلة، عن حياتي الهادئة. فانجرفت في حياة المدينة ونمطها السريع، مع ناسها «المتمدنين» ولم أستوعب يومًا أنني أستطيع العيش بعيدة عنها. ولكن كورونا أعادت لي هذه الفرصة، فتلقّفتها كطفلٍ يعود إلى حضن أمه، ويُلقي نفسه بين يديها مستسلمًا لطمأنينةٍ لطالما حلم بها.

 

عرفت معنى الهدوء والراحة

مارييت يونس جاموس معدة ومقدمة برامج لا تريد أن ينتهي حلم ملازمة المنزل، وهي تؤكد أنها لم تكن تعلم أنّها في يوم من الأيام ستشتاق للتفاصيل الصغيرة والبسيطة التي لم تُعِرها أي أهمية في حياتها.

وتوضح: «لم أكن أعلم أنني سأقفل بابي وأجلس في منزلي مع عائلتي لمدة غير معروفة، أتابع نشرات الأخبار، أنتظر أي تحليل، وأتمنى أن أكون في حلم على أمل أن يرن هاتفي وأستيقظ. 

ولكن هل فعلًا أريد أن ينتهي الحلم؟ في الواقع كورونا جعلني أستمتع بجلساتٍ عائلية طويلة لم أكن أحلم بها. أصبحنا نجتمع معًا كل مساء للصلاة، نطلب من العذراء أن تقينا شر الوباء مع أمنيات شخصية طبعًا... تعلّم أولادي أن يلعبوا معنا الورق (في الواقع أنا وزوجي اخترعنا لعبة جديدة للتسلية) فلم يعودوا يقبلوا التوجه إلى السرير قبل المبارزة، الصبي مع أبيه ضدي أنا وابنتي. 

كورونا جعلني أحضر أشهى الأطباق علمًا أنني من محبي المطبخ، ولكن قررت أن أزيد مهاراتي قليلًا، فبدأت بتحضير وصفات غربية غريبة، وبت أنافس أهم الطهاة  لدرجة أنّ أولادي قالوا لي: يجب أن تشاركي في «توب شيف» وستحصلين على المركز الأول. 

حياتي كانت صاخبة لا أعرف ليلها من نهارها أصدقائي يطلقون علي لقب «إم عجقة» كوني لا أعرف الهدوء أو الراحة. هنا لا بد أن أشكر كورونا لأنه جعلني أتنفس بعمقٍ ولأول مـرة منـذ عقد من دون الحاجة إلى توتر إعداد الحلقات أو التحضيـر للبـث المباشـر أو الخـوف مـن مسؤوليـة العمـل. 

لذا كان لا بد لي أن أستفيد من وقتي الثمين الجديد، فقررت أن أمارس الرياضة، الأمر الذي لم أحبه يومًا ولكن أردت أن أغير نمط حياتي للاستفادة من الفرصة التي منحني إياها هذا الوباء، فأجبرت نفسي على البدء بربع ساعة يوميًا إلى أن أصبحت مدمنة على ساعة رياضة منزلية يوميًا. نعم أنا متفاجئة من نفسي ولكن لم لا؟ فالإنسان يستطيع أن يتأقلم مع كل الظروف ويحوّل البشاعة إلى جمال، ويستفيد من كل حدث مهما بدا سوداويًا أو رماديًا. 

في الختام توجّه نصيحة: حاربوا خوفكم من كورونا بخطةٍ محكمة تهزمونه بها وتجعلكم فخورين بنتائجها».

 

لم أتخيل أبدًا...

جورج عيد مدير مبيعات في شركة يعتبر أنّ العمل من المنزل فكرة جميلة وجيدة، مع ذلك فالأمر ليس سهلًا لمن تعوّد نمطًا آخر من العمل. وهو يقول:

بعد أكثر من ٢٠ عامًا من الخبرة في مجال المبيعات في لبنان والخارج، ومع كل الصعوبات التي واجهتها، لم أتخيل أبدًا أنني سأعيش أيامًا كهذه.

 لطالما كان العمل من المنزل فكرة جميلة وجيدة بالنسبة إلى أي شخص، إنما ليس بهذه الطريقة، بخاصةٍ بالنسبة إلى رجل مثلي اعتاد على العمل الميداني في السوق.

 ربما كانت تمضية المزيد من الوقت مع الأطفـال والأسـرة الجانب الأكثـر إيجابيـة من العمل انطلاقًا من المنزل، والعودة إلى ألعاب الأطفـال والمشـاركة في ألعاب بدائية وتذكّر بعض الأمور التي كنا نفعلهـا خلال طفولتنـا، واكتشـاف العديد من الأشيـاء والمهـارات التي كنت أتمتع بهـا في طفولتي ولم ألاحظها من قبل. هذه التجربة سمحت لي بأن أقدّر الروابـط العائليـة والوقـت الـذي نمضيـه معًـا.

 لكن وظيفتي لا يمكن أن تنتظر، لدي مسؤوليات كبيرة، وأترأس فريق عمل أتابع عمله وأراقبه، وثمة سوق يجب أن أزوّده الإمدادات، وبخاصةٍ الصيدليات. اضطررت إلى أن أقسم أسابيعي إلى نصفَين وعملت نصف أسبوع من المكتب مع كل المخاطر التي تحمّلتها من جراء ذلك، في كل يوم. كنت مجبرًا على تغيير ملابسي في الخارج، خشية إصابتي بالعدوى. ومع اتخاذي تدابير السلامة كلها كنت أشعر بشكلٍ يومي أنني قد أصاب بالفيروس وأنقله إلى عائلتي.

 لقد تغيرت كل الاستراتيجيات المخطط لها، وكان علينا العمل بشكلٍ سريع لتخطي الصعوبات الاقتصادية والقواعد اللوجستية الخاصة جميعها.

 هذا الأمر بالغ الصعوبة من النواحي العقلية والجسدية، وآمل ألا يستمر، لكن أعتقد أننا يجب أن نتكيف مع الواقع وأن نستعد لتغييرٍ كبير.

 

بفرحٍ ورضا

رين ضاهر هي أيضًا مدرّسة، ملازمة المنزل حتّمت عليها مواجهة مصاعب في العمل عن بُعد، لكنها في المقابل منحتها فرصًا إيجابية أبرزها تمضية وقت أطول مع العائلة.

مصائب قوم عند قوم فوائد، هذه أول فكرة راودتها عند إقرار التعبئة العامة بسبب انتشار فيروس كورونا. غير أن  الحياة لا بد أن تستمر، المصانع والمعامل والكثير من الشركات واصلت عملها  مع اتخاذ سبل الوقاية، بينما اضطرت بعض القطاعات ومن بينها التعليم للعمل عن بُعد.

بالنسبة إليها كان في التعليم عن بُعد بعض الغرابة بداية، ذلك أنه يستوجب التدرب على كيفية التدريس إلكترونيًا. التجربة تختلف عن الوقوف أمام  الطلاب والتفاعل المباشر معهم. أستيقظ باكرًا، أنجز واجباتي المنزلية ثم أمضي ساعات في العمل. أسهر لساعاتٍ طويلة من أجل التنسيق مع زميلاتي وتسجيل الدروس لإرسالها في وقت محدد للطلاب. من جهة أخرى أصبح التواصل مع المعلم غير محدد بدوامٍ معين، ما يتطلب مجهودًا ووقتًا أطول.

كان من الصعب طلب المساعدة من أحد الأقارب أو الأهل، لأنهم أيضًا ملتزمون منازلهم ويفضلون عدم الاختلاط. زوجي منشغل بعمله وكلانا غير قادر على الاهتمام بإبننا وعمره عام، «لذلك كان علينا استغلال الوقت المناسب كالليل، أو تقسيم الأعمال بيننا. لكن  رغم هذه الصعوبات ورغم الرعب المسيطر علينا بسبب الوباء والأزمات المادية، إلا أن البقاء في المنزل أتاح لنا فرصة  التركيز على الواجبات الأسرية وقضاء وقت أطول مع أطفالنا وأزواجنا. كان هذا الأمر مستحيلًا حتى وقت قريب، فلم نكن نلتقي لكثرة انشغالاتنا الخارجية  والانهماك المتواصل في العمل».

تتابع رين رواية تجربتها: «رغم قلقي من هذا الفيروس وخطورته، أشعر بالاطمئنان لوجودي إلى جانب زوجي وإبني طوال الوقت من دون الاضطرار للذهاب باكرًا إلى عملي كمدرّسةٍ، وإضاعة الوقت على الطرقات بسبب زحمة السير في الصباح وبعد الظهر».

أخيرًا تخلص إلى القول:

«ما دمنا سنبقى في المنزل في كل الأحوال فلنتخذ القرار بتمضية هذا الوقت برضا وسلام. ولنتعاطى مع الأمر بوعيٍ ونضوج ونغتنم متعة ذلك بفرحٍ ورضا».

 

سنعوّض ما خسرناه

تييري طحّان تلميذ في صف البريفيه في مدرسة الكرمل - القديس يوسف، المشرف. اختبر خلال فترة الحجر المنزلي الإلزامي حسنات هذا التدبير وسيئاته. ومن أبرز تلك الحسنات برأيه الجلوس مع العائلة وتبـادل الأحاديـث والهمـوم والمشكلات.

أتاح البقاء في المنزل لتييري أن يتعرف أكثر إلى ما يعترض والده من صعوبات لتأمين تعليمه. في الأحوال العادية يكون منكبًا على دروسه حتى أوقات متأخرة من الليل، في حين أن والديه يهتمان بأعمالهما، وبالتالي فهو لا يجالسهما إلا نادرًا وفي فترات العطل المدرسية. أيضًا من إيجابيات الحجر المنزلي بنظره الحد من انتشار وباء كورونا وتفشّيه. أما سيئاته فهي عديدة وأبرزها كما يقول: «جلوسي لوقتٍ طويل أمام الكمبيوتر لممارسة الألعاب الإلكترونية واستعمال الهاتف المحمول، وهذا ما يؤذي النظر ويسبّب أوجاعًا في الظهر والجسم عامة.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ التعلم عن بُعد لم يحقق النتائج المرجوّة منه، لأن معظم التلامذة لم يتمكنوا من الاستيعاب وكثيرون منهم لم يشاركوا في هذه العملية. التعلّم في الصف يسمح بالتفاعل بين التلامذة والمعلمين والمعلمات ويشارك به معظم التلامذة.

الأكثر ضررًا في الحجر المنزلي هو الآثار المدمرة على الاقتصاد الوطني والعالمي على حدّ سواء، فمعظم المؤسسات الإنتاجية أقفلت أبوابها، وتشرّد العمال والموظفون وأصبحوا من دون مورد رزق يعانون الفقر والجوع.

ومن سيئات الحجر المنزلي عدم التعرّض للشمس والإكثار من تناول الطعام وعدم ممارسة الرياضة مما يسبب البدانة والأمراض الخطيرة.

أما بالنسبة للامتحانات الرسمية، فكنت أفضل عدم إلغائها لأنها اختبار مميّز للتلامذة خصوصًا من هم في مثل سني يقول تييري، وهو يضيف: الخوف من انتشار الوباء نتيجة الاختلاط فرض إلغاء هذه الامتحانات، وأنا أرجو أن تمر هذه الفترة العصيبة على الوطن ورفاق الصف بأقل ما يمكن من أضرار، فنعود إلى مدارسنا ونعوّض في السنة القادمة ما خسرناه هذه السنة».