العمل عن بعد

تجربة بإيجابيات كثيرة

من تداعيات أزمة كورونا في العالم اعتماد العمل عن بعد في الكثير من القطاعات، لكن هذا الواقع لن ينتهي مع انحسار الوباء، فثمة اتجاه لدى الكثير من المؤسسات التي اختبرت هذه التجربة إلى اعتمادها بشكل دائم، إذ تبيّن لها أنّ إيجابياتها كثيرة.

وكالة TBWA\RAAD للإعلان واحدة من المؤسسات التي دخلت مسار العمل عن بعد بكثيرٍ من الاندفاع والإصرار على النجاح، وقد حافظ موظفوها على روح الفريق الواحد، فانعكست طاقتهم الإيجابية على إنتاجهم الذي لاقى نجاحًا مميزًا، وتصدّر عناوين صحفٍ أجنبية نوّهت بمستوى الإبداع والخلق الذي تتميز به أعمال الوكالة.

 

النجاح الذي لاقته الوكالة في العمل عن بعد لم يكن وليد الصدفة، بل كان ثمرة جهودٍ فردية وجماعية، ونتاج عملٍ منظّم ضمن فريقٍ متجانس، يؤدي أعضاؤه وظائفهم ضمن خطّة عملٍ ممنهجة.

عن هذه الخطة وكيفية سير العمل فيها، يتحدث السيد رمزي رعد رئيس مجلس إدارة مجموعة TBWA\RAAD مشيرًا إلى أنّه في بداية الأسبوع الأوّل من العمل عن بعد، نظّمت مجموعة Omnicom Group وهي الشركة الأمّ للوكالة الإعلانيّة TBWA، محاضرة عبر شبكة التّواصل الاجتماعي، من كليّة إدارة الأعمال في جامعة هارفرد، وجّهت خلالها الخبيرة التّي ترأست هذه الجلسة نداءً لجميع الشّابات والشّبان العاملين في وكالات الإعلان التابعة للمجموعة قائلة: «إنّ ما يحصل هذه الأيّام هو اللحظة الحاسمة التّي ستحدّد معالم جيلكم. إنّها أزمتكم أنتم وهي حربكم العالميّة الثالثة. لذلك فإنّ تصرفكم تجاهها سيحددّ معالم المستقبل الذي تريدونه لأنفسكم وللأجيال التي ستأتي من بعدكم. لذلك عليكم أن تُظهروا خلال هذه الأزمة أفضل ما لديكم».

ويضيف أنّه في نهاية الأسبوع الثاني من بدء فريق عمل وكالة TBWA\RAAD للإعلان العمل من المنزل، أرسل المدير التنفيذي للوكالة، نشرة إلكترونية لجميع الموظفين قال فيها: «أنا فخور بكم جميعًا أشدّ الفخر للروح التي تابعتم بها العمل عن بعد، محافظين على روح الفريق الواحد ومتغلّبين على الظروف غير المعتادة التي وجدتم أنفسكم مرغمين على تقبّلها. فالنتائج غير المتوقّعة التّي أنجزتموها في هذه الفترة القصيرة هي مدعاة فخر لإدارتكم، ولعملائنا، كذلك لكل شركائنا في العمل. العزلة التي فُرضت عليكم لم تؤخّر إنجازكم للفيلم الإعلاني لسيارات Nissan بعنوان «خلّيك بالبيت» الذي تصدّر إفتتاحيّة مجلة Ad Age الأميركيّة.

 

رسالة أمل

وقد كتبت المجلة أنّ وكالة TBWA\RAAD وجهت من خلال فيلم Ode for Empty Roads رسالة أمل بغدٍ أفضل لجميع من قاد أو رغب في قيادة سيّاراتها».

ويشير السيد رعد إلى أنّ فريق الإبداع في الوكالة، الذي ما فتئ يعمل عن بعد، قام بإنتاج العديد من الأفلام الإعلانية الرائعة ومن بينها فيلم «مترس ببيتك» للجيش، وفيلم «الصندوق المفقود» للصليب الأحمر اللّبناني. كذلك، قام أعضاء فريق الإبداع والإنتاج التلفزيوني العاملون من منازلهم في لبنان على مساعدة زملائهم في مكاتب الوكالة في دولة الإمارات على إنتاج العديد من الأفلام الدعائية.

ويؤكد رعد أنّ شباب الوكالة وشاباتها وانطلاقًا من قناعتهم بأنّ هذه اللحظات الحاسمة ستحدد معالم الجيل الطالع، قاموا بتحويل التوجّه الإبداعي مع بداية جائحة كورونا، من الترويج المباشر للسلع والخدمات، لخلق رسائل منفعة عامة بلسان الشركات والمؤسسات. وذلك من خلال التذكير بشروط السلامة من الوباء ومساعدة الدولة في جهودها ومؤسساتها للحفاظ على الصحة العامة وإبراز صورة المواطن الصالح.

وفي مقارنة ما بين العمل المكتبي والعمل عن بعد، يوضح السيد رعد أنّ المهمّات الإبداعية الكثيرة التي أنجزت منذ بداية العمل عن بعد، أكّدت أنّ الإبداع لم يتأثّر أبدًا، بل حافظ على مستواه وجودته. ويشير في هذا الإطار، إلى أنّ دائرة شؤون الموظّفين في الوكالة سهرت على الاهتمام بالوضع النفسي لفريق العمل، وبلياقتهم البدنيّة في أثناء وجودهم في الحجر المنزلي، وبعلاقتهم مع بعضهم البعض ومع إدارة الوكالة، مؤكدًا أنّ جهودها لم تذهب سدًى، «فقد نجحنا بذلك عن طريق المباريات التي أجريت من خلال الإنترنت، كمسابقة أجمل زاوية عمل في المنزل، ومسابقة الشّكل الشّخصي الأكثر تغيّرًا من جراء الحجر المنزلي، كذلك عن طريق محاضرات التدريب حول اللياقة الجسدية وكيفيّة التّأقلم مع الضغط النفسي».

من سلبيات العمل عن بعد، وفق السيد رعد أنّ خبرة الأسابيع العشرة أظهرت لنا مدى المعاناة التي يتعرّض لها الآباء والأمهات مع أولادهم الذين ما يزالون على مقاعد الدراسة. فبقاء الأطفال بصورة خاصّة وحتّى الأولاد الأكبر سنًّا في المنازل، يحتّم على الوالدين السهر على تعليمهم وتسليتهم، والسهر على معالجة الاضطرابات النّفسية الناتجة عن عدم لقاء رفقاء الصّف الواحد، والبقاء في بيئة مغلقة يومًا بعد يوم من دون أي أمل في الرجوع إلى المدارس. ولكنّه في المقابل، يؤكد أنّ ظروف العمل عن بعد، كشفت أيضًا وجهها الإيجابي، إذ قرّبت رفقاء العمل من بعضهم البعض وقرّبتنا منهم كما لم نعرف من قبل. فاليوم بات كل فرد من موظفي الوكالة يعرف الجميع من جرّاء التّواصل المستمــرّ طــول النّهــار وحتّى السّاعات المتأخــرة من الليــل عبر Skype وZoom والهاتف. فالكلّ يشارك الجميع بأفراحه وأوجاعه ووحدته وضجره ومشكلاته وأسئلته، وحتى في نوعية المأكولات التي يحبّها. كما يتبادل الجميع المعلومات والخبرات حول مختلف الأمور المعيشية اليومية، كمثل المصادر التي تؤمّن توصيل مساحيق التعقيم وسندويش الشاورما والفلافل إلى المنازل، وحول أي منها يتقبّل الدّفع ببطاقات الائتمان، وأي صيدليّة تؤمّن الأدوية إلى البيوت وأي طبيب يمكن استشارته عبر الهاتف، ومن أين يمكن تأمين إرسال باقات الزهور ومن يبيع المثلّجات الخالية من السّكر!

 

عاداتنا تغيّرت كثيرًا

مما لا شك فيه أنّ تجربة العمل عن بعد غيّرت الكثير من عاداتنا اليومية، يؤكد المدير الإبداعي الإقليمي في شركــة TBWA\RAAD السيد كريكس برباريان مشيرًا إلى أنّ أهم التغييرات الإيجابية بالنسبة إليه هي القدرة على تجنب الإجهاد الصباحي الذي يعانيه قبل وصوله إلى مركز عمله، بالإضافة إلى إمكان البدء بالعمل في توقيت أبكر من السابق، وإنجاز البرنامج المقرر بشكل أسرع وأكثر سلاسة نتيجة عدم إضاعة الوقت صباحًا في الاستعداد والتنقل.

ويشير السيد بربريان إلى الخطوات التي يعتمدها لإنجاح تجربته في العمل عن بعد، وأبرزها التزامه خلال العمل في المنزل مستوى الانضباط نفسه الذي يمارسه في مكتبه، مشيرًا إلى أنّ العمل من المنزل يفرض على كل شخص أن يصبح مديرًا على نفسه، وبالتالي أن يتولى مسألة الجدولة الشخصية لتقسيم نهاره، لأنّ غياب التنظيم قد يُفقد المرء تركيزه بسرعةٍ ويُشعره بالإرهاق. ويضيف: «من أجل التزام الجدول الزمني، أقوم بتقسيم المهمات التي عليّ إنجازها وأضع التوقيت المناسب لها على مدار اليوم، كما أدرج ضمن الجدول الأمور التي يتوجب القيام بها لاحقًا، سواء كان لدي اجتماع عمل أو عطلة أو مهلة نهائية لإنجاز مشروع».

 

الحدود الفاصلة ضرورية

تشير مديرة علاقة العملاء الآنسة ديانا فوّاز إلى أنّ الجدية والمهنية في أثناء العمل من المنزل فرضت انطباعًا إيجابيًا لدى زبائن الشركة وموظفيها، وأتت لتؤكد مدى صحة خياراتها وخبرتها على صعيد حوكمة الاستراتيجيات التي تسهم في تحقيق الإنجازات بصورة مستمرة في أصعب الظروف. وإذ تصف تجربة العمل من المنزل بالجيدة جدًا نسبةً إلى النجاحات المنجزة من قبل الشركة حتى تاريخه، فهي ترى في المقابل أنّ الاستمرار بهذا النمط على المدى البعيد قد يؤدي إلى التفكك وعدم التجانس بين مختلف الأقسام، ما يقتضي تطوير منهجية متكاملة ومقابلة واعتمادها لتفعيل العمل الجماعي عن بعد من خلال زيادة أساليب التواصل بصورة مستمرة للمحافظة على النتائج المطلوبة.

وعن إيجابيات العمل من المنزل، توضح الآنسة فواز أنّه أتاح للموظفين حسن استثمار عامل الوقت بشكل فعال ومنتج بعيدًا من إرهاق المواصلات وكلفتها إن لناحية السفر خارج البلاد أم لناحية التنقل داخليًا، والذي يحدّ من إنتاجية ساعات العمل وكميّتها، وعليه تكون وسائل التواصل الفعالة والمعتمدة من قبل الشركة قد أدت دورًا بارزًا في تقليص المسافات. وتضيف أنّ للعمل من المنزل فوائد على الصعيد الشخصي أيضًا، إذ يسهم بتدعيم الروابط العائلية وامتداد جذورنا بتراب هذا الوطن مشيرةً إلى أنّها قد بادرت شخصيًا إلى زراعة الأشجار والبذور.

أما عن صعوبات العمل عن بُعد، فأهمها بالنسبة إليها معرفة متى يجدر التوقف عن العمل. فخلال العمل عن بعد، يكون من الصعب في بعض الأحيان معرفة أين ينتهي العمل ومتى يبدأ وقت الراحة. وكون المرء يعمل من منزله، قد يتوقع منه الآخرون أن يكون جاهزًا للقيام بالأعمال المنزلية أو الانخراط في محادثات طويلة حول أشياء لا علاقة لها بالعمل. من ناحية أخرى، يفترض شركاؤه في العمل أنّه جاهز لحضور الاجتماعات والرد على رسائل البريد الإلكتروني في أي وقت، ولهذا السبب من الضروري وضع الحدود الفاصلة بين العمل والراحة.

 

عمل عن قرب!

في رأيٍ داعمٍ لفكرة العمل عن بعد، يؤكد السيد جورج كيرللوس مدير واحدة من مجموعات الإبداع في شـركــة TBWA\RAAD\LEBANON أنّه من الخطأ اعتبار العمل من المنزل أو عبر الإنترنت عملًا عن بعد لا بل على العكس، هو عمل عن قرب، أي قرب من العائلة والأولاد وأيضًا من الموظّفين، فأبعد موظّف جغرافيًا هو تقنيًا على بعد نقرة من جهاز الكومبيوتر. ويضيف أنّه إذا كانت الجائحة بمثابة كارثة فمن المعروف أنّ الكارثة أو المصيبة تجمع، وبالتالي فهي عاملٌ إضافي يزيد من تقرّب الموظّفين من بعضهم البعض.

أمّا لجهة تحديات العمل من المنزل، فأبرزها بالنسبة إليه كان تنظيم الأمور داخل البيت، والمداورة بينه وبين زوجته التي تعمل أيضًا، على الاهتمام بابنهما ليو فرنشيسكو. وفي هذا الإطار يوضح أنّ «المنزل الواسع ساعدنا كثيرًا في هذه الظروف، بخاصةٍ أنّه لدينا غرفة مكتب».

وعلى صعيد إنتاجية العمل، يرى كيرللوس أنّه من المفاجئ أنّ عددًا كبيرًا من الموظّفين كان إنتاجهم أكبر وكذلك تركيزهم، مؤكدًا أنّ هذا الالتزام من قبل الموظّفين يشجّع على اعتماد العمل من المنزل كجزء من نمط عملنا ولكن بشكل معتدل ومدروس.