قضايا إقليمية

تراجع النفوذ الاميركي: تجليــــــاته وتداعياتـه على اسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

يقول دوف فايسغلاس، مدير ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، والذي كان المسؤول الأول عن تنسيق العلاقات بين تل أبيب وواشنطن في عهده، إن حرص الولايات المتحدة على رعاية المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، شكل أهم ذخر حيوي لإسرائيل. وأشار إلى أن الكثير من الدول وقياداتها، بصرف النظر عن تموضعها الجيوسياسي، كانت تحسب خطواتها وتبلور سياساتها تجاه تل أبيب بحذر شديد بسبب حساسيتها ازاء الموقف الأميركي، وخشيتها من ردة فعل واشنطن.
وكانت اسرائيل على مدى عقود من الزمن قد تمكنت من مراكمة نفوذها ومن التغلغل في كثير من المناطق في العالم، ولا سيما العالم العربي، بسبب هذا التحالف المقدس. وفي ضوء ذلك يؤكد مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو أفنيري، أن كثيرًا من الدول والقيادات البارزة كانت تتزلف لإسرائيل وتتعاون معها لأنها كانت تؤمن أن الطريق إلى قلوب الأميركيين يمر بتل أبيب. ورأى أن تواصل بروز مظاهر الضعف الأميركي لن يؤدي سوى إلى دفع الكثير من الدول والقيادات إلى إعادة تقييم علاقاتها بالكيان الصهيوني، ما يعني مزيدًا من التراجع في مكانة إسرائيل الدولية وتقليص قدرتها على توفير بدائل للتحالفات والمصالح التي خسرتها. وعلى الرغم من أن هناك اختلافًا بين النخب الإسرائيلية حول تقييم الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة وإضعاف دورها العالمي وبالتالي النتائج المترتبة عن ذلك، إلا أن عددًا لا بأس به من المعلقين الإسرائيليين يرى أن السياسات التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، قد أسهمت في إضعاف هذا الدور وتراجع مكانة واشنطن. وفي هذا السياق يتهم وزير التعليم الإسرائيلي الأسبق يوسي ساريد إسرائيل بالمسؤولية عن المس بهيبة الولايات المتحدة في المنطقة عبر تعمد قياداتها تحدي الإدارة الأميركية والتحرش بها، والتدليل للعالم أنه بالإمكان الحصول على دعم لا محدود منها وتحديها في الوقت نفسه. ويرى ساريد أن إسرائيل، ولا سيما في عهد نتنياهو، قد أحرجت الولايات المتحدة، ليس فقط عبر رفض الوفاء بمتطلبات تحقيق تسوية سياسية للصراع، بل أيضًا عبر مواصلة التهويد والاستيطان الفالت من عقاله، الأمر الذي تجلى في عجز واشنطن حتى عن إرغام السلطة الفلسطينية على عدم التوجه إلى الأمم المتحدة وطلب العضوية في الجمعية العامة فيها.
من ناحية اخرى يرصد المراقبون الإسرائيليون العديد من مظاهر ضعف الولايات المتحدة التي، بحسب اعتقادهم، باتت تغري العديد من الأطراف في منطقة الشرق الاوسط بالتمرد عليها ورفض وصايتها، مما ينذر بقيام تحولات جيوستراتيجية ذات تأثير خطيرعلى مصير الدولة العبرية. وعلى رأس هذه المظاهر: الانسحاب الأميركي من العراق وقرار إدارة أوباما الانسحاب من أفغانستان، وعجز واشنطن عن حماية الأنظمة المتحالفة معها بفعل الثورات الاجتماعية وانتفاضات التحول الديموقراطي في المنطقة العربية، وكذلك اضطرار الإدارة في واشنطن لإجراء حوارات رسمية متزلفة مع ممثلي الحركات الإسلامية التي صعدت للحكم أو التي هي في طريقها إليه، على الرغم من أن إسرائيل الرسمية قد عبرت بشكل واضح وصريح عن انزعاجها من هذه الحوارات التي اعتبرتها مضرة بالبيئة الاستراتيجية المحيطة بها.
ويرى الإسرائيليون أن الضربة التي تلقاها قادة العسكر في تركيا الموالون للغرب على يد حكومة أردوغان، من دون أن تتمكن واشنطن من التدخل للدفاع عنهم، هي مظهر آخر من مظاهر الضعف الأميركي (بالإضافة الى حالات كثيرة مماثلة). كما يدرك الإسرائيليون أيضاً أنه لا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي كمحدد لفهم تراجع الدور الأميركي في المنطقة، خصوصًا على ضوء ما تعانيه واشنطن من ازمة مالية خانقة ومن عجز في موازنتها وارتفاع الديون المترتبة عليها والتي وصلت إلى ارقام فلكية.
لقد اختارت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في عددها الأول من هذا العام أكثر من ثماني دول مهددة بسبب انحسار النفوذ العالمي الأميركي، ومن بينها إسرائيل ودول الشرق الاوسط عمومًا، وذلك بسبب العجز السياسي المتجلي في سقوط عشرات المبادرات والقرارات والمحاولات لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بشكل خاص والعربي الاسرائيلي بشكل عام، الامر الذي جعله صراعًا مزمنًا و«متقيّحًا»، وزاد من عداء غالبية أهالي المنطقة لإسرائيل واميركا معًا وكرهها لهما.
في المقابل هناك من يرى أن الضعف الأميركي سيحرم إسرائيل منجزات كبيرة حققتها بفعل المكانة الاميركية. وفي هذا المجال يقول الباحث في الشؤون الاستراتيجية إيتمار بن تسفي أن الولايات المتحدة التي ضغطت ونجحت في إضفاء شرعية على استثناء إسرائيل من التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، لا يمكنها ضمان بقاء هذا الواقع في المستقبل. كذلك أدّى التراجع الأميركي إلى المسّ بقوة الردع الإسرائيلية، وغرق إسرائيل في عزلة إقليمية خانقة وتقلّص هامش المناورة أمامها واضطرارها لأن تأخذ بعين الاعتبار ردة فعل الرأي العام العربي على اي عدوان قد ترتكبه بسبب او بغير سبب. من ناحية أخرى أدى التراجع الاميركي إلى تزايد التعقيد في القضية الفلسطينية واستفحال المظاهر العنصرية ضد فلسطينيي 48 بوتيرة متسارعة، حيث تم تشريع المزيد من القوانين العنصرية بحقّهم، ومن أبرزها: مراقبة تمويل الجمعيات الأهلية، وسحب المواطنة من المدانين منهم بتهم أمنية، ومصادرة مئات آلاف الدونمات الخاصة بالبدو العرب في النقب لمصلحة مشاريع استيطانية، وقانون منع لم شمل الفلسطينيين، وغيرها من القوانين والإجراءات العنصرية.
وعلى الصعيدين الداخلي والاقليمي، رأت المؤسسة الإسرائيلية أنه لا يوجد ثمة خيار بديل عن الاعتماد على النفس والعمل على تقوية القدرات الاستراتيجية الذاتية والتشديد على اعتبارعملية السلام بأنها غير مجدية، وبالتالي تكريس مفهوم عدم جدوى تقديم اي تنازلات للجانب الفلسطيني أو السوري، والتشبث بالأراضي المحتلة، لا سيما في غور الأردن وهضبة الجولان واعتبارهما امتيازات حيوية في الأمن القومي لا يمكن التنازل عنها في أي حال من الأحوال.
على الصعيد الدولي لجأت اسرائيل الى مجموعة من آليات التحرك، منها العمل على بناء شراكة إستراتيجية مع القوى الصاعدة وعلى وجه الخصوص روسيا والهند والصين، وتوسيع نطاق تحالفاتها مع دول البلقان كرد على تدهور علاقاتها مع تركيا. كما قامت بمحاولات حثيثة من اجل التوصل الى تفاهمات سرية مع الأطراف العربية التي تضررت من تراجع المكانة الاميركية وإقناعها بأن التقاء المصالح بينها وبين إسرائيل يمكن أن يشكل أساسًا للتعاون الإقليمي، ولا سيما في مجال كبح جماح الحركات الإسلامية الطامحة إلى تسلّم السلطة في أعقاب اندلاع الثورات العربية. فعلى سبيل المثال دعا «مركز أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي إلى توظيف جهد دولي لإقناع الدول العربية الغنية بعدم تقديم المساعدات للدول التي يصعد الإسلاميون فيها إلى الحكم، وتركها تتخبط في ازماتها الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة لكي تتحول إلى دول فاشلة. ومن نافل القول إن الإسرائيليين ينطلقون في مساعيهم التخريبية هذه من افتراض مفاده أن هناك رغبة مشتركة بين إسرائيل وبعض الدول العربية في محاصرة النفوذ الإيراني او القضاء عليه في المنطقة.